كل المقاييس التي يعتمد عليها خبراء الإستراتيجيا تشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على سقوط حضاري وسياسي ممّا يمهّد لبروز قوى أخرى ومنها القوّة الإسلامية , وهذه المقاييس في غاية الدقّة إذ تستند إلى مؤشرّات واقعيّة معاصرة , وإلى مؤشرّات تاريخية تتمثّل في إستكمال الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية للدورة الحضاريّة والتي تمتّد بناءا على إستقراء شبه كامل لمدّة خمسة قرون – وقد بدأت النهضة الغربية وتحديدا قبل خمس قرون و مازالت مستمرة إلى يومنا هذا - , وكل هذه المؤشرّات الواقعيّة والتاريخيّة مردفة بالإجماع الشعبي العربي والإسلامي والبشري المناهض للسياسة الأمريكية القائمة على نظام مختّل يخدم طرفا واحدا وهو الولايات المتحدّة الأمريكية . و إذا كانت الولايات المتحدّة الأمريكية تعتمد على إختلال توازن القوى لصالحها فإنّ السقوط الحضاري يكمن دائما في أوج القوّة الحضاريّة كما يذهب إليه أرنولد توينبي صاحب كتاب : تاريخ البشريّة .


الدورة الحضاريّة


إنّ الذي ينعم النظر في حركة التاريخ يتجلّى له بوضوح أنّ أقصى ما تعمرّه أيّ قوة حضاريّة هو خمس قرون , لتنتقل الدورة الحضاريّة إلى بقعة أخرى تكون قد إستجمعت شروط الإنطلاق النهضوي والحضاري . وهذا ما تجسدّ بالفعل في التاريخ البشري إذ أنّ المدرسة المسيحية سيطرت على الساحة الدولية في ذلك الوقت لمدّة خمس قرون وبعد ظهور الإسلام إنقرضت حضارة روما التي قامت على أساس الديّانة المسيحيّة فاسحة المجال أمام المدّ الإسلامي الذي يخضع هو الآخر لقوانين التاريخ وسنن الله في الكون , وقد تقلصّ هذا المدّ بفعل ظروف تاريخيّة معروفة للباحثين فعاودت التوجهّات الرومانيّة النهوض من جديد , لتتعثرّ مسيرتها بعد فتح الأندلس , ثمّ أنّ التوجهات ذات الموروث الروماني إستعادت أنفاسها لتسقط إلى حين أمام المدّ العثماني الإسلامي . وبعد أن أستكمل هذا المدّ دورته – يجب الإشارة إلى أنّ الخلافة العثمانية بدأت تبسط سيطرتها على الأقاليم إسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي – تساقط لتنبعث من جديد القوة الغربية مشبعة بتراث المسلمين الفكري والسياسي ومشبعة بتجارب مستقاة من واقع التجربة الإنسانية الملئ بالأحداث . و مذ ذلك التاريخ و الحضارة الغربيّة هي المتحكمّة في مجريات الأمور الثقافية والصناعية والسياسية والعسكرية والتقنيّة و الأمنيّة .
وبعد هذه الدورة التامة التي ساد فيها الغرب فستميل هذه الدورة إلى جهة أخرى , خصوصا إذا علمنا أنّ شروط إنتقال هذه الدورة قد بدأت تتوفّر في الجهة التي تنتظر دورها في توجيه الحضارة الإنسانيّة المعاصرة . وقد تمكنّ العديد من المفكرين الغربيين من الوصول إلى هذه النتيجة كروبنسون وبرتراند رسل وروني دوبو و روجي غارودي وروني جينه وغيرهم .


الخلل الكبير


إنّ أعظم ما أنتاب الولايات المتحدة الأمريكية – والحديث عنها يشمل المتحالفين معها في الكتلة الغربية – هو إنعدام التوازن في مشروعها النهضوي , فبدل أن تهتم بالإنسان كجوهر إهتمّت به كعرض , مما يجعل التقنية المتطورة التي بلغتها تسير في غير هدى حضاري , وهذا من شأنه أن يعرّض ليس أمريكا فحسب بل الإنسانية بكاملها لعملية الإنقراض الشاملة . وهذا الإنعدام في التوازن ولدّ التخطيط المشوّه , إذ أنّ أمريكا سخرّت آلاف الملايير من الدولارات لدعم التسلّح والترسانة العسكريّة على حساب المجالات الإجتماعيّة الأخرى وهذا ما أنتج طبقة فقيرة في المجتمع الأمريكي قد تتحوّل مع مرور الأيّام إلى قنبلة موقوتة في وجه الشركات الأمريكية الكبرى ذات النفوذ الواسع في السياسة الأمريكية .


الإنسداد السياسي


لا شكّ في أنّ السياسة الأمريكية تعتمد على الثوابت والمتغيرات , وفي بعض الأحيان فإنّ الثوابت تؤدّي إلى الإنسداد السياسي ما دامت تعتمد على القوة العسكرية التي هي ضرورة لتقويّة القرار السياسي .
وهذا المنطق وإن كان يفيد في بعض المراحل لكنّه ومع مرور الأيام ومع تغيّر الظروف الدولية يصبح عالة على أصحابه , لأنّه في خاتمة الدرب تجد أمريكا نفسها قويّة في جانب ومخفقة في مئات الجوانب الأخرى , ولا أدلّ على ذلك الإتحاد السوفياتي السابق الذي إعتمد على التسليح العسكري ليجد نفسه بلا خبز في نهاية المطاف , أو مثل الجزائر التي إعتمدت في عهد هواري بومدين على الصناعات الثقيلة مهملة الزراعة لتجد نفسها في نهاية المطاف بلا صناعة ولا زراعة .
وقد يقال هذا قيّاس مع الفارق بإعتبار أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تتسّم خطتها التنموية بالتكامل وهذا ما يجعل كافة المجالات الإقتصادية في وضع متميّز , إلاّ أنّ هذا الكلام يصبح ذا دلالة لو كانت أمريكا تتبع منهاجا غير ذاك المتبّع من قبلها , إذ المعروف أنّ أرباب المزارع يتلفون ملايين الأطنان من الحبوب والحنطة حفاظا على الأسعار المعروفة في السوق , فمادامت مصلحة الكبار هي التي تؤخذ في الحسبان فإنّ الأمور قد تنعكس سلبا على أمريكا .


مؤشرات السقوط الداخلي


عوامل كثيرة داخلية ترشحّ أمريكا للتساقط السريع مستقبلا نوجز منها ما يلي :
الهنود الحمر : المعروف أنّ الهنود الحمر وإلى يومنا هذا يطالبون بحقوقهم السياسية والإجتماعية , وإذا كان الصراع سابقا بين السكان الأصليين لأمريكا والدخلاء عليها يتم على شكل حرب عصابات وقتل بالجملة من قبل الدخلاء للهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا , إلاّ أنّه اليوم إنتظم في شكل تكتلات سياسية وتنظيمات هندية أمريكية أحرجت أمريكا في الداخل و الخارج , والولايات المتحدة الأمريكية التي تدّعي حماية الأقليات ونصرة حقوق الإنسان – الوجه الأخر للتدخّل الأمريكي في الدول الآمنة – إلاّ أنّها لم تأبه لمطالب الهنود الحمر الذين مازالوا يحتجون على السياسة الأمريكية تجاههم وما زالت تجمعاتهم في أمريكا وتحديدا في الغرب الأمريكي تتناقل حكايات إجرام العصابات الدخيلة في حق أجدادهم . والصراع بين السكان الأصليين و الدخلاء على أمريكا مرشّح للبروز في أي لحظة لأنّ عوامله مازالت قائمة , وقد يؤدّي هذا إلى خلق فجوة كبيرة في التركيبة الإجتماعية الأمريكية وقد تكون الترسانة العسكرية الأمريكية سببا آخر لإبادة أشخاص يحملون الهويّة الأمريكية .


