يعلن السلطان العثماني عبد المجيد الحرب على روسيا عام 1853 ويعطي العالم درساً في الأخلاق والحضارة في هذا الإعلان. فقد كان نصف البيان مخصصاً لبيان الأسباب التي دعته لإعلان الحرب، ولطلب المساعدة من خديوي مصر ونصفه اللآخر مخصصًا للتشديد على حسن معاملة رعايا العدو أوتباع دينه، الموجودين داخل الدولة العثمانية "والإحسان إليهم وأن يكونوا على الدوام مشمولين بالعدل والأمن والراحة طبقاً لأحكام الشريعة المنيفة المطهرة".
سبب إعلان دولة الخلافة الإسلامية الحرب على روسيا عام 1853:
لما لم تنسحب الجيوش الروسية التي كانت قد احتلت ولايتي مولدافيا وفلاخيا اضطرت تركيا أن تعلن الحرب على روسيا في 4 اكتوبر 1853م. وأرسل السطان عبد المجيد إلى عباس حلمي باشا الأول خديوي مصر فرماناً بالتركية يعلمه بإعلان تركيا الحرب على روسيا ويأمره بتنبيه الأهالي إلى الإكثار من الدعاء بنصرة الدولة العلية، وإلى عدم التعرض لرعايا روسيا والدول المتحالفة معها ومعاملتهم باللين والحسنى.
تحليل إعلان الحرب: استغرقت مخاطبة خديوي مصر بألقابه وصفاته أربعة أسطر، ثم شرع السلطان يشرح مطولاً وفي سبع وثلاثين سطراً موجبات الحرب وكيف أنه سعى للصلح والسلام مع روسيا، وعدد ما بذله من محاولات دبلوماسية لتحقيق أهداف الدولة سلماً، ونقض روسيا لاتفاقياتها مع الدولة العثمانية واعتداء جيوشها على أراضي الدولة العثمانية، ورعاياها ومساجدها.
ثم طلب السطان عبد المجيد من خديوي مصر طلبين: الأول هو إفهام المصريين حقيقة الوضع وما ورد في إعلان الحرب، ومطالبتهم بأن يشتغلوا جميعاً بالدعاء لله تعالى بنصرة الدولة العلية، وأن يواظبوا على ذلك. واستغرق ذلك أربعة أسطر. ثم خصصت الأسطر الثمانية والعشرين الأخيرة جميعاً للتشديد على حماية رعايا روسيا وحلفائها في بلاد المسلمين، وكذلك حماية كل المسيحيين وأصحاب الأديان الأخرى.
مقتطفات من كلام السلطان: "فيجب عدم وقوع أي تعرّض أو سوء معاملة لأي من تجار ورعايا هذه الدول الموجودين بالممالك المحروسة بقصد التجارة والسياحة. ولكافة رعايانا من مختلف الأديان الذين نعد شرعاً أرواحهم وأعراضهم وأموالهم كأرواحنا وأعراضنا وأموالنا. وأن يكونوا على الدوام مشمولين بالعدل والأمن والراحة طبقاً لأحكام الشريعة المنيفة المطهرة".
ثم يذكر :"وحيث أن من أسباب الانتصار أن يعيش جميع رعايانا على اختلاف أجناسهم مع بعضهم بحالة حسنة، وأن لا يكدّر أحدهم صفو الآخر ولا يهينه ولا يضره بأي حال وفي أي مكان". "ففهّم الجمهور كل ذلك تفصيلاً"، "وفهم كل شخص جيداً أن من يأتي عملاً مغايراً للتنبيهات المشروعة المشروحة عن جهل أو غفلة أو لأغراض شخصية، سيكون مسؤولاً عن عمله ويعاقب عقاباً شديداً". (1)
ملاحظات:
1. نلاحظ عناية السطان العثماني بحسن مخاطبة خديوي مصر بما يستميل قلبه، ثم يهتم بأن يشرح الظروف التي أدت لإعلان الحرب بتفصيل كبير، ويسرد كل محاولاته لتجنب هذا القرار المؤلم. أي أن السلطان مع مراعته لحسن خطاب الخديوي فقد اهتم بإحاطته علماً بكل الظروف التي أدت لهذا القرار. وفي هذا احترام للخديوي وشعوراً من الخليفة العثماني بمكانته.
2. كانت الجبهة الداخلية في المقام الأول من اهتمام السلطان. فقد طلب من الخديوي إبلاغ الرعية بتفاصيل الظروف التي أدت لإعلان الحرب لأن هذه الحرب ستكلفهم تضحيات وربما ضرائب فلا بد أن يكونوا على دراية تامة بما يجري، كما طلب من الرعية الدعاء والمواظبة عليه، توسلا إلى الله عز وجل، وحشداً للرعية خلف الجيش والدولة.
3. مع الأخذ بالأسباب المادية فإن السلطان يولي عناية عظمى للتوجه إلى الله ويطلب من جميع الأمة الدعاء والمواظبة عليه.
4. ثم يولي كل عنايته لحسن معاملة رعايا العدو وأتباع دينه. ويذكّر أن من أسباب النصر أن يكون جميع الرعايا بحالة حسنة لا يكدّر صفوهم شيء.
5. لم يذكر السلطان روسيا ولا القيصر ولا الديانة المسيحية بسوء قط. ولم يتعرض السلطان للقيصر ولا حاشيته ولا لأمانتهم أو ما يدور في قصورهم. رغم أن الروس وقتها كان يجبرون الناس على أن يصبحوا نصارى، ويقتلون من يرفض أو يدفعونه للهجرة، ويهدمون المساجد ويغيرون أسماء البلاد والمدن. فقد أراد السلطان للخلاف أن يبقى سياسي ليس إلا، ولم يستعد الناس على روسيا والديانة المسيحية. وهذه السياسة من السلطان –إضافة لحسن معاملة رعايا روسيا في أراضي الدولة العثمانية- يفتح الباب عريضاً للصلح في أية لحظة، قبل وأثناء وبعد الحرب، ويمهد لحسن الجوار بعد الصلح. وقارن ذلك اليوم بالدعاية السوداء لأمريكا ضد أفغانستان والعراق وتحقيرها للحكام وعقيدتهم ونظام حكمهم وطريقة حياتهم قبل شن الحرب عليهم.
رحمة الله عليك أيها السلطان وأعلى نزلك يوم الدين، والله لكأني أسمع في إعلانك هذا صوت أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما. فحمداً لله على دين الإسلام الذي جعل خليفة يأتي من بعد درسول الله صلى الله عليه وسلم بألف ومئتين وخمسين سنة أن يكون على نفس الخطة التي وضعها الرسول لا ينحرف عنها قيد أنملة.
وفي المقابل: يزداد اهتمام العالم الغربي وحديثه عن احترام القوانين وحقوق الانسان وحقوق الطفل والمرأة، في حين يزداد تجاهله وخرقه لهذه القوانين واستهزاؤه بالقيم الانسانية في كل ما يقوم به وعلى عدد الثواني في كل مكان في العالم باستثناء عالمه السحري الأسمى.
ولا يقترن ذكر العثمانيين في الإعلام الغربي إلا وذكرت الخصيان والجواري وجبروت السلطان ووحشيته وفساد حاشيته واضطهاد الأقليات. رغم أن أراضي السلطنة العثمانية كانت واحة أمان لكل الأديان والأعراق.
وأريد أن أذكّر بما جرى في موقف مماثل في الولايات المنحدة. فعند إعلانها الحرب ضد اليابان عام 1941 تم جمع كل اليابانيين في الولايات المتحدة ووضعهم في معسكرات اعتقال حبسوا فيها حتى وضعت الحرب أوزارها.
---------
(1)الأمير عمر طوسون- الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853 -1855م- دراسة د. حمدنا الله مصطفى – دار الكتب والوثائق المصرية- مركز تاريخ مصر المعاصر- ط2 - 2008