المجتمع البشري تتشكل بنيته الأساسية من أفراد وفئات وجماهير ذات مستويات ومشارب متعددة ترتبط فيما بينها بجملة من الروابط والعلاقات المتشابكة، وتسعى المجتمعات بواسطة الروابط لتحقيق مصالح متعددة واحتياجات مشتركة، ويتميز المجتمع البشري بالقدرة الكبيرة على التغير والتطور والإنتظام بمرور الزمان، والانتقال من وضعية لأخرى عبر فترات زمنية طويلة وذلك من خلال جهود المؤسسات والجماعات المنطوية تحت لواءه بحيث تسعى لإحداث طفرات هائلة وتغيرات جذرية في هيئاته الإجتماعية ومساراته التنظيمية.
تعريفنا سلفا للمجتمع يقود إلى التمييز بين مفهومي المجتمع الفاسد والمجتمع الفاضل، حيث يكثر الحديث عن فساد وفضيلة المجتمعات في الشرق والغرب، وتتناول أدبيات المفكريين والمثقفين علامات فساد هذا المجتمع أو دلالات صلاح ذاك المجتمع، والمجتمع الفاضل إن وجد فهو مرحلة متقدمة للوصول إلى التطبيق الكلي للقيم الأخلاقية والمبادئ العليا التي أقرتها الأديان السماوية، وهو بمثابة البيئة التي تأخذ بمناهج المصلحيين وتتكاتف فيها الجهود من قبل جميع العناصر والمكونات والفئات بإتجاه تنفيذ الأوامر الإلهية والأخلاقيات الرفيعة.
أما المجتمع الفاسد إن وجد فهو مرحلة آخرى لإنحدار القيم والأخلاقيات بحيث تشير مجموعة من الظواهر والمؤشرات على زيادة حجم الفساد الاخلاقي والإنحطاط القيمي والذي يرتبط بعوامل متباينة يأتي على رأسها الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والظلم الاجتماعي، بالإضافة إلى تنافر المصالح وكـثرة الضغوط الخارجية وحدوث فجوة كبيرة في علاقة المجتمع بالدولة، فيسفر عن ذلك بمرور الوقت تصدع البنى الداخلية للمجتمع مما يجعله ضعيفا في مواجهة أخطار قادمة ستحول بينه وبين المحافظة على ما تبقى لديه من قيم ومبادئ وروابط.
ولا يصح إطلاق هذه التسمية أو تلك على أيا من المجتمعات الحالية، ولكن يوجد ما يمكن تسميته بالمجتمع المحافظ أو المجتمع المنفتح، والمجتمع في وقتنا الحاضر تنبثق من تصرفات أفراده وجماعاته مجموعة من الدلائل والعلامات والظواهر التي تشير إنه بإتجاه أن يصبح مجتمع فاسد أو مجتمع فاضل، بحيث إن نسبتي الفساد والفضيلة تختلافان من مجتمع لآخر، ويتباين وعي الجماهير والأفراد بحالات الانحطاط والرقي التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك.
والحديث عن المجتمع يبدو ناقصا إذا لم يتم التطرق لمفهوم الدولة وأهمية وجودها في وقتنا الحاضر، فالدولة منظومة شمولية تتألف من عدة عناصر ومكونات أساسية وهي الحكومة والشعب والإقليم، والدولة هي منظومة الحكم التي تملك سلطة تشكيل المؤسسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في تلك المنطقة الجغرافية من العالم، وهي مكلفة بطبيعة الحال بتحقيق مصالح عليا وأهداف كبرى وذلك إلتزاما بالمبادئ والقيم المستمدة من القانون أو التشريع أو الدستور، وفي واقع اليوم فإن الدول تتنوع في أشكالها وأحجامها ووظائفها وأدوارها المختلفة، كما إن الحكومة في كل بلد هي الوسيلة التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها الحقيقية.
إذا هناك علاقة بين الدولة والمجتمع وهي علاقة قوية عند دراسة أوضاع الدولة وظروف المجتمع؛ لأن جل العناصر البشرية المكونة لأنظمة وأجهزة الدولة قادمة من مختلف طبقات وشرائح المجتمع، والمجتمع هو الحاضن والمستقبل لمشاريع ومخططات وسياسات الدولة، فالعلاقة بين الطرفين علاقة متشابكة وكلاهما يعتمد على الآخر.
والتأثير متبادل بيت الطرفين بحيث إن المجتمع يؤثر على الدولة والدولة أيضا تأثر على المجتمع، فالدولة من جانب لا تستطيع فرض قوانينها ومشاريعها بهذه السهولة وهي تتعارض مع قيم وعادات المجتمع، ولن تتمكن من تطبيق برامجها سواء كانت ذات أهدف إصلاحية أو إستبدادية خلال فترة قصيرة بدون الأخذ بالاعتبار بطبيعة المجتمع والبنية المكونة له وكمية الأفكار والمعتقدات التي يتمسك بها المجتمع، فكل ذلك يحتاج لعمليات تهيئة وخطط فعالة، فعلى سبيل المثال هل كان سهلا نقل المجتمع الخليجي من بيئة الانغلاق والبداوة وأنماط الحياة البسيطة إلى مستويات التطور الهائل في مجالات الاقتصاد والتعليم والسياسة؟ وهل تقبل المجتمع كل ما جاءت به طفرة النفط؟ وهل كان سهلا التخلص من بعض العادات البالية في مجتمعات ترتبط إرتباطا وثيقا بالماضي بكل ما يحمله من عادات وتقاليد متعددة؟
وعلى الضفة الأخرى فإن المجتمع قد يفرض كلمته وتتماسك أجزاء كبيرة من شرائحه لمواجهة مشاريع مطبوخة في بعض دوائر ومراكز الدولة، قد تستهدف المبادئ العليا والمعتقدات الراسخة في المجتمع وربما يؤدي تشدد الطرفين والرفض المتكرر إلى ظهور حالات الاصطدام بين الجماهير وأعوان الدولة، فالنظام الذي يخطط مثلا لتنفيذ استراتيجية كبيرة تتعلق بفصل الدين عن الدولة وعن الممارسات العامة في المجتمع سيصطدم بالكثير من العقبات والمعوقات والحصون المنيعة، ولن يستطيع ترويض الأفراد والجماعات خلال فترة بسيطة لقبول هذا المشروع، وهو يحاول الوصول إلى نسبة كبيرة من الأفراد في ظل مجتمع يشكل فيه الدين دورا مهما في تكوين عاداته وقيمه ومبادئه وروابطه الاجتماعية، وذلك الصراع المتوقع حدوثه بين الدولة والمجتمع سينتج عنه بعد مدة انتصار المجتمع وتشبثه بدينه، وقد يفشل النظام وتتراجع مخططاته للخلف وتضعف أجهزته بكل ما تتمتع به من وسائل صارمة وحيل خبيثة.
وترابط العلاقة بين المكونين لأي وطن: المجتمع والدولة يفرض أيضا تشاركهما في عمليات التغيير والإصلاح والتطوير التي قد تشمل جوانب محددة أو قد تطال جهات ومؤسسات كبرى في البلد، وتلك العمليات قد تنبع من عدة مصادر أهمها وجود ضرورات سياسية ومستجدات اقتصادية ومطالب مجتمعية تفرض نفسها بقوة لتجعل من الإصلاح بكامل أشكاله مطلبا ملحا للمجتمعات والدول، لذا فإن الإصلاح حاجة ضرورية في حياة المجتمعات والدول ومؤشر قوي لوجود مجتمع حي ودولة تمتلك إدوات التغيير وإرادة التطوير، فبعض الدول والمجتمعات تعيش حالات من التنمية في جوانب التعليم والاقتصاد وتتشارك الموارد الاجتماعية والمواهب الفردية والعلاقات الاجتماعية في هذه العملية، وتتفاعل معها المؤسسات الرسمية والجهات الحكومية وشبكات العلاقات غير الرسمية، وهنا يتفاعل دور الدولة ودور المجتمع وتتضح قدراتهما في عمليات التنمية.
والإصلاح المنشود في المجتمع والدولة عبارة عن عملية متواصلة واستراتيجية شاملة على فترات متباعدة وطويلة تمتد لكل الجوانب والأماكن ولا تقتصر على مجال دون آخر، وهي جملة من الإجراءات والقرارات والقوانين والسياسات التي تهدف بالأساس لخلق بيئة آخرى توفر كل ما هو جديد في المجالات السياسية والتشريعية والقانونية والدستورية، كما إن الإصلاح الذي يعتبر في الأصل شراكة بين عدة جهات ومؤسسات يمهد لظهور ظواهر صحية جديدة كحرية التعبير والتعددية ونزاهة الانتخابات والجدية في محاربة الفساد وتعميم مبدأ تكافؤ الفرص ونشر مفهوم عصرنة المؤسسات، بل يساعد في بروز مفهوم التنمية المستدامة بحلة جديدة بحيث يتعزز دور التعليم وتتعاظم الخطط الاقتصادية ويتعمق دور القطاعات الصناعية والتكنولوجية ويتنامى دور الفرد والمواطن سواء اكان رجل أو إمرأة في هذه العملية الحساسة.
ولكن هذا الإصلاح لابد أن يكون ذا طابع تراكمي وتدريجي بل له جذور متأصلة ومصادر رئيسة في أركان الدولة وخلايا المجتمع، بحيث يبنى بالأساس على قواعد صحيحة ومنطلقات سليمة حتى يحقق أهدافه المنشودة فينقل المجتمع والدولة من حال إلى حال، فما هي جذور الإصلاح وما هي منطلقات التغيير؟
جذور الإصلاح تكمن في خطوات التغيير الجادة التي تبدأ من أعلى سلطة في الدولة والمجتمع، خصوصا في مكونات النظام الذي يحكم العلاقات الدائرة في الدولة والمجتمع معا، وعند ذلك سيتمهد الطريق الوعر وستبدأ أولى مراحل التغير المطلوب.
فالنظام هو قائد مسيرة الإصلاح في أي وطن وحتى يمتلك صفات وخصائص القيادة فيجب عليه أولا أن يتمتع بالاستقلال السياسي الذي يتمثل في تأكيد حرية الإرادة السياسية من إمكانية وجود املاءات خارجية بالإضافة إلى قدراته الفذة في التعامل مع كافة الضغوط بحكمة وعقلانية، ومن ثم لابد أن يمتلك الرغبة الحقيقية للإصلاح والتغيير الداخلي الذي سيؤدي بمرور الزمن إلى بروز مرحلة الوعي بحجم الخلل الواقع في علاقة الدولة بالمجتمع، وهذا يؤكد أن من هم في النظام في هذه الحالة على درجة متقدمة من الإدراك والانفتاح والفهم الصحيح لما يطلق عليه بالدولة العصرية.
والإصلاح المنوط بالنظام يتطلب في مرحلة لاحقة البدء بإجراءات كثيرة لاصلاح أجهزة الدولة من الداخل كتحديث الإدارة وتعديل الدستور وإعادة النظر في عمليات اتخاذ القرار وتحديد أدوار المؤسسات الرسمية وإقامة التوازنات بين مختلف السلطات، كما أن تطويرالإدارة يحتم تغليب المصلحة العامة لا المصلحة الفردية، فكما هو واضح اليوم فإن تغليب المصالح الشخصية في أجهزة الدول يترتب عليه ضعف المسئولية السياسية والإدارية وبروز فجوة في عمليات نقل الخبرات بين أجيال قادة أجهزة الدولة واستبعاد الكفاءات وذوي النزاهة من تقلد المواقع العمومية، وتراجع مبدأ تكافؤ الفرص مما يساعد في تدهور أداء أجهزة الدولة وعدم جدية برامج التدريب والتعليم وتخلف الفكر الإداري وضعف الطابع المؤسسي في إدارة الدولة لصالح أمور شخصية ومنافع ذاتية، لذا فكل ما سبق يحتاج من النظام عمليات إصلاح جادة وخطط تغيير فاعلة عبر فترات زمنية غير محددة لابد أن يقودها أشخاص مؤمنين بعملية الإصلاح والتغيير والسيرنحو الأفضل.
ثانيا: يأتي الحديث عن الخطوة التالية في عملية الإصلاح والتي تتطلب إعادة نظر جذرية و متأنية في علاقة الدولة بالمجتمع، ومعرفة مطالب المجتمع وحاجات أفراده التي يتم اكتشافها من خلال فتح حوار وطني منظم وواسع وعميق يهدف للمكاشفة ومعرفة مواطن الخلل ونقاط الضعف وتحديد الظواهر الشاذة وإدراك الأمراض التي تنخر خلايا المجتمع وأجهزة الدولة وتحديد المسؤوليات وتوزيع الواجبات.
من ثم كل ما سبق سيضمن بلورة عقد اجتماعي وسياسي جديد سيؤدي لجملة من الأمور الإصلاحية، تكون أولى بوادرها إفساح المجال للمشاركة الشعبية على الصعيدين السياسي والتنموي فيكون أفراد المجتمع عند ذلك أكثر قربا من الدولة ووعيا في التعامل معها وتحسسا بالقضايا المصيرية، بالإضافة إلى بروز قضية الهوية المدنية والتي لا تلغى الهويات الفرعية مع التذكير بأهمية التعاطي الإيجابي مع العلم والبحث العلمي والتكنولوجي والاستقلال الاقتصادي الذي يسعى لتوفير إمكانات التنمية الاقتصادية المعتمدة على الذات الوطنية.
كل ما سبق يمهد نحو تكامل أدوار الحكومة والمؤسسات الرسمية والجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب لنصل إلى تفعيل وجود المجتمع المدني الذي ينفخ الحس الطبيعي للإنسان، لتحوله من حس أهلي إلى حس مدني يدرك ذاته ويعي موقعه في مجتمعه وواجباته وحقوقه ودوره المهم في بناء الوطن.بهذه الاعتبارات وبتلك الإجراءات ستزداد اللحمة الوطنية وتصبح علاقات المواطن بالدولة علاقات قائمة على الثقة والتكامل والتعاضد والسعي نحو تحقيق مصالح الوطن المشتركة.
هذا يوصلنا إلى حقيقة أن الدولة وخصوصا النظام المكون لها هو صاحب القيادة في إحداث التغيير والتطوير ونقل الوطن من حال لحال آخر، وقياداته لن تتمكن بمفردها بطبيعة الحال من اشعال الحراك السياسي والثقافي والاقتصادي في الوطن بدون الرجوع لشرائح وفئات المجتمع المختلفة.
إما عندما يتخاذل النظام عن إحداث التغيير والإصلاح ويسكت عن كل ما هو سيئ ويصر على السيطرة على كل ما هو في الوطن بيدا من حديد فإن الهوة بين الدولة والمجتمع ستزداد، ولابد ان يأتي يوما سيدفع النظام الثمن وتضطره الظروف للتغيير وربما ينشئ تغيير جذري في الهيكل التنظيمي للدولة متمثلا في ظهور قيادات ومصلحون جدد يرغبون في إحداث طفرة في الوطن وتنفيذ اجراءات تخلص المجتمع والدولة من الكثير من الاسقام والامراض والظواهر السلبية، اما المجتمع فقد يقع في هذه الحالة في وضعية المستقبل أو المساند لكل هذه التحولات .