محاور البحـث:

مقدمة.
معنى النقـد.
أهمية النقـد.
خطورة غياب النقـد.
أنواع النقـد.
منهج النقـد والمراجعة والتصحيح.

مقدمة : 

"كان النقد و لازال من أفضل الأدوات المعينة على ارتقاء الأفكار والأفراد و المناهج، ومن دونه تفقد الإنسانيّة المعيار الصحيح للتصحيح على المستوى الفردي و الجماعي، وللأسف؛ كثيرٌ ينظر إلى النقد على أنه أداة ازدراء، بينما هو أداة بناء ونماء، ولمّا كانت المرحلة الآن تموج في التغيرات السريعة، والاضطرابات المتقلبة على الساحة العربية و الإسلاميّة، ولما بنيت كثير من الأفعال على ردود الأفعال؛ وجب أن نبيّن بعض الجوانب المهمة لهذه الأداة التي تمكننا من الوقوف على مكمن الداء و تعيننا على التشخيص الصحيح للدواء"."1"
يقول الدكتور عبد الكريم بكار: "النقد أداة من أعظم الأدوات التي اخترعها البشرية لبلوَرة وعيها, و اكتشاف ذواتها، وأصولها, وأوجه القصور في مشروعيتها، وإنجازاتها, حيث تظل الأفكار غائمة ومعتمة, ما لم تتعرض لِلَوك الألسنة, و أشعة الروز و التقييم".


وبهذا الكلام يتضح دور هذه الأداة لتنقيح الأفكار، وتطويرها من الناحية النظرية الفلسفية إلى أن تصل بها إلى مرحلة التطبيق على أرض الواقع، وتتابع معها كالمسبار موجهة لها على الطريق فإن مالت قومتها، وإن عدلت صوبتها فترقى الأفكار ومشروعيتها في الحاضر والمستقبل بضمان إبقاء تفعيل هذه الأداة مستقبليا, ولابد لأي عمل إنساني وإن أبدع صاحبه في حياته وطرَزه بتمام الحرفة أن تبقى به بعض زوايا النقص، تنتظر ناقدًا بارعًا بعطاء ليتمم تشييد البناء"."3"

معنى النقد

"في اللغة: يطلق على معنيين:

المعنى الأول: تمييز الجيد، وتمييز الزائف.

 

المعنى الثاني: العيب والتجريح، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "الناس إن نقدتهم نقدوك ، وإن تركتهم لم يتركوك" . "1"


 

أهمية النقــد
"نحن كبشر نُصيب ونخطئ، والجميع يعترف بذلك، لكن سلوكنا لا يترجم ذلك الاعتراف، فالذين يمارسون النقد يَلقون الكثير من المشكلات، مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، وتجاوزه بعضهم على تزيين الخطأ وتلميعه، مما جعل المشكلات تتراكم، وتفرخ، وتصبح أشبة بأوبئة مستوطنة.

 

إن كثيراً من الأخطاء والخطايا التي نقع فيها، ليس مصدرها الجهل والرغبة في تحقيق المصالح الخاصة، مما يعني أن تكرُّرَها هو المتوقّع؛ نظرًا لديمومة أسبابها، والذي يساعد على التخفيف من تكرارها: هو الاستمرار في نقدها بشتى الوسائل، وشتى الطرق؛ فالأخطاء لا تتبدى دائمًا للعيان، ولا تتلبس بلبوس واحد، ممّا يعني ضرورة الاستمرار في كشفها ومواجهتها.

 

والكسل داء مستشر في الناس، ويغزو كل مفاصل حياتهم، فنحن ننجذب دائمًا إلى أن نؤدي جميع أعمالنا بالحد الأدنى والمقبول من الجهد على ما هو مشاهد في البلدان النامية اليوم، والنقد هو الذي يكشف عن قصور إنجازاتنا؛ حيث يحاكمها من خلال التنظير إلى النموذج الأصليّ الذي كان ينبغي أن يتجسد فيها.
والنقد هو الذي يجدد الأبنية الفكرية حين يصقلها، ويجعلها في حالة من التوهج والإشعاع، وإن النقد لا يحيا إلا بالنقد، ومجادلة الفكرة بالفكرة، والطريقة بالطريقة، فالنقد لا يصحح من خلال حركته وتجلياته جوانب حياتنا فحسب، وإنما يصحح ذاته في المقام الأول" . "3"

 

وهنا سنسرد بعض النقاط لأهميتهـا:

 

أولا: النقد مهم لكشف الأخطاء وسرعة علاجها:
النقد مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء التي تتسلل إلى حياة الشعوب، والأفراد، والجماعات، وغياب النقد معناه؛ تراكم الأخطاء وتماديها حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك.

 

إن النقد هو الكشف الطبي المتواصل الذي يكتشف المرض بسرعة، وبالتالي يُعالج قبل أن يستفحل، ويصل إلى مرحلة الخطر، أو فقدان الأمل في العلاج؛ ولذلك لابد من النقد.

 

ثانيًا: النقد مشاركة من الجميع في الإصلاح:

 

النقد مشاركة حقيقية من الجميع في عملية الإصلاح؛ بحيث يصبح الفرد في المجتمع له دوره ومجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق، وهي لا تفكّر ولا تعي!.

 

ثالثًا: النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان:

 

حيث يتأمل وينظر ويعمل عقله، ويراجع ما يعرفه من نصوص الكتاب والسنة؛ فإذا وجد أمرًا لا يليق من الناحية الشرعية، أو من الناحية العقليّة أو من الناحية المصلحة، فإنه لا يتوانى عن النقد الصحيح البنَّاء، وذلك يعلّم أنه إن سكت فإنه يكون شريكًا في الإثم؛ وجاء في قول السلف الصالح: "الساكت عن الحق شيطان أخرس".

 

رابعًا: النقد مرآة تكشف عيوب النفس:

 

كما أن من جوانب أهمية النقد أنه يجلي للإنسان وللأمة وللجماعة وللدولة صفة نفسها وصوتها فهو مرآة حقيقية، لا زيف فيها ولا تزيد ولا نقصان.

 

وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم وذلك لأن الإنسان يمارس عيبه أحيانا بشكل طبعي وربما يعتقد أحياناً صوابه ولا يرى أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصره بهذا الخطأ ويقل له: أخطأتَ، والصواب كذا وكذا.

 

وقل مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والأمم ، فهي تحتاج دائماً وأبدًا إلى أفراد من غير صانعي القرار، يستدركون ويصححون، وإلا غرقت السفينة! فالذي اتخذ القرار بهذا الأمر اتخذه باجتهاد، يرى أنه صواب، وليس بالضرورة أن يكون اتخذه عن تعمد الخطأ، وبناء على هذا فليس من الصعب أن يصحح لنفسه، لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق الاحترام.

 

 



خطورة غياب النقد

 

إذا غاب النقد فإن البديل عن النقد الصحيح هو المديح! وكثيرون يكيلون المديح بلا حساب، وهذا الإطراء يغر الإنسان ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزوِّر الحقائق.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولمّا مدحوه وقالوا: أنتَ سيّدنا، قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى" قالوا: "وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً" فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان"، وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احثوا في وجوه المداحين التراب"، رأى رجلاً يمدح أخاه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك قطعت عنق أخيك ".
فنهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصرارًا على ما هو عليه، ولكن يُمدح الإنسانُ بقدر، تشجيعًا له على صواب صدر منه، واعترافًا بفضل له؛ لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأبًا وديدنًا، كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام!
إن المديح أصبح فنًّا يمارس، وأصبحت أجهزته المخصصة للإعلام لا همَّ لها إلا إزجاء المديح بالحق والباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ فإنها تحول الخطأ إلى صواب، ثم تمدحه بهذا الإنجاز العظيم في زعمهم.


