يكشف المنهج الجينالوجي-الحفري لأعمال الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831)م عن المسكوت عنه في عمق فلسفته بطريقة لا شعورية يدفع كل أطروحاته الفلسفية، كما يكشف تمركزا ابستيميا يشكل نموذجا للعنف الثقافي الذي يمارس فعالياته العميقة في إظهار هوية الغرب الذي شحن نفسه بمقومات تاريخية ودينية وعرقية، واختزل العالم غير الأوروبي إلى مجموعة أنماط حياتية واقتصادية غير واعية ومتعثرة وساكنة واستبدادية، ومفتقرة لقوة الاستكشاف والتحليل والاستنتاج.

 

 

أولا- جغرافيا العنف، أو في تأويل المكان:

يقسم هيغل المناطق الجغرافية إلى ثلاثة أقسام هي: الأرض المرتفعة ثم السهول الوديانية وأخيرًا المنطقة الساحلية، فهو يعتقد أن القارات الثلاث تمثل بصفة عامة هذا التقسيم الثلاثي، فأفريقيا هي الأرض المرتفعة، وآسيا هي منطقة السهول الوديانية وأخيرًا تمثل أوروبا المنطقة الساحلية، ثم يبدأ في الكشف عن هذه المناطق في كل قارة من القارات.

1- الأرض المرتفعة: توجد بها أراض مرتفعة تتميز بوجود سهوب كثيرة تصلح للرعي، وبهذا تظهر فيها الحياة الأبوية البطريركية التي تظهر فيها العلاقات القانونية بين السكان في هذه المناطق الجبلية، ولهذا ينتشر بينهم طرفان قصيان هما: الكرم وحسن الضيافة من ناحية، والسلب والنهب من ناحية أخرى، وهذه الحياة القبلية البدائية يمثلها في أفريقيا حياة الزنوج الوديعين المسالمين الذين ينقلبون فجأة إلى متوحشين ومسعورين يذبحون كل من يصادفونه في طريقهم كما هي الحال عندما يشنون حربًا.

2- أرض السهول الوديانية: هي المنطقة التي تتميز بالأرض الخصبة كما هي الحال في سهول الصين والهند التي يخترقهما نهر السند والكنج، وبابل حيث يجري نهر دجلة والفرات، ومصر التي يرويها النيل، وفي هذه المناطق تنشأ الدول والممالك حيث تكون الزراعة هي مصدر الرزق للسكان.

3- المنطقة الثالثة: هي الأرض الساحلية أو الشريط المتاخم للبحر، حيث يعطينا البحر -على حدّ تعبير هيغل- فكرة اللا متناهي، ويشجع على تجاوز نطاق المحدود، ولهذا فإن البحر يدعو الإنسان إلى الغزو والفتح، وإلى النهب والقرصنة، لكنه يدعو أيضًا إلى التجارة والكسب الشريف، وذلك عكس كل من الأرض وسهول الوادي التي تربط الإنسان بالتربة وتشده إليه.

وإذا كانت الوظيفة الأساسية لسكان المناطق المرتفعة هي تربية الماشية، وبينما سكان الوديان هي الزراعة والصناعة، فإن وظيفة سكان المناطق الساحلية هي التجارة والسفر في البحر، أما الحياة الاجتماعية فإننا نجد سمة الحياة القبلية للمناطق الأولى هي الحياة الأبوية البطريركية، وأما الحياة الاجتماعية عند سكان الوادي فهي تتسم بظهور الملكية الخاصة نظرًا لظهور الزراعة والصناعة، وبالتالي علاقة العبد بالسيد، أما الحرية الاجتماعية فهي ترتبط بالحياة الاجتماعية في المناطق الساحلية.

ثانيًا- من محاصرة التاريخ إلى الاستحواذ عليه:

يصنف هيغل مجريات التاريخ فيرمز لمجرى التاريخ بمسار الضوء، فكما أن الشمس تشرق من الشرق وتغرب من الغرب، فإن آسيا هي بداية التاريخ وأوروبا هي نهايته؛ ذلك لأن تاريخ العالم ليس إلا ترويض الإرادة الطبيعية على الخضوع للنظام وجعلها تطيع المبدأ العام، والمراحل التي سارت عليها هذه العملية تبدأ من الشرق الذي لم يعرف الحرية إلا لفرد واحد، وهذه هي المرحلة الأولى التي يسميها هيغل (مرحلة الطفولة)، ثم هناك المرحلة التي تمثلها آسيا وهي (مرحلة الصبا) في التاريخ، حيث لا نجدها تعبّر عن الهدوء والثقة كما يفعل الطفل، وإنما هي مرحلة الصبيّ الذي لا يعرف غير الشجار والعراك، أما اليونان فيمثلون (مرحلة المراهقة) حيث نجد الفرديات التي تشكل نفسها، ولهذا نجد هاهنا اتحاد الأخلاق مع الإرادة الذاتية أو مملكة الحرية الجميلة، أما المرحلة الثالثة في مرحلة الدولة الرومانية أو (رجولة التاريخ)، فالروح اللطيفة التي كانت قائمة في دولة المدينة حلّ محلها كدح شاق وقاس، أما المرحلة الرابعة فيمثلها العالم الجرماني -دولة هيغل- وهي (مرحلة نضج الروح وقوتها الكاملة)، حيث يقول هيغل: "إن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، لأن أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق، كما أن آسيا هي بدايته."

هكذا يمضي هيغل في تأثيث الإطار العام لصورة الأفريقي التي جهزّه بها المبشرون، والتي توافق تصوره لتطور العقل البشري من لحظة ولادته الأولى وصولا إلى تمركزه في الغرب، وبينما هو يدمج تلك العناصر في حركة جدلية فإنه يلجأ إلى تأويل كثير من ظواهر الاستعباد، حيث يقول: "لقد استعبد الأوروبيون الزنوج وباعوهم إلى أمريكا، وإذا  كان ذلك أمرًا سيئا، فإن مصيرهم في بلادهم ذاتها أشد سوء."

يكشف مفهوم التاريخ عند هيغل باعتباره مسار العقل الإنساني المطرد وتجلياته عن طبيعة الرؤية العرقية المتمركزة حول ذاتها، وبما أنه يرى أن مضمون التاريخ ما هو إلا التحقق الفعلي لفكرة الروح الذي يفضي إلى الحرية، وأن طفولة ذلك التحقق بدأت تحبو في الشرق ثم بلغت أوج نضجها في الغرب، فإنه يقسم الأعراق إلى مراتب ودرجات أسهمت بحسب وعيها وقدراتها في صياغة التحقق المذكور الذي اكتمل في الأمة الجرمانية في القرن التاسع عشر.

يؤكد هيغل أن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، لأن أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق، وعليه فإن آسيا هي بدايته، فتاريخ العالم نوع من محاكاة رمزية لحركة الشمس يبدأ من الشرق وينتهي بالغرب، بمعنى أنه سيكتمل قوته ويحقق وغاياته وكماله.

هكذا ظهرت نزعة التمركز العرقي التي قامت بترتيب مختلف فروع العائلة البشرية في نظام تصاعديّ للحضارة، يحتل فيها الأفريقيون (الزنوج) أدنى مراتب السلم، بينما يحتل الأوربيون (البيض) أعلى هذه المراتب، وقد أسندت هذه النظرية بالذات إلى الزنوج درجة من العقم الثقافي جعلت من الممكن تفسير تاريخهم وتطورهم الاجتماعي، وأدى ذلك إلى التمييز العرقي، والفصل الحاد بين التجمعات السكانية الأوربية ومثيلاتها الأفريقية، وهذا ما أدى إلى خلق شعور بالنقص لدى الأفريقي واستعداد لفقد الثقة بنفسه وبمستقبله.