القوة السوداء


ما زال السود في القارة المغتصبة ممنوعين من العديد من الحقوق السياسية , ولا يمكن ورغم الديموقراطية الأمريكية التي تحولتّ إلى معزوفة تقبل بوجود شخص أسود في البيت الأبيض الذي إحتكره البيضان فقط من رجالات القرار في أمريكا .
و ما زالت القوة السوداء تتعرض إلى إعتداءات من قبل المنظمات العنصرية التي تطالب بضرورة إخراج هؤلاء من أمريكا وإرجاعهم إلى إفريقيا .
وتسجّل الدوائر الرسمية بحذر شديد الإعتداءات على السود من قبل البيض والعكس صحيح , وقد أصبح رجال أمن متورطين في قتل شباب سود الأمر الذي فجرّ عشرات التظاهرات السوداء الغاضبة على الإدارة الأمريكية , وهذا التمزق والصراع العرقي واللوني مرشح لمزيد من الإتساع كما يقول علماء إجتماع أمريكيون .


صراع الكبار


قلّ من يعرف عن الصراع الشديد والمستتر بين الشركات الجبّارة التي تتحكّم في الإقتصاد الأمريكي وإقتصاديات العالم الثالث , ومصاديق هذا الصراع تكمن في الإنشطار السياسي بين الأمبراطوريات الماليّة , فبعضها يدعم الحزب الجمهوري والبعض الآخر يدعم الحزب الديموقراطي وأخرى تدعم اللوبي الصهيوني وبينهما علاقة تحالف وثيقة , وأمتد هذا الصراع إلى خارج الخارطة الأمريكية وكل أمبراطورية مالية تملك رؤية إستراتيجية في كيفية إدارة السياسات والإقتصادات ولا سيّما في العالم العربي والإسلامي حيث الثروات الهائلة , والمفارقة أنّ كل شركة متعددة الجنسيات تملك مركزا إستراتيجيا يعمل فيه خبراء في الإستراتيجيا والجيوبوليتيكا . وقد تتضارب مصالح الكبار لينعكس ذلك على اللعبة السياسية الرسمية المتداخلة كثيرا مع البترودولار والمال ومصارده بشكل عام .


أمريكا دولة الجرائم


إنّ إنتشار الجريمة بشكل مذهل في الولايات المتحدة الأمريكية يدلّ على الإنكسار الرهيب في المجتمع الأمريكي , وعلى الطبقية في هذا المجتمع المخملي .
وبرغم الإجراءات المتخذة للحدّ من ظاهرة الجرائم إلاّ أنّ كل الإجراءات باءت بالفشل , وقد تتفاقم هذه الطبقية لتتّحول إلى ثورة إجتماعية كما حدث في فرنسا أيام الثورة الفرنسية , وقد تمكنّ كارل ماركس من تشخيص منتهى الرأسمالية عندما أشار إلى أنّ المجتمعات الرأسمالية ستثور على الوضع القائم , إلاّ أنّ كارل ماركس أخطأ النتيجة عندما قال إنّ هذه المجتمعات الرأسمالية وعندما تثور على الرأسمالية ستنتهي إلى الماركسية والتي ماتت شأنها شأن الرأسمالية الآيلة إلى الموت . وتفاقم الطبقيّة لا يميّز الوضع العام في أمريكا فقط بل بات الهاجس اليومي في أوروبا أيضا , ومثل هذه النتيجة حتمية في مجتمع يفتقد إلى أدنى موازين العدالة , ولا يعترف بالفقراء والمنبوذين , بل إنّ الحياة للأقوى كما قال نيتشه ذات يوم . وقد تتلاقى صيحات المستضعفين في أمريكا وأوروبا والعالم الثالث أيضا وهو مؤشّر على الفصام النكد بين القيادة السياسية في أمريكا والمدعومة من قبل رجال الأعمال وبين الطبقات المسحوقة . وإذا غالطت أمريكا الرأي العام لديها بتوجيه أنظارهم إلى الساحة السياسية الدولية فسوف يأتي اليوم الذي يلتفت فيه المسحوقون في أمريكا إلى واقعهم ويحتجون عليه بقوة .


مؤشرات السقوط الخارجي


لئن كانت الحرب الكونية الثانيّة عونا لأمريكا في ضمّ أوروبا إليها , فإنّ الظروف الآن تغيرت بشكل قد يؤدّي إلى حدوث طلاق كامل بين أوروبا وأمريكا حيث بدأت أوروبا ترفع صوتها عاليا منددة بمحاولات السيطرة الأمريكية في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية , و مشروع أوروبا الموحدة يحمل في طياته إرادة الإنفصال عن أمريكا التي تفردت بصناعة كافة القرارات العالمية , وإذا إستطاعت أوروبا أن تؤطّر نفسها فسوف تفقد أمريكا الكثير من حيويتها في أوروبا , كما أن التنافس الإقتصادي بين اليابان وأمريكا مرشّح أن يتحوّل إلى صراع سياسي لأنّ القوة الإقتصادية اليابانية المتدفقة تملي عليها إستغلال العامل الإقتصادي للتأثير على السياسة العالمية , وللتذكير فقط فإنّ العلاقة بين أمريكا وأوروبا كانت في بداية المطاف إقتصادية ثمّ تحولّت إلى نفوذ سياسي وعسكري .
ولم تتمكن الولايات المتحدة لحدّ الآن التغلغل إلى العمق الصيني ومازالت الصين حذرة من النشاط السياسي والإقتصادي والعسكري الأمريكي في القارة الآسيوية .
والعالم الإسالامي من جهته تجلى له بوضوح أنّ أمريكا تستهدف إمتصاص خيراته و صياغته من جديد . وما زال هذا العالم يتكبّد الآثار السلبية للتوجهات الأمريكية البراغماتية القائمة على إفراغ العالم الإسلامي من المقومات النهضوية الفكرية والمادية .


أمريكا والكيّان الصهيوني


لقد إستفاد الكيان الصهيوني من اللوبي اليهودي الواسع النفوذ في الولايات المتحدة الأمريكية , وللعلم فإنّ العديد من المنظمات المسيحية الأمريكية بدأت تستشعر الخطر الصهيوني على أمريكا نفسها وعلى العقيدة النصرانية , وبدأت تتحدث عن الأخطار المحدقة بالنصرانية كتوجّه عقائدي وسياسي , وقد تدخل هذه التوجهات المسيحية المستيقظة في صراع سياسي مع اللوبي اليهودي في أمريكا لينعكس ذلك تذبذبا على المسار السياسي الأمريكي.


تفككّ التركيبة الإجتماعية في أمريكا


لا يمكن للشعوب الهجينة أن يستمر تجانسها خصوصا في ظلّ غيّاب عقيدة واحدة تنصهر فيها كل الفروقات العرقيّة , والولايات المتحدة الأمريكية يسود فيها شعب متباعد الأطراف هذا الشعب الذي تشكل من هجرات متباينة من مختلف المناطق الأوروبية والإفريقية والآسيوية , وهذا التباعد العرقي يصحبه تباعد ديني وعقائدي , إذ أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تشبه الهند في عدد الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية السائدة فيها , والشيئ الوحيد الذي ما زال يحافظ على التماسك بين أعراق الشعب الأمريكي هو المصلحة الإقتصادية , وأي ضعف إقتصادي حقيقي في أمريكا قد ينعكس سلبا على تماسك الأعراق فيها .


كوارث غير منتظرة


يؤكّد خبراء الزلازل والبراكين أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستتعرّض في السنوات المقبلة إلى بعض الكوارث الطبيعية إذ أنّها تقع في خط طول 40 والأقاليم الواقعة في هذا الخط ستشهد نشاطا زلزاليّا رهيبا في السنوات المقبلة . وإذا أضفنا إلى هذه الكوارث المحتلمة ما يلم بأمريكا من أمراض خطيرة وفتاكة فإنّ أمريكا ستكون مرشحّة إلى ضربات السماء أيضا , ولا يمكننا إستبعاد الوعود الربانية القاضيّة بنهاية الظلم والإستبداد سواء بسنن الطبيعة أو غيرها من العوامل , ويبيّن القرآن الكريم في قصص الماضين أنّ هناك علاقة طرديّة بين تفاقم الظلم والسقوط الحضاري الأكيد , وكثيرا ما يربط القرآن الكريم بين ظلم الأمراء وسقوط الأمم .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية