يغفل البعض أن كثيرا من النواهي الشرعية لم تأتِ بحد ذاتها، إنما هي مثال على مقصد أعم وحكمة أكبر، وأنه علينا كمسلمين أن نفكر فيها ونتفكر لنصل إلى المقصد والحكمة والعلة وإلا تحولنا إلى آلات فقدت بوصلتها، فصارت تطبق كل شيء حَرفيا. ونكون بهذا أغفلنا عبادة وفريضة محورية ألا وهي التفكّر.
من أهم الأمور التي يمكن من خلالها أن نفهم مقاصد الشريعة هي أحكام اللباس والشكل في الإسلام، وهي أكثر ما يستفتي فيه الناس، ومن أسباب كثرة الاستفتاء فيها هو ورود قضايا معاصرة لا يعلمون كيف يقيسونها، وهنا يجب أن يبحث أهل العلم عن المقصد العام لينزلوه على الحالات الزمانية والمكانية المتغيرة. وبالمثال يتضح المقال.
(1)
"حين جاء أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله و رأى رأسه كأنها الثغامة بياضا قال: غيروا هذا أي الشيب و جنبوه السواد" (حديث صحيح)
هنا، نجد أن الأمر الشرعي هو بتغيير الشيب مع تجنب اللون الأسود، وإذا لم نفكر في المقصد ونتفكر فيه، سنظن أن النهي هو عن اللون الأسود لعلةٍ فيه، بينما وبعد التفكّر نجد أن سبب النهي هو أن لون شعر الرجل المعني بالأمر أسود، وبالتالي النهي ليس عن السواد بحد ذاته، بل عن صبغ الشيب بلون بقية الشعر غير المشيب.
ولو كان الرجل المستفتي هو مثلا صهيب الرومي -رضي الله عنه- الذي كان أحمر الشعر لكان الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- لكان قال غيروا الشيب وجنبوه الحُمرة. فالمقصد الشرعي هنا هو عدم تدليس الشيب، وليست لمشكلة في اللون الأسود بحد ذاته.
(2)
ومثل ذلك النهي عن التفلُّج وهو إحداث فتحات بين الأسنان، إذ ورد في الحديث الصحيح أنه من بين الملعونات "المتفلجات للحُسن، المغيرات خلق الله". وهذا مثال جدير بالتأمل؛ إذ أننا في يومنا هذا نعتبر وجود فراغات بين الأسنان شيئا غير لطيف، وفي مجموعة من الدول العربية يتشاءمون من ذلك ويقولون عن "عيونه زرق، وأسنانه فرق" في إشارة للشخص الذي يصيب بالعين، بينما وفي عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان تفرق الأسنان شيئا جميلا، وكانت النساء يفعلن ذلك لأنهن يظهرن بمظهر أقرب إلى مظهر الطفلات!
بل أننا نجد أن عكس التفلج في زماننا هو المطلوب، إذ تعمد النسوة (والرجال أيضا) إلى سد الفرج بين أسنانهم إما بالتقويم المعروف وإما بوسائل التمويه (الـ Veneers أو التلبيسات التجميلية المستخدمة للتجميل، وليس للعلاج كما في حال التلبسية التي تستخدم بعد علاج عصب السن). وبالتالي، أرى أن سد الفلجات بين الأسنان حكمه حكم التفلج رغم أنهما متعاكسان! لأن المقصد هو عدم جواز تغيير خلقة الله للأسنان بغرض التجمل، وليس التفلج بحد ذاته. وهذا مثال رائع يبين لنا كيف أنه بفهم المقاصد نجد أن أمرا وعكسه يمكن أن يكونا محرمّين، كل منهما وفقا لظروف الزمان والمكان والثقافة.
أما طبعا لو كانت الأسنان تعيق الكلام أو المضغ أو التنفس أو تكون مشوّهة بشكل فائق للعادة، فتغييرها هنا مطلوب بل وربما واجب. وفي السياق ذاته، ورد في الحديث الصحيح أيضا عدم جواز الوشر (وهو برد الأسنان) لقول النبي صلى الله عليه وسلم "والواشرة والمستوشرة"، وعلى هذا يُقاس كل تغيير لشكل الأسنان بغرض التجمّل. ولا أعرف كيف يجوّز البعض تقويم الأسنان للتجمل، ولا أعرف أيضا كيف يجيزون كريستالة الأسنان الثابتة رغم أنها تلصق بصمغ يدوم أسابيع وشهورا وتمنع بالتالي ماء الوضوء عن المكان الملصوقة عليه!
تنويه وتنبيه وتصريح:
أرجو ألا يغضب المتخصصون في طب الأسنان التجميلي مني، وأرجو ألا يغضب كل من أجروا تقويما لأسنانهم، فالأمر ليس شخصيا أبدا، وقد يظن البعض ممن يعرفوني شخصيا أني حاقدة عليهم بسبب أسناني المعوجة، وأني لأطمئنهم أن السبب الذي منعني طوال هذه السنوات من تقويمها هو الخوف من الألم، أما وجهة النظر هذه فقد توصلت إليها منذ فترة فقط. فلا تحقدوا علي رجاء. :)
(3)
نأتي للوشم، واللعن الذي في الحديث ورد موجها إلى النساء "لعن الله الواشمة والمستوشمة" لكن هذا لا يعني تخصيص النساء بذلك، فكذلك قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور، الآية 4)، فرمي المحصن جزاؤه مثل جزاء رمي المحصنة، وقد خصصت المرأة بالأمر لأنه أشيع وأكثر. فالمذكور هو مثال، بينما المقصد هو العموم. وهذا مثال رائع يبين لنا أن تخصيص جنس معين في الحديث والآية لا يعني حكما مبرما بأن الأمر لا يشمل الجنس الآخر إذا تغيرت الظروف، فلنقل إذا أن العبرة يمكن أن تكون بعموم المنفعة لا بخصوص اللفظ!
(4)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال". (حديث صحيح)
وهذا أمر عام ومقصد يُنزَّل وفقا لكل عصر. فهي أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كان من المقبول أن يطيل الرجل شعره بل ويضفره، وجاء في الحديث "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة" والعقيصة ضفيرة تدخل في بعضها، أي تربط وتصفف على شكل "كعكة" بمصطلحاتنا المحلية! وكان هذا مقبولا ولم ينكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أما لو ظهر أمامكم ذو عقيصة أو عقيصتين في يومنا هذا، فلا أظن أن ردة فعلكم ستكون هادئة.
وهذا دليل على أن المقصد والحكمة الكبرى هي عدم التشبه بالجنس الآخر، ورغم أن العقيصة من شؤون النساء إلا أن الرجال آنذلك كانوا يعملونها وكان أمرا مقبولا فدخلت في حكم الجواز لأنها لم تخالف المقصد، وكذلك الأمر اليوم إذ أنها قد تدخل في حكم غير الجائز لأنها أخلت بالمقصد العام، وهذا راجع لظروف كل ثقافة وكل بلد. ومن هنا لا يُستنكر على رجال اسكتلندا لبس التنورة أو ما يسمونها بالـ (kilt) في بلادهم، رغم أنها زي محصور على النساء في غالب الدول، فالأمر مقبول لديهم ولا يُفعل بغرض التشبه بالنساء، وعلى هذا يجب أن تقاس الأمور. وأظن أن هذا يفتح لنا بابا وسيعا لننظر إلى فقه اللباس، وخاصة بين الشعوب بمنظار أوسع وأكثر سماحة.
(5)
نأتي أيضا للإسبال، وكنت لا أود التدخل في القضية لأنها شائكة أولا، ولأنها لا تعنيني بل تعني الإخوة الرجال، لكن سأطرح وجهة نظري وآمل منكم التفاعل والتصويب.
جاء في الحديث: "إزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج أو قال لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة". (حديث صحيح)
طبعا حرمة الإسبال خيلاءً أمر مفروغ منه، أما الإسبال بغير خيلاء فيه أقوال لأهل العلم، وهو أمر لا يهمني في هذه المقالة (وأن كنت أرى شخصيا أن تقصير الثوب سنتمترين لن يميت صاحبه بردا في جونا الجميل! لكن هذا ليس موضوعنا)، بل ما يهمني هو "الخيلاء" وكيف نستنتج منها المقصد أو الحكمة ليس فقط على الثوب أو "الدشداشة" بل على أنواع الملبوسات الأخرى أيضا.
في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- كان تطويل الثوب دليل على التبطر والغرور، فالأرض رملية وأحيانا طينية، ولا يغامر بتطويل ثوبه إلا رجل يقول للناس ضمنا أن أمر توسخ ثيابه لا يهمه لشده تبطره، وكانت الثياب آنذاك شيئا نفيسا، تحاك خيطا خيطا وليس كما في زماننا هذا. ولهذا كان الإسبال وجر الثوب يعد رسالة يرسلها الفاعل إلى المجتمع بأنه متميز ومختلف عنهم وأنه يتوقع مكانة ونظرة خاصة.
أما في يومنا هذا، فلنأخذ "البرمودا" على سبيل المثال، فهي من ناحية الطول تتفق تماما مع الشروط الشرعية، لكن كم ممن يرتدون "البرمودا" مثلا يرتدونها تشبها بفلان المطرب أو الممثل، ويلبسونها ليتخايلوا بها أمام الناس ويختالوا؟ مربط الفرس هنا هو في النية، هل وقع الشخص في محظور الخيلاء أم لا.
ذات يوم، رأيت شابا مفتول العضلات وقد شمر كمي قميصه حتى الكتفين تقريبا، وفتح غطاء سيارته العلوي، كل هذا ونحن في عز الشتاء! ووقف عند الإشارة يتلفّت ويطمئن هل هناك من ينظر إليه. هنالك صرخت في قلبي: هذا ممن كان يقصدهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث. هذا لم يسبل ثوبه، لكنه رفع كميه خيلاء، فتعاكس المظهر، لكن اتفق الحكم الشرعي لاتفاق النية.
(6)
بالمناسبة، لماذا تصر بعض النسوة أن الرموش الاصطناعية حلال رغم أني أراها لا تختلف من حيث المبدأ عن الشعر المستعار؟ ألا تعد نوعا من الوصل وإن لم ترد في الحديث؟ أظن أن هناك أمورا كثيرا لا يُلتفت إليها؛ كثير من المحرمات تؤتى، وكثير من المباحات تحرّم بسبب الغفلة عن المقاصد.
آمل وأدعو أن لا أكون قد ضيقت واسعا، ولا وسعت ضيقا، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. والله أعلم وأجل، والله من وراء القصد، والله من وراء المقاصد.