أنواع النقــد

 

هناك عدة تقسيمات للنقد :

 

التقسيم الأول: تقسيم النقد إلى: نقد عـام، ونقد خـاص:

 

النقد العام: هو نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص، ودون أن نسمي أحدًا.

 

مثلاً : مِن الناس مَن يفعلُ كذا وكذا، ما بال أقوام يفعلون كذا؟
ومن ذلك قوله تعالى : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا).

 

النقد الخاص: وهو نقد الأشخاص، ولسنا نعني بالأشخاص الأفراد، فقد يكون الشخص المراد عبارة عن شخص معنوي – دولة، أو جماعة، أو مؤسسة، وقد يكون فردًا بعينه.

 

التقسيم الثاني: تقسيم النقد إلى نقد الذات، ونقد الغير:

 

  • · نقد الذات: هناك من ينتقد نفسه، وهذا ما يسمى بالنقد الذاتيّ، فيكتشف خطأه بنفسه، ويحاسب نفسه بنفسه؛ بكثرة المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ، ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا الخطأ والاعتذار عنه، خاصة إذا كان خطأ معلنًا، كفتوى شرعية، أو اجتهاد ، أو منكر معلن وقع فيه هذا الإنسان، سواء وقع في هذا فرد أو جماعة أو دولة، فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه.

 

والنقد الذاتي مهم جدًا ؛ لأنه دليل على شجاعة الإنسان، وتحرره من عبوديته لنفسه ، واستعداده للتغيير والإصلاح، أما النقد من الآخرين فإنك قد تقبله أو لا تقبله، وقد تصر على ما أنت عليه وتقول: هذا أمر هيّن ونحو ذلك، وأما ما كان من نفسك فلديك استعداد أصلي للقبول.

 

أهمية النقد الذاتي: تكمن أهميته في عدة أمـور:
أولاً: أنه دليل على شجاعة الإنسان، وقدرته على التصحيح.

 

ثانيًا: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما يكون هناك أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها ، ولكن هو فقط يدركها.

 

ثالثًا:كما أن نقد الإنسان لذاته، أو نقد الأمة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس.

 

نقد الغير: يعني أن يكون النقد من جهة أخرى، سواء أكان النقد سرًا أم علانية" . "1"


 

منهج النقد والمراجعة والتصحيح

 

"إن النقد والمراجعة يتمثل قوامة في تحقيق قاعدتين:

 

الأولى: الأخلاق.

 

الثانية: المعرفة، والعلم.

 

وربما كان من الأولويات احتياج النقد والحوار إلى العلم والمعرفة، فحين تتخلف هذه القاعدة فلن تستطيع أن ترى قيمة للنقد، لكن ربما كان غير واضح – عند الكثيرين– أن الأخلاق هي القاعدة الأولى في هذا المنهج.

 

صحيح أن فضيلة الأخلاق من أوليات الحقائق، ويشعر الجميع بأهمية التعامل الأخلاقي،لكن قد يكون الإشكال ناتجًا عن فهم الأخلاق نفسها، كما أنه ينتج عن تقدير مرتبة الأخلاق، وعلاقتها بالنقد والحوار.
إن النقد والحوار حين يتجرد عن أنظمة الأخلاق والعدل فأنه يتحول إلى معارك بشرية مفتوحة ، تمارس الشر الكامن في النفس البشرية حركتها الطاغية في هذه المعركة باسم العلم، أو الدين ، أو الحقوق .

 

ومن الحقائق اللازمة أن يكون في الأمة علماء ودعـاة ومصلحون، لهم قدر من المصداقية والقوامة؛ لضبط مسيرة العلم والأخلاق داخل الأمة، وليتحدثوا عن مشروع الأمة الحضاري مع الأمم والمجتمعات في هذا العصر الذي شهد تحديات كبرى لم تصادف الأمة في تاريخها ما هو مثلها.