ثالثا- الأنثربولوجيا المعاصرة في مواجهة المدّ الهيغلي:

يقول "كلود ليفي ستراوش" في كتابه :"الأسطورة والمعنى": "إن لدى الشعوب التي نسميها (بدائية) على سبيل الاعتبار والخطأ، والأجدر بنا أن نسميها شعوبا دون كتابة"، إذ أن الكتابة هي عامل التمييز الحقيقي بيننا وبينها، فلها قدرة تامة على التفكير اللا نفعي، إنها تتحرك بدافع الحاجة والرغبة في فهم العالم المحيط بها.

إن نظرة هيجل في هذا الموضع تصبح غير إنسانية على الإطلاق، بل هي روح استعمارية، إذ كيف نفسر تزامن دعوة هيغل الفلسفية ومثيلاتها بظهور النزعة الكولونيالية المتمثلة في الانطلاق لغزو العالم من أجل توسيع المجال الأوروبي اقتصاديًّا بما يكفل إيجاد توازن اجتماعي واقتصادي يتطلبه هذا النظام، إذن أصبح العالم خارج القارة الأوروبية يُفهم على أنه مساحة تتمدد فيها أوروبا لأهداف تتصل بأوضاعها الخاصة، وهكذا فإن عصر النهضة والذي تزامن مع اكتشاف أمريكا سيكون متميزًا عما سبقه لأنه عمّق فكرة لدى الأوروبيين بأنهم أصبحوا قادرين على فتح العالم كله.

إن الصورة التي ركبها هيغل للعرق الزنجي عبارة عن طبيعة المصادرة الفلسفية المنطقية التي تفرض نظامها على موضوعها بطريقة متعسفة، ولقد نقد "هوركهايمر" منهجية هيغل بقوله: "إن هيغل يجعل من المعرفة الشاملة معرفة إلهية مستخدما كل الأداة السحرية التي هي التصور المثالي للمعرفة، ويعطي نفسه من وضع المعرفة في مستوى العلم الوضعي، ويميز الحدث العرضي عن الحدث الضروري، و يفرز الحقائق ليعارض بعضها"، ويتيح هذا المفهوم لهيغل أن يضع غائيا أحداثا لاحقة تاريخيا في صلب ظروف سابقة، وأن يبرر الأسباب الحقيقية للأحداث القليلة الشأن -هي أسباب لا يمنع نفسه عن معرفتهاـ بدهاء العقل الذي يستخدم لكل الأحداث كوسائل، ويتجلى ذلك الخطر المنهجي الذي أشار إليه "هوركهايمر" بوضوح عند هيغل في حالة أفريقيا، فالإجراءات المنهجية لا يمكن لها إلا تعسفًا أن تختزل موروثا عريقا ومتنوعا إلى نمطية ساكنة ومحتقرة ودونية كما فعل هيغل فيما يخص الزنوج، وبمقدار ما يبدو المنهج عاجزا عن بلوغ أطراف الحقيقة، بمقدار ما يبدو عجز الرؤية التي توجه ذلك المنهج.

إن أفريقيا كما يؤكد العالم الأنثربولوجي "شتراوس" وعاء صهر ثقافي للعالم القديم؛ أي أنها المكان الذي انصهرت فيه كل التأثيرات إما لتغادر أو لتنكفئ، ولكن لتتحول دائما في اتجاهات جديدة، فالأنظمة السياسية الكبرى في أفريقيا القديمة وإنجازاتها القانونية ونظرياتها الفلسفية التي خفيت طويلا على الغربيين، وفنونها التشكيلية وموسيقاها التي ستكشف بطريقة منهجية جميع الإمكانات المتوفرة عبر كل وسيلة للتعبير، كلها دلائل على ماضٍ في غاية الخصب، وأن هيغل لم يستطع أن يخترق منظومة الموروث الأفريقي بأبعادها الروحية والفكرية، وعدّها ممارسات متصلة بالطبيعة ولا تمنح الكائن البشري امتيازًا إنسانيّا؛ لأنه كائن طبيعي نزوي ومتعصب وعنيف، هذا ما يجعل هيغل الفيلسوف الرسمي للدولة البروسية التي لا تلبث أن تحمل صورة جنينية للحس الدكتاتوري مع مطلع القرن العشرين.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية