التفاعل الإنساني عبر التاريخ مع النصوص ذات الطابع الخاص في القراءة واللحن والتلاوة له امتداد تاريخي طويل يمتد منذ مئات السنين ما قبل الميلاد والذي مرّ بمختلف الديانات والمعتقدات والمجاميع البشرية على اختلاف أمكنتهم وأزمنتهم ، وهذه النصوص تختلف في نظمها وصياغتها وخصوصا التي لها غرض الإتصال بالسماء والتقرب إلى الإله أو الرب أو المعبود ، أشهر هذه النصوص الشعرية هي " نشيد الخلق " الشهير والذي كان يتحدث عن الواحد الذي هو أساس الكون ويسبق الفصل بين الوجود واللاوجود ، وهو من بدايات الفلسفة في الهند تحديدا ، حيث كانوا يسمّون الأناشيد الإبتهالية والأشعار التي نظمت لهذا الغرض " بالفيدا " والتي تتلى بنهج خاص ولحن محدد وكثيرا ما نسمع بتمتمات لها عبر الأفلام وغيرها والتي تتحدث عن الحضارات ما قبل الميلاد ، هذا النشيد نظماً ولحناً لا أحد يستطيع تحديد مصدر وجوده ولكن يجزم كثير من الفلاسفة ومفسروا التاريخ أنها مغروسة بالفطرة متجذرة في الطبع البشري لا تنفك عنه .

 

تتنوع هذه الأناشيد الإبتهالية " إن صحّت التسمية " بتنوع مواضيعها وتراتيلها وأشهر هذه الترانيم ما يعرف باسم الرجفيدا وهي تمتمات وصلوات وأدعية للموحدين في ذلك العصر الذي يعود إلى 1500 سنة ما قبل الميلاد ، وهناك السامافيدا والياجورفيدا وغيرها مما يختلف حسب الغرض منه ونهج ترديده وترتيله ، وكلها تتداخل بها عوامل الأفكار الأسطورية والمعتقدات الدينية لتلك العصور السحيقة وفي معظمها كانت تتحدث عن الحياة وتصور الوجود وعلاقة الإنسان بالواحد أو المعبود الذي هو أساس الوجود وكانت بلا شك لها قداسة عند تلك الشعوب وذلك لأنها تختلف عن باقي التمتمات والترانييم والألحان لحديثها الراقي عن الفكر فيما هو متعالي عن المخلوقات وابتعاد هذه النصوص وأغراضها عن الشهوة واللذة والسلطة التي قد تكون هي المسيطرة عند تلك الشعوب لتداخل الجهل والتخلف بالمعتقدات والأساطير ..

هذه المسميات للنشيد الذي بات يطلق في زمننا هذا على النص الديني ، كلها كانت ترانيم ونصوص وألحان لغتها وأسلوبها وطبيعة خطابها يتضمن مفردة دينية أو لحنا تعبدياً مقدساً لدى مختلف الديانات ما قبل وبعد الميلاد ، وهنا تجدر الإشارة إلى المقصود بالمفردة الدينية بأنه ذلك النص الذي يتحدث عن الوجود وعن الكون والتأمل الفلسفي في الوجود وعن الحياة وتتوزع فيه الأدوار ليكون هناك أدوار عن الإله أو الرب أو المعبود أو الروح المقدسة أو الواحد وأدوار عن العبد الشاعر الفيلسوف الزاهد الراهب المبتهل المادح المحب وأدوار أخرى عن الخلق أو الموجودات أو المخلوقات أو الكائنات وأدوار كذلك عن الخير والشر والحب والبغض والحق العدل والحرية .. الخ إما تساؤلا وإما تقديساً وإما لمجرد الإتصال والبث ..

كل هذه الأدوار في النص الديني تتمحور مع مرور الزمن وتتغير في الشكل لا في الدلالة ، ليكون العصر ومفردته طاغية على النص الذي ولد فيه ولا أدل على ذلك من نزول الأديان السماوية وتغير لغة الخطاب حسب الزمان والمكان الذي نزلت فيه وحسب البيئة التي نزل بها عليهم ، ولا شك ولا ريب في أن القرآن الكريم هو أسمى هذه النصوص لأنه نص إلهي مقدس له صبغة التراتيل الذي ذكرناها من حيث طبيعته الخاصة في الترتيل والتجويد والتلاوة والتغني به ، وما عداه من النص الديني الشعري والنثري والمأثور " النشيد "هو الذي يأخذ الصبغة العامة لمضامين النص الإلهي والوحي المقدس وولا يخرج عنها ، بل يتبنى الروح العامه ويحاول أن يكون الناشر لرسالة هذا الدين المقدس عند المسلمين ..

بعد هذه الديباجة التاريخية والتفسير لمعاني النشيد ومسيرته عبر العصور الإنسانية ، لابد وأن نخرج بالقول إلى أن النشيد كمسمى يطلق على النص الديني في الغالب ويسعه الروح العامه لمضامين النص الديني المقدس في القرآن الكريم والسنة النبوية بقوالب مختلفة بطبيعة الحال لإنتفاء صفة الإعجاز والتقديس والتعبد عنها ، تحاول أن تثري الفكر الإنساني بالحديث عن المعاني الأسمى والأرقى في الوجود من قيم عليا ومثلى يتم التطرق لها والمحاولة في الإبداع لقولبتها شكلا ومضمونا شعرا ولحنا ، ليتجلى بعد ذلك صاحب الإيمان بهذه الفكرة لتحديد الغرض من النشيد ، فمنهم من يزداد بها قربا إلى الله عز وجل وقربا من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية ومنهم من يستقي منها عبر ودروس التاريخ ومنهم يبتعد قليلا ليتسلى وذلك بلا شك غرض آخر مشروع ، ولكنه لا يدخل في النشيد إن فهم المعنى والقصد من أصله في تاريخ البشرية وكما ذكرنا أنه تتغير المفردة حسب طبيعة كل عصر وكل زمن ، ويبقى هناك الإمتداد الأصلي أو الأول يمكن الرجوع إليه والتعرف إلى مراحل تطوره واستمراريته ..

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية