توجد مدارس متنوعة ضمن النظرية الاقتصادية الليبرالية، وهو ما يشير إلى ضرورة عدم احتكار أصحاب مدرسة ما للحقيقة المطلقة في الاقتصاد الليبرالي ، ويعمل هذا المقال على إلقاء الضوء على المبادئ الرئيسية لتلك المدارس. بالنسبة للمدرسة الليبرالية الكلاسيكية(Classical liberalism)، فهي تمثل المبدأ الذي يؤكد على أهمية رشاد الأفراد وحقوق الملكية الفردية والحقوق الطبيعية والقيود الدستورية على الحكومة وحماية الحريات . وتؤكد السياسة الاقتصادية لهذه المدرسة بشكل كبير على فكرة السوق الحرة وتحرر الأفراد من القيود ، كما عبرت عنها كتابات Adam smith و David Ricardo و Geremy Bentham و Stuart Mill وغيرهم .
وتعتبر المدرسة الليبرالية الكلاسيكية أن الحرية الاقتصادية لصيقة بالحرية السياسية. ويكمن الأساس المنطقي لهذه المدرسة في أن إيجاد بيئة تتسم بحرية العمل ونظام اقتصادي يعمل بشكل تلقائي من خلال ما يعرف باليد الخفية سيفيد المجتمع . ومع ذلك، لا تعارض هذه المدرسة أن تقوم الدولة بتوفير بعض سلع عامة ليس بوسع نظام السوق أن يوفرها. وتحدث أصحاب هذه المدرسة عن أنه يجب تقييد مجال عمل الحكومة، وأنه مادامت الدولة توفر سيادة القانون الذي يوجه الناس للسير في الحياة بالأساليب المثمرة فإن المجتمع سيدير نفسه بنفسه. ويعتقد بعض الليبراليين الكلاسيك أن السوق المحرر من الأغلال هو أكثر آلية كفاءة لإشباع حاجات الأفراد . ويأتي دفاعهم عن سوق حرة غير خاضعة لنظم قائما على افتراض بأن الأفراد يتسمون بالرشادة ويحافظون على مصالحهم الشخصية ويتسمون بالمنهاجية في سعيهم لتحقيق أهدافهم. وتحدث أدم سميث عن وجود أيد خفية تعمل على ضبط السوق وتحقيق التوافق والانسجام وهي آلية السوق المنضبطة ذاتيا. ورأى أن دور الحكومة وتدخلها في النشاط الاقتصادي يرتبط بضمان عمل آلية السوق المنضبطة ذاتيا في المجتمع. ذلك أن كل بائع أو منتج يحاول أن يبيع سلعة بأعلى الأسعار في سبيل تحقيق أفضل النتائج بالنسبة له . وكذلك يحاول كل مستهلك أن يشترى نفس السلعة بأقل سعر ممكن . وتتغير الأسعار صعودا ونزولا حتى يتم التوازن بين الكميات المعروضة للبيع وللكميات المطلوبة للشراء. وترسل تغيرات الأسعار إشارات إلى المنتجين والمستهلكين لتحديد سلوكهم في المستقبل وتحديد حجم ونوع الإنتاج المطلوب. ويقوم هذا النظام على توافر المعلومات التفصيلية الدقيقة لكل من المنتج والمستهلك حول ظروف السوق وعلى سهولة تعديل القرارات في ضوء ما يستجد من معلومات جديدة يقدمها السوق. وارتبط ازدهار المدرسة الكلاسيكية بما حققته الثورة الصناعية من ثروة مادية كبيرة ولكن عندما أحدثت هذه الثورة مشكلات اجتماعية مثل التلوث وعمالة الأطفال وازدحام المدن ، ظهرت مدرسة الليبرالية الاجتماعية Social liberalism.
ولقد كان ظهور الليبرالية الاجتماعية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كفرع جديد من الليبرالية. ولكنها ترى وجود دور للدولة في توفير حرية ايجابيةpositive liberty للأفراد . فهي تقبل ببعض القيود في الشئون الاقتصادية مثل قوانين مكافحة الاحتكارات الاقتصادية ووجود هيئات تنظيمية مع قوانين للحد الأدنى من الأجور لتأمين فرص اقتصادية للجميع . وهي تدعو إلى حكومات شرعية تقوم بتوفير المستوى الأساسي من المعيشة الطيبة أو أجر العمل مع الصحة والتعليم . وتكون الحكومة مدعومة في ذلك بالضرائب التي تفرضها ، كما تعمل على الوصول إلى أفضل استخدام للمواهب البشرية وعلى منع حدوث ثورات أي تعمل لتحقيق المصلحة العامة. وترفض الليبرالية الاجتماعية النماذج المتشددة من الرأسمالية و العناصر الثورية من المدرسة الاشتراكية. وتؤكد الليبرالية الاجتماعية على مفهوم الحرية الإيجابية للفقراء والمحرومين من خلال وسائل تنظيمية تقوم بها الحكومات. ويؤمن الليبراليون الاجتماعيون بالحرية الفردية كهدف رئيسي مثل الليبرالية الكلاسيكية ، ولكنهم يختلفون عن الليبرالية الكلاسيكية في أنهم يؤمنون بأن نقص الفرص الاقتصادية والتعليم والرعاية الصحية يمكن أن يشكل تهديدات لمفهوم الحرية . وتؤيد المدرسة الليبرالية الاجتماعية الاقتصاد المختلط الذي يقوم بالأساس على القطاع الخاص مع قيام الدولة بتوفير أو ضمان وجود سلع عامة. ويرفض ليبراليون كلاسيك مثل Nozick وآخرون الليبرالية الاجتماعية بوصفها ليبرالية زائفة ، ويتحدثون عن أن تدخل الحكومة في اقتصاد السوق يقضي على الحرية المنشودة. وتختلف الليبرالية الاجتماعية عن الليبرالية الجديدة Neoliberalism التي جاءت تعبيرا عن السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" ورئيسة الوزراء البريطانية "مارجريت تاتشر" والتي تؤكد على الالتزامات بحرية التجارة وتفكيك البرامج الاجتماعية الحكومية. وجاءت الليبرالية المحافظة Conservative liberalism لتدعو إلى دور الحد الأدنى للحكومة في الاقتصاد. ويتحدث البعض مثل Merquior عن أن الليبرالية المحافظة تقوم على مفهوم الحرية السلبية Negitive liberty (أي حينما لا يوجد قانون فلن يوجد تجاوز للقانون أو خرق له ) وعلى الفردية وتعدد الأخلاق والحكومة الخاضعة للمساءلة ، بينما تركز الليبرالية الاجتماعية على عدم شرعية الحكومات المستبدة التي تتجاوز في استخدام السلطات وعلى الظروف الاجتماعية التي تؤدي إلى وجود هذه الحكومات المستبدة.
ونشأت مدرسة الليبرالية البدائية Paleoliberalism في الولايات المتحدة في مواجهة مدرسة الليبرالية الجديدة . وتقوم هذه المدرسة على خليط التحرر الشديد في السياسة والثقافة. وتقف هذه المدرسة ضد أي شكل من أشكال التدخل الحكومي ، وتعتبره بمثابة اعتداء على الملكية الفردية . وتستند الليبرالية البدائية على فكرة الرأسمالية الفوضوية Anarcho-capitalism، وهي رأسمالية تؤمن بالمذهب القائل بإلغاء الحكومة. كما تؤمن هذه المدرسة بالقانون الطبيعي الذي تنتهجه النظرية الليبرالية. ويقدر أصحاب هذه المدرسة التجمعات التطوعية باعتبارها بديلا عن البرامج الحكومية الاجتماعية. ولكن هذه المدرسة شهدت تراجع بعض روادها عن أفكارهم مثل Pat Buchanan الذي اتجه نحو الإيمان بالتخطيط الاقتصادي والسلطة المركزية للدولة. ولقد فضل الليبراليون الأمريكيون المعادون للسوفيت - في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين على غرار الرؤساء الأمريكيين "ترومان" و"كنيدي" و"جونسون" وغيرهم- أن يطلقوا على أنفسهم Paleoliberals أي الليبراليين البدائيين، ويذكر أن هذه المجموعة أصبحت تعرف فيما بعد باسم المحافظين الجدد Neoconservatives. وهكذا ترى هذه المدرسة أن الاقتصاد يعمل بشكل طبيعي دون أي تدخل من الحكومة وأن أي تدخل في اقتصاد السوق سيفسده.
وتعد Ordoliberalism (الليبرالية المنظمة) نوعا من الليبرالية الجديدة يطلق عليها الليبرالية الجديدة الألمانية التي تؤكد على ضرورة أن تقوم الدولة بإيجاد بيئة قانونية ملائمة للاقتصاد وأن تحافظ على مستوى صحي من المنافسة من خلال تدابير تلتزم بمبادئ السوق. فترى الليبرالية المنظمة أنه إذا لم تقوم الحكومة باتخاذ تدابير نشطة لتعزيز المنافسة فإن الشركات ستحتكر السوق وتقضي على المزايا التي يقدمها اقتصاد السوق ؛ بل إنها يمكن أن تقوض عمل الحكومة لأن القوة الاقتصادية الكبرى يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية. ويتحدث Stephen Padgett عن أن" المحور الرئيسي لليبرالية المنظمة هو التقسيم الواضح للعمل في الإدارة الاقتصادية بحيث يتم تحديد مسئوليات معينة لمؤسسات معينة. فالسياسات النقدية ينبغي أن تكون مسئولة عن بنك مركزي ملتزم بتحقيق الاستقرار النقدي ومعدلات تضخم منخفضة على أن يكون لهذا البنك وضع مستقل بعيدا عن الضغوط السياسية . أما السياسات المالية فتكون مسئولة عن تحقيق التوازن بين عوائد الضرائب والإنفاق الحكومي ، وهذا هو مجال عمل الحكومة ، بينما تعمل سياسات الاقتصاد الكلي على الحفاظ على مصالح أصحاب العمل والاتحادات التجارية." ومن ثم يجب على الدولة أن تقيم نظام اقتصادي وليس توجيه العمليات الاقتصادية. ولقد نشأت الليبرالية المنظمة على أيدي الاقتصاديين الألمان في الفترة ما بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين بهدف اقامة اقتصاد سوق اجتماعي على النموذج الألماني. ويعتبر الاقتصادي الألماني Wilhelm Ropke أحد مؤسسي هذه المدرسة أن "الليبرالية المنظمة" هي تعبير عن مذهب محافظ ليبراليliberal Conservatism في مواجهة الرأسمالية الكلاسيكية.
ويمكن القول بأن تنوع المدارس الاقتصادية الليبرالية يشير إلى حقيقة مهمة وهي السبب وراء بقاء النظرية الاقتصادية الليبرالية، بينما انهارت نظرية الاقتصاد الاشتراكي.