جلد الذات مرض نفسي يجعل الإنسان يضخّم أخطاءه ويتلذّذ بالحديث عنها و"يعيد السكّين في الجرح" للشعور بمزيد من الألم، ويبقى يدور في هذا الفلك بسلبيّة تزيد حاله تدهوراً، أمّا النقد الذاتي الصريح فهو عمليّة واعيّة لإبصار عيوب النفس وتحديد أخطائها لعلاجها وتصحيح المسيرة.
هذه مقدّمة ضروريّة بين يدي موضوع يسلّط الضوء على بعض الجوانب غير المشرقة في وضعيّة الأمّة حين تأخّرت عن ركب الحضارة، قاصداً إبراز الجرح ليس من أجل إحياء آلامه ولكن ابتغاء تطييبه، ذلك أنّنا بين تيارين متناقضين في تقويم حال أمّتنا وعطائها، لا يرى أحدهما إلاّ السلبيّات ، ويستخلص من طرحه ألاّ أمل في الإصلاح، ويغمض الآخر عينيه عن حقائق الواقع المتردّي ويتفنّن في التفسير التآمريّ كأن كلّ شيء عندنا بألف خير لكن الأعداء يختلقون ويأفكون ويهوّلون.
- لماذا تأخّرنا؟: هذا السؤال قديم جديد، كثيراً ما يواجهه المسلمون بإجابة في غاية التسطيح هي أن ذلك بسبب تخلّينا عن القرآن والسنّة ، وهذا حقّ بكلّ تأكيد بشرط أن نفهم معنى وحقيقة التخليّ بعيدا عن التفسيرات العاطفيّة الهلاميّة لهذه العبارة،فكتاب الله تعالى يحفظ ويتلى والسنة النبوية محلّ اهتمام الدارسين والملتزمين ، لكنّ تحقيق الغايات والمقاصد هو الغائب على كثير من الأصعدة ، ولننظر مثلا إلى التغافل عن تفريطنا الكبير في القيم الحياتيّة الّتي طلّقتها مجتمعاتنا منذ مدّة طويلة، فلم يعد المتديّنون يكترثون بأمر الحريّة والشورى والعدل والنّظام والدقّة والإتقان، رغم أنّها خارجة من رحم الشّريعة وأشاد بها الوحي المنزّل وحثّ عليها تماماً كشأن العبادات والأخلاق، فكيف نتقدّم في دنيا الناس ونكون شهداء عليهم ونحن نستمرئ التخلّف ونتوارث قيمه وصيغه ؟
إنّ إنسان التغيير والإصلاح والحضارة والشهادة يحتاج إلى عادات جديدة في حياته اليوميّة ومع محيطه، وهذا يجب أن يستند إلى منظومة معرفيّة وسلوكيّة تنقله نقلةً نوعيّة يتعلّم منها أن يأتي وظيفته وعمله في الوقت تماماً بعد أن اعتاد على التأخّر والغياب، وأن يحترم الموعد الّذي أعطاه مهما كان نوعه ، وهكذا ...
هذه النقلة ليست بالأمر الهيّن، لكنّها واجبة وضروريّة إذ من الصعب على من تعوّد اللامبالاة أن تدبّ فيه روح المسؤوليّة، ومن الصّعب على من تكيّف مع العمل غير المتقن أن ينجز أعمالاً متقنةً، ومن الصّعب على المسؤول أو الموظّف الّذي أصبحت الرشوة جزءًا من حياته أن يصبح متعفّفاً... كلّ هذا صّعب جدّا لكنّه حتميّ إذا أردنا للأمّة أن تغادر مربّع التخلّف الحضاريّ، والّذي يجب ملاحظته بوضوح والفصل فيه بكلّ جرأة أن النّقلة الّتي نتحدّث عنها لن يحدثها الوصول إلى السّلطة، إنّما هي مهمّة التربيّة بواسطة البيت والمسجد والمدرسة ونحوها، ذلك أنّ قطاعاً كبيراً منّا يربط إحداث التغيير النفسيّ والاجتماعيّ بالتربّع على كرسيّ السلطة وإصدار التّشريعات، ورغم أهميّة الحكم الرّاشد فإنّ التجارب التاريخيّة أثبتت أنّ مناهج التغيير الناجحة هي ما صعد من القاعدة لا ما نزل من القمّة، وهي حقيقة نفسيّة واجتماعيّة أشار إليها قول الله تعالى: " إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم " – سورة الرّعد 11. فالتغيّر مرتبط بالأنفس أي بالتربيّة سلباً وإيجاباً، وليس بتغيير الحكّام، ويجدر بنا – هنا –الانتباه إلى الفرق الشاسع بين آلية الأفكار – أي التربيّة والتوعيّة – وبين آلية العضلات – أي السعي لبلوغ الحكم بأيّ ثمن –.
وما دمنا نتخبّط في دائرة التخلّف ونريد الخروج منه لكن بالأساليب الّتي أنتجها التخلّف ذاته فلن نذهب بعيداً، ذلك أن أغلب الحركات الّتي تنشد الإصلاح تستصحب أمراض المجتمع وتجدّدها مثل رفع شعار الشورى والعمل بالاستبداد، وانتقاد فكرة الزعيم عند الحكومات، وهي من جانبها تقدّس الزعيم وتربط نفسها به وجوداً وعدماً.
- صناعة النجاح بدل الفشل: من التقاليد السيّئة المثبّطة الّتي انتشرت في مجتمعاتنا وأصبحت من ثوابته ما نلاحظه من محاربة سياسيّة وإعلاميّة وثقافيّة للناجحين وتحطيم المتفوّقين وتهشيم رؤوس النوابغ إلى درجة أنّ هناك أنظمة وجهات ظلاميّة متعدّدة تعتبر النّجاح خيانةً عظمى وتتحرّج من كلّ إبداع علميّ وحضاريّ وتعمل على إشاعة الفشل وتتويج الرّداءة وتكريم أهلها في مجالات الأدب والفنّ والريّاضة ، فضلاً عن النشاط السيّاسيّ والعمل النّقابي والإجتماعي.
وهذا أورثنا حالة نفسيّة جعلتنا نعتاد على الوضع المقلوب ونحافظ عليه خوفاً من المفاجآت، تعضدنا فتاوى دينيّة ووصايا سيّاسيّة هي – بالضبط – ما ينبغي البداية بإصلاحه لنعود إلى الوضع الطبيعيّ، لنرى – في بلادنا العربية الإسلامية - الورود تنهال على النّاجحين واللّوم ينصبّ على الفاشلين كما هو الشأن في بلاد الدنيا، حتّى نصل – أو قل حتّى نعود – إلى نقطة الانطلاق الصحيّة فيقود أمّتنا الناجحون بدل الفاشلين، سواءً في السيّاسة أو التوجيه أو الإدارة، فقد أصبحنا تحت رحمة عقليّة العبيد – نحن الّذين شرّفنا الإسلام بالحريّة – نرضخ للأمر الواقع حتّى إذا طال علينا الأمد تشبّثنا به ودافعنا عنه وأسندناه بالمسوّغات لنبقى تحت نير الانحراف والباطل، وقد امتدّ ذلك إلى المساجد، فترى أكثر المنابر- في بعض البلاد الإسلامية - يصعدها خطباء لا يملكون من المؤهّلات سوى الاشتغال بأحكام التلاوة ومخارج الحروف – وأحكام التلاوة جزء من الثقافة الإسلامية من غير شكّ - لكنّ بضاعتهم العلمية مزجاة في الفقه والحديث والتفسير، فكأنّنا الأمّة الوحيدة الّتي تتعلّم لتقرأ بدل أن تقرأ لتتعلّم ! !! لذلك كاد الناس أن يهجروا بيوت الله وخطبها ودروسها ، وكيف يستقيم الظلّ والعود أعوج؟
وأحبّ أن أذكر أنّ الّذي قاد أحداث الحرم المكّي وادّعى أنّه المهديّ المنتظر كان شابّا انقطع عن الدّراسة ! فكيف لنا أن ننتصر على اليهود والنّصارى وهم أمم يقودها العباقرة ونحن أسلمنا قوادنا للفاشلين من مثل هذا الطالب؟
- الخلافة والمرض والموت: خوّفنا الحديث النبوي من " الوهن " وهو المرض أو الوباء الاجتماعي الّذي يعتري روح الأمّة فيطفئ فعاليّتها لأنّ همّها يصبح العبّ من متع الدنيا واللهاث خلف زينتها واستهلاك أشيائها، وبالتّالي رفض العطاء والتضحيّة من أجل المثل العليا والغايات النّبيلة، ومرحلة الوهن مصيبة كبرى، لكنّ الملاحظ أنّنا تجاوزناها إلى مرحلة الموت الحضاري الّذي يعني انقراض الأمّة وهلاكها معنويّاً ونفسيّاً وثقافيّاً ، ألسنا نقتني المنتجات من آخر طراز لنوهم أنفسنا أنّنا امتلكنا ناصيّة الحضارة في حين أنّ الحضارة هي الّتي تصنع المنتجات وليس العكس؟
وكيف بنا في هذه الحال أن نعيد الخلافة الرّاشدة ؟ إنّها لن تأتيّ من فراغ ولا بالخوارق وإنّما تصنعها الأمّة الرّاشدة، ولا بدّ إذاً أن نعود إلى الحياة أوّلاً كفاعلين ومنتجين ومبدعين لنستطيع تخطيّ عقبة الوهن الحضاريّ الّذي جعل وقت الإنسان عندنا عبأ عليه يورث الكآبة والملل والضياع والعبث، فما فائدة أن يقتني أحدنا ساعةً غاية في الدقّة ثم لا يفعل شيئاً بوقته؟ إنّ اهتمامه منصب على الساعة لا على الوقت، وماذا تفعل السّاعة في يد عاطلة؟ وماذا قد تفعل عصا موسى – عليه السلام – في يد ضعيفة هزيلة مرتعشة؟ إن العبرة باليد الموسويّة الطاهرة الفاعلة التي يباركها الله فيحدث بها من المعجزات ما يشاء ،فإذا أمسكت بالعصا حوّلتها – بإذن الله – إلى أداة خارقة ، وكم خدعتنا – نحن المسلمين – السيوف الخشبيّة في الأيدي المتوضّئة !
وبعد ، فالقضية ليست مسألة تفاؤل أو تشاؤم بل هي مسألة نقد جريء للذات يعيد لها الحياة والوعي والبصيرة لتتصالح على كتاب ربّها وسنّة نبيّها وسنن الكون والنفس والمجتمع فتعيد صياغة نفسها على كلّ الأصعدة لتستحقّ أهلية البقاء والريادة .
عبد العزيز كحيل