 

لسنا نريد أن نقرأ التاريخ المعاصر، لكن من المهُم أن نتصور البيئة التي تشكَل فيها العمل الإسلامي الفكري والحركي؛ حتى نكون أكثر عدلاً في الوصف والنقد.
إن المراجعة والتصحيح، بل والرد على المخالف-حسب الأصول العلمية، والمقاصد الشرعية– أصل خالد في منهج هذه الأمة، وتاريخ العلماء متواتر في تقعيد هذا الأصل واعتباره، ولقد كتب كبار المحدّثين والفقهاء، وغيرهم، في المراجعة والتصحيح، والناظر في كتب الرجال أو كتب العلل، أو كتب الفقهاء، أو أهل الأصول ، بل وحتى السيَر والتاريخ يرى داخل هذه التصانيف المراجعة والنقد والتصحيح.

 

ومن هذه الحقيقة العلمية والتاريخية، بل والمنهج الشرعي المتقرر في نصوص الكتاب والسنة، رسم الإمام مالك بن أنس –محصل هذا المنهج بقوله: "كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر".

 

إنه ليس هناك أحد يتعالى قوله عن النقد والمراجعة والتصحيح في كل ما يقول، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فالحوار العلمي المستند إلى الحجة، مطلب يتفق عليه الجميع، لكن يجب علينا أن نرسم منهجًا لهذا النقد الشرعي العلميّ ؛ حتى لا يتحول إلى ممارسات واجتهادات خاصة، قد لا يحصل منها تحقيق المصالح الشرعية التي هي مبنى تقرير هذا النقد والمراجعة.

 

إن الجماهير التي تسمع وتقرأ للعلماء والدعاة والمصلحين اليوم، يجب أن تتربى على الحقائق، وليس على القول المجرد الذي لا يكون له وضوح عند التراجع والاختلاف.

 

من الامتياز الفضيلة أن نكون قادرين على مراجعة أحوالنا وأقوالنا، قبل أو مع مراجعة الآخرين لها

 

كثيرون يواجهون أزمة في التصور لبعض الحقائق الشرعية والعلمية، فيكون من الصحيح لديه أن يقول أو يكتب في مراجعة غيره، لكن حينما يقول غيره أو يكتب في مراجعة قوله والتصحيح له، فهذا غير مفهوم، وكذا أن يقول هو أو يكتب في المراجعة والتصحيح لنفسه.

 

هذه معادلة غير مؤهلة لأن تصنع رحمة في عالم الخلاف والتعدد القائم في الأمة اليوم.

 

وكم سجّل التاريخ رجوع الكبار من المحدثين، والفقهاء، وعظماء الأمة، عن مقالات ومسائل، بل ومواقف في العلم والدعوة والجهاد، وقضايا الأمة كلها!.

 

فلماذا لا نستطيع  أن نستوعب التفكير في مراجعتنا لمسيرتنا، واجتهادنا الخاصة! مع كوننا ملحين ومطالبين بمراجعتنا لغيرنا، تارة في مسائل هي ممّا يسع فيه الخلاف والاجتهاد، ونجد أن مطالبتنا بمراجعة غيرنا هو تصحيح للأمة ، وحفظ للدين وقوامة الحق!

 

إن المراجعة والتصحيح في مسائل الاجتهاد العلمية والدعوية وغيرها، لا يرتبط بحركة الزمان، ولا بالحصول أو عدم الحصول، ولا بكونه يتعلق بالشخص نفسه أو بغيره.

 

إن الحق حق، أيًّا كان زمانه أو قائله، كان أو لم يكن، والخطأ خطأ ، أيًّا كان زمانه أو قائله ، كان أو لم يكن، مع أن كثير من المسائل لا تتحمل الحسم المطلق، ففيها حسن وأحسن، وراجح ومرجوح، وقوي وضعيف.

 

ثمة أشياء كثيرة نجيد قرأتها وتصويرها داخل عقول ونفوس الآخرين، لكننا لا نتمتع بنفس القدرة حينما نحاول ذلك في نفوسنا وعقولنا.
ولقد كتب أهل العلم مراجعات وتصحيحات، من غير إصرار على ربط المراجعة والتصحيح بالشخص الذي يُراد نقده؛ لأن ربط التصحيح بالشخص غالبًا ما يكون أزمة أخلاقية أكثر من كونه إلحاحًا شرعيًّا أو علميًّا.

 

من الممكن أن نشارك في النقد والمراجعة والتصحيح ، دون أن نستدني نواصي الأشخاص ونوقفهم أمام قضاءاتنا، وكأننا فقط القائمون بأمر الله، والغيورون على الحق، وحفظ الدين!

 

وأكثر المراجعات والتصحيحات في تاريخ علماء الإسلام لم ترتبط بالأشخاص ، بل بالقضايا والمسائل نفسها، وربما ذكر عرض القائلين بها أحيانًا.

 

وحين نكتب ردًا أو مراجعة، فمن الواجب –هنا– أن نتخلص من الشعور بالسلطة والحاكميّة ، لنكون أكثر عدلاً وهدوءًا، وندرك أن كثيرًا من مراجعتنا لغيرنا هي نفسها مؤهلة للمراجعة والنقد، وأن لدينا الكثير مما يستطيع الآخرون أن يراجعوه، ويصححوه لنــا.

 

وحينما نكتب مراجعة أو نقدًا، فنحن أمام تحدٍّ نفسيّ كبير معقد التركيب، حتى أن من غير المناسب أن نقول: يجب علينا أن نتجرد من نفوسنا عند هذه الكتابة.

 

فحقائق الطبيعة البشرية يجب أن تكون واضحة، ومعترفًا بها دون تردد، فالأمانة التي هي قوام العدل في منهج الرد والنقد والمراجعة تواجهه إشكالية الطبيعة البشرية الإنسانية التي تخوض معها – أحيانًا – معركة صامتة، تقع غالبًا في دائرة اللاشعور: " إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" الأحزاب (72) .

 

وكل تجاوز لقواعد الأمانة والعدل والصواب؛ فإنه نتيجة عن طبيعة الظلم والجهل، كما قرر هذا المعنى الإمام ابن تيمية عند هذه الآية.

 

لذا فإن تجاوز هذه الطبيعة يحتاج إلى قوام عدلي شرعي، ولهذا كان العلم بُعث به المرسلون مقرونًا بالرحمة ؛ حتى لا يقع الظلم، وفي قول الله عز وجل عن الخضر صاحب موسى – وهو نبي على قول الجمهور " فَوَجَدَا عَبْداً مِن عِبَاِدنا آتيَنْاهُ رَحْمَة ًمِن عِنْدِنا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُنَّا عِلْماً " الكهف (64) .

 

لقد أوتى فضيلة العلم ، وأيضًا فضيلة الرحم، وهاتان الفضيلتان يمكن تجاوز بهما هذه الطبيعة المذكورة في قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب (72) .

 

إن العلم بلا رحمة ليس هديًا إلهيًّا، وإن الرحمة بلا علم ليست شريعة ربانية، والناس لا يصلحهم عالِم لا رحمة فيه، أو رحيم لا علم معه؛ فالأول يطغيهم، والآخر يُردِيهم في انحطاط الجهل وفوضى التفكير وسذاجة الرأي.

 

ولذا قرر أئمة السلف أن منازعة المخالف لها شرطان:

 

أحدهمـا: العلم.

 

والثاني: الصــدق.
فلا تكون منازعة المخالف جهلاً وتعديًا، ولا يقصد بها العلو في الأرض.

 

فالعلو يوم يكون هدفا ذاتيًّا تحصِّل به النفس امتيازها وتسلطها، ويعي الإنسان به وجوده الطاغي على من حوله فهذا تطلّع فرعونيّ.

 

إن الأمة في كل تاريخها، وفي هذا العصر خاصة بحاجة إلى أن تتصالح بما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها مع روادها الذين يحملون خطاب الأمة، ويعالجون واقعها، ويحاولون تجاوز التحدي القائم، وخوض معركة الأمة في العلم والمعرفة والدعوة، ضد الاتجاهات الوضعية التي تتحرك وسط ساحة أهل الإسلام، حين تفتقد الأمة هذا التصالح مع رموزها، فإنها تنتقل إلى عقل الثأر، وحب الانتصار الفردي.

 

هذا التصالح لا يؤهل شخصًا، أو مجموعةً، أو كتابًا إلى أن يكون متعاليًا على النقد والمراجعة، لكنه يصنع الاعتدال في منهج النقد والحوار، كما أن هذا التصالح لا يمكن أن يفهم منه تجاوز الأصول الثابتة وتحقيقها علمًا وعملاً، وإنكار المخالف من المقالات والأعمال لأصول السنة والجماعة فهذا أصل ثابت لا بد من تحقيقه.

 

من قواعد النقد والمراجعة حسب اقتضاء قواعد الشريعة، ونواميس العدل أن يتمتع الناقد بقدرة في التحكم بنفسه ومزاجه.

 

حينما نكتب أو نتحدث في موضوع ما- دون أن يكون هذا الموضوع رداً أو مراجعة لشخص- نتمتع غالبًا بهدوء، وقدرة على التصرف المسؤول، لكن حينما نكتب ردًا أو نقدًا أو مراجعة لشخص ما- ولا سيما إن كان حيًّا- فإننا نكون أمام تحدي النفس التي تمارس مطالبة للتدخل في صياغة هذه الورقة الناقدة أو المراجعة.

 

ويتم تخصيب إيحاءات النفس، وترددات المزاج، وإملاءات الطباع البشرية؛ لتكون أكثر حضورًا في هذه المناسبات.

 

ليس المراد من هذا التصور رفض منهج الرد والنقد والمراجعة، فهذا عجز عن تجاوز المشكلة، لكننا نقصد إلى ضرورة الإدراك لهذه المعاني، والتعامل معها بوعي حسب التقدير الاجتهادي -الذي هو استقراء في سير العلماء- فليس من النقد العادل أن ننبري لجمع وتصنيف السقطات لعالم، أو داعية له قدم صدق في الأمة.

 

إن هذا ينتج إفساد الرؤية، وتسامي النفس، والشعور بالتعالي النفسي، والاختصاص عند الناقد ومستمعيه.

 

ليس من منهج النقد الصحيح تتبع الشاذة والفاذة في حق عامة الناس فضلاً عمن له قدم في العلم والجهاد، فهذا من تتبع العورات، وهو يقود إلى نتيجة في ذهن الكثير، هي: أن فلاناً جملة من الغلط والسقط .

 

من الحقائق الشرعية في هذا المنهج: أن الخطأ الذي يقع اجتهادًا لا يؤاخذ صاحبه؛ إن كان مقصوده ومراده اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، لكنه أخطأه.

 

يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: "المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل الاعتقاد فكثير من الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع ، وقد قرر هذا المعنى وشرحه في مواضع من كتبه.

 

وأنت حين تقرأ التاريخ العلمي الإسلامي، وما كتب فيه من مصنفات في علوم الشريعة ومقدماتها لا ترى سنة ماضية عند أحد من أهل العلم الكبار من الأئمة والمحققين، أنهم نبشوا مصنفات ومقالات أحد من أرباب العلم القاصدين نصر السنة، والإسلام، وجمعوا سقطاته وأشهروها، بل على هذا جماهير العلماء وعامتهم، مع أنه من المتحقق أن ثمة مصنفين لهم أخطاء مؤهلة للذكر والرد والمراجعة، وترى أن التصحيح لم يفقد في هذه المسيرة التاريخية، لكنه تحت منهج معتدل دون حاجة إلى حركة رصد وكأن هذا الذي تتبع قوله ليس إلا إمامًا في الأخطاء.

 

إن الإنصاف ضرورة في منهج النقد، وهو تعامل مع الخلق يجب تحقيقه تحت نظر الشريعة وقواعدها، وليس تحت رؤية ذوقية، أو مزاج بارد أو صعب، فلا تضيع الحقائق، ولا يبغي على أحد من خلق الله.

 

وأيضًا؛ فإن من مضى منه سيرة حسنة، وصدق في الإسلام، يجب أن يُحسَن إليهم، ويُتلطّف في معاملتهم، ويُعرَف لهم قدرهم.

 

ولئن كانت الأمة اليوم بحاجة خاصة إلى التصحيح والمراجعة، فيجب أن يكون هذا تحت قاعدة العدل والرحمة، وصدق الحديث وعدم التكلّف، وترك الانتزاع للأخطاء، مع تحقيق لزوم الأخذ بالأصول ومعاقد إجماع الأئمة والإنكار على مخالفيها.

 

ومن ضرورة المعالجة والإصلاح أن يتمتع العالم بالرفق، وفي الصحيح: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه" .

 

وفي الإطار العام يأتي قوله سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل (125) .

 

ثمة حقيقة خلقية في الطبيعة البشرية وهي رفض الإنسان علو الآخرين عليه ورفض استعمال الفضيلة سلطة تقرع بها رؤوس المؤدبين.

 

الإسلام يقرر ثوابت الشريعة وحدودها، لكنه أيضا ،يقرر ثوابت الإنسانية، وحدودها، إذ هو رسالة للإنسان الذي خلقه الله على طبيعة غير قابلة للمعاندة فهي تعاند من عاندها، حتى ولو كان محقاً، فإن النفس لا تتمالك، فإما أن تدع الحق، أو تدع بعضه، أو تشوبه بباطل، فلماذا يتحول النقد والمراجعة إلى خلق معركة بين الحق أو الرأي المجتهد فيه وبين الطبيعة البشرية؟! هذا سؤال بالغ الأهمية.

 

وثمة حدود في الإنسانية هي حدود الحياة العادلة، وهي سنن الله في خلقه. فالإسلام يقرر أصول الأخلاق، وينشئ النفس عليها، وهي حق اجتماعي عام لا يجوز لأحد أن يخرق نظام الأخلاق تحت أي مبرر.

 

الأخلاق هي مزاج النقد، فإذا فسدت فسد قوامه.

 

قد يكون من الصعب على كثيرين تجاوز ما ألفوه من الطبائع التي تتحكم كثيراً في منطقهم وتعاملهم أكثر من تحكم الحقيقة نفسها.

 

وقد يكون من المشكلات هنا محاولة البعض تصحيح الإلف الذي ألفه، فيكون الصواب مألوفه ومتى تحول عنه؛ فربما هو يتحول إلى الانتكاس، وكأنه يتحول عن ثوابته الحقة الخالدة، ولعل المتنبي كان قارئاً نفسياً حين يقول:

 

خلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا    لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

 

نسأل الله أن يرزقنا قصد وجهه، وأن يسدد نفوسنا في ابتغاء فضله ورحمته"."2"

 

وصلى الله على نبي الرحمة؛ محمد وآله وصحبه.

 


المراجع:

 

1- لماذا نخاف النقد. د.سلمان العودة.

 

2- شكراً أيها الأعداء. د.سلمان العودة.

 

3- تجديد الوعي. د. عبد الكريم بكـار .

 

 

التدقيق اللغوي لهذا البحث: أفنان الصالح

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية