فُجعت الأمة الإسلامية والمنطقة العربية برحيل «محمد عابد الجابري» المفكر والفيلسوف والمجدد والأستاذ، الذي خسرت الأمة بفقده أحد كبار علمائها الأفذاذ، والذي لم تحظَ الأمة بمثله منذ مئتي عام، والذي ستبقى كتبه وبحوثه وتأملاته حيّة تمنح الأمة الكثير والكثير من التأمل والتفكر والبحث والعمل المضني للاستفادة منها في مجال إحياء العقل العربي المعاصر، واستعادته القدرة الإنسانية اللائقة لبناء حياة شريفة حرة كريمة للإنسان في هذه المنطقة.
لو لم يكن للجابري من فضل إلا سلسلة كتبه عن العقل العربي لكفته، ولو لم يكن له من مكرمة إلا اعتذاره عن معظم الجوائز التي مُنحت له والمناصب التي عُرضت عليه خلال سنوات جهاده الطويلة الزاخرة لكفته، لقد اعتذر عن عدم استلام تلك الجوائز ومعها مئات الآلاف من الدولارات ليعيش كفافاً، رجل علم ومعرفة وبحث، في بيته المتواضع، بين كتبه و «كمبيوتره» وتلك الأسلاك التي تمتد على جدران البيت، و «اللمبات» –البلورات الكهربائية– التي تزين بالنور المتواضع جوانبه، ذلك كان بيت عالم، بيت رجل عصامي عفيف، ضرب من نفسه أروع الأمثلة الحية على التقدم في مجالات الإبداع رغم الفقر والبساطة والتواضع على المستوى الشخصي، والانحطاط والهزيمة والهوان الذي تعيشه الأمة من حوله.
لا نعرف الكثير أو القليل عن حياة «محمد الجابري» الشخصية، ولعلنا في أمسِّ الحاجة اليوم إلى معرفة تفاصيل حياته اليومية كإنسان وزوج وأب وابن، وكأستاذ ومفكر وبحاثة وفيلسوف وقائد ثم مناضل سياسي معارض، وكمجدد صاحب مشروع حضاري حقيقي يتمثل في البحث عن مواطن الخلل في طريقة تفكيرنا في المنطقة العربية، وفي طريقة رؤيتنا للأمور والأشياء من حولنا، لقد عاش الجابري في القرن العشرين الذي كان قرن وهن وارتكاس وقحط بالنسبة للمسلمين وللمنطقة العربية، وحمل هذا الهمّ الكبير كمفكر ومثقف أولاً، وكأستاذ لطلبة الصف الأول الابتدائي ثانيا، ثم ليصبح أحد ألمع وأهم أساتذة الجامعات العربية على الإطلاق، الجامعات المغربية، تلك التي تخرج لنا من دون انقطاع أجيالا من البحاثة والمفكرين والفلاسفة من الطراز الذي يصعب أن نجده في أي من بلدان المنطقة، اللهم إلا بعض ما كانت تخرجه لنا جامعات العراق من كبار الفلاسفة والمفكرين، إلا أن شيئا تختص به الجامعات المغربية يجعل منها محضنا لمثل هذه الشريحة من الرجال، الذين وجدنا فيهم خلال هذا القرن رجلاً أمّة في قامة «محمد عابد الجابري»، الذي كان صاحب مشروع، صاحب رسالة، صاحب قضية مصيرية، خلّف للأمة إرثا لا يقدر بثمن، يحتاج من المختصين الذين من بعده أن يفندوه ويدرسوه ويبحثوا فيه لاستخراج الوسائل الفكرية الأنجع لخروج المنطقة العربية من عنق الزجاجة الذي تختنق فيه منذ ثلاثمئة عام.
لم يقم الجابري –يرحمه الله– بتوصيف الهمّ كما نفعل نحن الأدباء والصحافيين لوضع اليد على موضع الألم ومعرفة الأعراض، ولم يقم بوصف العلاج كما يفعل الأطباء الناجحون لمساعدة المريض على الشفاء، ولكنه قدم عرضا وافيا وشافيا لحالة العجز التي تلبَسَ بها المريض والتي تمنعه من تناول الدواء أوالاستفادة منه! يقول الجابري في مقدمة كتابه «نحن والتراث»: (الهدف هو إثارة الانتباه إلى أن القضية المنهجية الأولى التي تواجه الفكر العربي المعاصر في محاولته إيجاد طريقة «ملائمة» للتعامل مع تراثه، ليست الاختيار بين هذا المنهج أو ذاك من المناهج الجاهزة، بل فحص العملية الذهنية التي سيتم بواسطتها ومن خلالها تطبيق المنهج، أي منهج، المسألة الأساسية هي نقد العقل لا استخدام العقل بهذه الطريقة أو تلك).. ويقول في معرض تفنيده لفلسفة ابن خلدون: (لقد أدرك ابن خلدون، بوعي عميق، أن الحاجة في عصره تدعو، لا إلى خطاب في «الإمكان العقلي المطلق»، بل إلى خطاب في «الإمكان الواقعي»). ولعل هذا بالضبط هو مكان الثغرة الخطيرة التي ابتليت بها الخطابات التجديدية المعاصرة في المنطقة العربية، تستوي في ذلك الإسلامية منها والعلمانية والماركسية وغيرها.
إذا راجعنا كتاب «إعادة تشكيل العقل المسلم» للدكتور العراقي «عماد الدين خليل» أحد معاصري الجابري من الإسلاميين، نجده يطرح أسئلة خطيرة: (ما الذي أصاب العقل المسلم اليوم فصده عن المضي في الدرب إلى غايته؟ كيف ضربه العقم بعد التوهج؟ ما طريق الخلاص؟)، ثم يقول: (إنه ليس بمقدور قوة في الأرض اليوم أن تبعث المسلمين من جديد للفعل الحضاري ما لم تتهيأ الشروط والمواصفات نفسها، وما لم تتحقق بالتحولات الحاسمة ذاتها عقيديا ومعرفيا ومنهجيا)، لقد قرر «عماد الدين خليل» بهذه العبارة الجواب سلفاً عن الأسئلة التي طرحها في كتابه الذي كان من أوله إلى آخره شرحا علميا تحليليا وافيا لهذه العبارة، هذا الكتاب الذي لا تكاد تخلو منه مكتبة إسلامية، ولكن ورغم ذلك فإن الإسلاميين الذين يقتنون هذا الكتاب وربما يحفظونه عن ظهر قلب لم يستطيعوا أن يعيدوا تشكيل عقولهم، ولا حتى تعديل قدراتها، ويظهر ذلك في الجيل اللاحق من أبنائهم ومعظم تلامذتهم الذين شبوا على نفس المطبات الفكرية العويصة التي تحول دون قدرة الإسلام اليوم على صناعة الإنسان المسلم المختلف عمَّا نراه اليوم في حياتنا ومجتمعاتنا!!
لقد قدم كتاب «عماد الدين خليل» توصيفا رائعا للدواء: خصائصه، تركيبه، نتائج المعالجة به، وكان عنوان كتابه منهجاً وحده!! لقد طرح هذا العنوان عليَّ منذ أيام الصبا الأولى إشكالية عميقة، وبقي في ذهني هدفا واضحا في طريق التغيير على المستوى الشخصي والأسري والجماعي، ولكن محتوى الكتاب لم يفعل لي الكثير، غير أنه عمَّق قناعتي بأن الطريق يمر عبر الإسلام، ولكن ليس بالطريقة التي طرحها الإسلاميون اليوم من أن «الإسلام هو الحل»!
الجواب كان لدى الجابري: كيف يمكننا أن نغير طرق تفكيرنا لننهض بكون الإسلام هو الحل في العصر الحالي؟ هذا هو الدور الريادي الاستثنائي الذي يقدمه ويطرحه مشروع الجابري لهذه الأمة، والذي يمكن أن يتلخص في قوله في نفس مقدمة «نحن والتراث»: (كيف نستعيد مجد حضارتنا؟ كيف نحيي تراثنا؟ مشروع ثورة لم تتحقق بعد، ومشروع تراث سيعاد بناؤه بالشكل الذي يجعله يقوم بدوره في همز الثورة وتأصيلها.. إنما يهمنا من كل هذه القراءات والبحوث هو طريقة التفكير التي تنتجها).
إن القراءات السلفية العربية للتراث بكل أشكالها الإسلامية واليسارية والعقلانية والليبرالية لم تقم حتى اليوم إلا (بالبرهنة على صحة مناهجها) –كما يقول الجابري– ولم تحدثنا عن طريقة تطبيق هذا المنهج أو ذاك، وإن ما يجمع بينها هو (طريقة التفكير التي تعتمدها، ووقوعها تحت طائلة آفتين: آفة في المنهج، وآفة في الرؤية).
بناء على هذه القناعات التاريخية أخضع الجابري العقل العربي المعاصر لمشرط النقد –كما يقول عثمان تزغارت في موقعه الإلكتروني- فكك تركيبته، وساءل مرجعياته، وخلخل يقينياته ومسلماته الدينية والفكرية والأخلاقية، وجاءنا باسم المرض الذي يعانيه العقل العربي اليوم بدقة مذهلة «العقل المستقيل» الذي (يخشى الخوض في النقاشات الحضارية الكبرى، والذي يحتاج إلى إعادة ابتكار وليس إلى إصلاح أو تجديد)، وأكد أنه (لا نهضة فكرية ممكنة من دون تحصيل آلة إنتاجها وهي العقل الناهض).
إننا نجد في الخطاب الصحافي والإعلامي المعاصر الناطق بالعربية وعلى اختلاف مشاربه وتوجهاته اليوم، استعمالا مكثَّفا لهذا التوصيف ولكن بمرادفات أخرى، وأساليب متفاوتة، العمل الهائل والتاريخي الذي قام به الجابري كان وضع منهج علمي يقوم على التحليل والمعاينة للإجابة عن تساؤلات أمة تتخبط في البحث عن مخرج، وهي تخلط بين التراث والمناهج الضرورية لفهم التراث بصورة ملائمة، ويحضرني هنا كلمة بالغة الأهمية للأستاذ عصام العطار القيادي والمربي والسياسي السوري المعاصر لعابد الجابري إذ يقول: «التغيير يجب أن يبدأ في أنفسنا حتى نكون على مستوى إسلامنا وأمتنا وعصرنا». ولعل هذه الكلمة تترجم ببساطة ما قام به الجابري من عمل أكاديمي فريد من نوعه، خلفه لنا إرثا يحتاج من الكثيرين للتشمير والجد والجهاد لتحويله إلى مناهج عمل مستقبلية تطرح على أجهزة التربية والتعليم في المنطقة العربية، التي وضع بعض أبنائها أعمال الجابري في مصاف «الآيات الشيطانية» دون بحث ولا تدقيق ووقعوا في المطب «السلفي» المعروف؛ تكفير الناس وتحقيرها، ورفض جملة أعمالهم بسبب خطأ أو لبس أو ربما زلة خطيرة وقع فيها صاحبها لا تخرجه بحال من الأحوال من الملة، ولا تجعلنا نضرب صفحا عن مشروعه الضخم الذي نحن اليوم بأمس الحاجة إليه وعلى كل صعيد.
رحم الله الجابري وتجاوز عنه وشمله بعفوه وجزاه عن الأمة كل خير.
وللحديث صلة.