لا لن أستظرف وأقول لكم أني كنت أقصد أن القراءة ليست مهمة بل هي ضرورية. لا، لن أقول لكم هذا لأني -وببساطة- أعتقد بأن ما وراء القراءة له ذات القدر من الأهمية. منذ عقود ونحن نلوك الشعارات حول أهمية القراءة لأمة ناهضة، ونتشدق بماضينا الزاخر العامر بالمكتبات وتقدير الكتب، لكن -وبكل صدق ومكاشفة- ما نفعله فاشل جدا وسمج! ويبدو أننا نعوض عن ثقافتنا المفرطة في الشفاهية بالنظر إلى القراءة على أنها المخلص الفادي لمشاكلنا. إنها الشماعة الإيجابية، شيء يشبه نظرية المؤامرة لكن بالمقلوب. فكما أن المؤامرة هي سبب كل مشاكلنا وإخفاقاتنا، فإن القراءة هي الدواء السحري الشافي من كل الأمراض، والمخلصة من كل المشاكل.
أعرف الكثيرين من القراء النهومين الذين يقرؤون كتبا "جيدة"، ورغم ذلك لا أكاد ألاحظ فرقا يطرأ عليهم على مدى الزمن. قد يقول قائل أن متعة القراءة تكفى، وأن صيانتها المرء عن نشاطات غير نافعة أو مدمرة كاف جدا. لكن لماذا نرضى بالفتات وهناك وليمة؟ يقول قانون "باريتو" (يسمى أيضا بقاعدة 80:20) أن 20% من الجهد يمكن أن يعطينا 80% من الثمار، لكني أرى هذه القاعدة الثمينة معكوسة تماما لدى الكثير من القراء.
من أمة {اقرأ} إلى أمة {يتفكرون}!
يحثنا الله في القرآن الكريم على ما هو أهم وأرقى وأصعب من القراءة؛ التفكر. لا، لسنا أمة {اقرأ} فقط، نحن أمة {يتفكرون}! فـ{اقرأ} في سياقها قد تعني "رتّل". وحينما جاء جبريل –عليه السلام- إلى النبي – عليه الصلاة والسلام- لم يناوله رقا ولا ورقة ليقرأ منها، بل كان يريد منه أن يردد خلفه. وصحيح أن ذكر القلم ورد في السورة لكن ذكر القلم على أنه وسيلة للتعلم، أي تقنية من التقنيات التي تفضل الله بها على الناس، فالحديث هنا عن أفضال الله منها تعليم الإنسان الكتابة والتوثيق، وليس الحديث عن القراءة بالعين تحديدا. في مقارنة هذا، نجد الحض على التفكر في أكثر من عشرة مواضع في القرآن الكريم. فالتفكير عملية بيولوجية محتومة على البشر بل وعلى كثير من الكائنات غيرهم، لكن التفكر هو ما يميزنا، وعلى أساسه نلنا التكليف، وبه نختار أي النجدين سنسلك.
ما أريد قوله هو أن القراءة مهمة، لكن إفراطنا في تمجيدها أنسانا ما هو أعمق وأكثر ضرورة: التفكّر. القراءة هي الخطوة الأولى، وهي لازمة. هي "خشبة القفز" التي يستعين ينطلق منها السباح ليقفز في المسبح العميق. وكم هو ساذج من يقف على خشبة القفز بزي السباحة ويظن أنه صار سباحا ماهرا يستحق التصفيق. وواهم أيضا من يقفز من غير الخشبة، فيفقد الاتجاه والارتفاع الصحيحين، ويؤذي نفسه.
عن التفكر أحدّثكم
- التدبر والتفكر مرحلة تالية للقراءة، علينا أن "نقرأ قليلا، ونفكّر كثيرا" كما قال أحد الحكماء. للتفكر يجب أن نحشد ألستنا وأيادينا. والتفكير عملية بيولوجية طبيعية تحدث حتى لدى الكائنات الأخرى غير المكلّفة، فهي أيضا تفكر (تفكير محدودا بقدراتها) وتتخذ قرارات بناء على ذلك. لكن التفكر شيء خاص بنا، وإني لأستغرب من كاتب كبير مثل عبّاس العقّاد حينما كتب كتابا عنوانه "التفكير فريضة إسلامية"، وكان الأجدر أن يقول "التفكر فريضة إسلامية"، فالتفكير عملية قسرية، مكررة، وغير أصيلة.
- كثرة القراءة وحشو الرأس بما قال الآخرون قد يكون ضارا. من المهم أن نتوقف لنتنشق هواء خاصا بنا، ولنصنع آراءنا بأيادينا. وهذا ما يجعل القراءة النقدية العقلانية ضرورة. هناك من يقرأ كتب البشر قراءة متلبسة بروح المدرسية. يعامل الكتاب برقة متناهية، ويتحاشى أن يكتب عليه إلا بقلم الرصاص. وهذا طيب إذا كان القصد منه المحافظة على الكتاب وإطالة عمره، لكن الخوف أن يكون هذا التعامل دلالة على حالة نفسية تجاه الكتاب. هذه الحالة التي مررنا بها كلنا، حين نظن أن كل ما بين دفتين هو جيد وعظيم ورائع وعلينا اعتناقه. فلنقرأ بغرض تكوين رأي خاص بنا، ولا بأس أن نتعارك بأدب مع كاتب الكتاب، وأن نضع له ملاحظات على الهوامش. ولا تثريب إذا وضعنا له علامات تجب واستفهام، ووجوه عابسة أو ضاحكة. القراءة مهمة، لكن القراءة مع هيبة زائدة من المؤلف أو الكتاب تعني أننا إزاء مشروع تخريج فوج من الببغاءات!
- أمر خطير أن نقرأ قراءة عاطفية استلابية أو انتقامية. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما". البعض يكره كاتبا ما، فيفجر في الخصومة، فلا يقرأ له أبدا، أو يقرأ له ليتصيد الأخطاء ويصفي حساباته العاطفية معه. وهناك من يقرأ لكاتب يحبه، فيكون مستعدا للذوبان في كل ما يقول فلان. فلنخرج من شرنقة القائل إلى فضاء المقول الوسيع، وأنعم به فضاءً. على كل قارئ أن يصنع لنفسه مفرزة، تقيم وتحكم على الأفكار ضمن إطار أدب الاختلاف. ولا تخجل من الاختلاف معها. حينما تقرأ كتابا، تذكر أن الكاتب كائن بشري مثلك، فلا تقدسه ولا تدنسه! وكما أنّ الدول تتطور لتخرج من إطار القياديات الشخصية إلى دول المؤسسات، أظن أن علينا أن "نومأسس" قراءتنا!
- ليس هنا أسوأ من محدثي الثراء، إلا محدثي القراءة ومحدثي العلم! هناك من يقرأ بضعة كتب، ويظن نفسه أنه ملك مفاتح المعارف. فيأخذ ينظّر، وينصح، ويفتي، ولربما وصف العلاجات الطبية. ما أجمل ما قال الشافعي:
كلما أدّبي الدهــــــر * أراني ضعف عقلي
وإذا ما ازددت علما * زادني علما بجهلـي
وصدق القائل:
قل لمن يدعي في العلم معرفة * عرفت شيئا وغابت عنك أشياءُ
أقول هذا حتى لا نتورط بالعالم العلامة، والفاهم الفهامة، والخبرير النحرير، والمنظر الخطير، والأديب الأريب. وكل ما فعله هو أن قرأ خمسة كتب أو ستة في العطلة الصيفية. وطبعا أول ما سيصيبه جراء ما يفعله هو أنه سيتوقف عن القراءة، إذ يصل إلى مرحلة الاكتفاء ويظنه أنه من المعرفة بمكان بحيث لا يحتاج إلى أن يقرأ كثيرا، بل يكفيه ما تلتقطه أذناه هنا وهناك، والباقي متروك لعقله الفتاك! أول درس في أخلاقيات القراءة هو التواضع والتوازن. ومن دون هذا، يكون الانتقال إلى مرحلة التفكر مستحيلا، لأن طبيعة التفكر تقتضي النهم الدائم والشك الدائم أيضا. ولا أقصد بالشك الضياع التام والتشكيك في كل شيء، بل تمحيص الأمور وتقليبيها ووضع افتراض دائم بان الحقيقة قد تكون في الضفة الآخر، أو قد تكون مجزأة على ضفاف كثيرة أُخَر أكثر من أن تحصى. وهذا الإدارك بتشظي الحقيقة يتعارض مع فكرة الاكتفاء لأنها تقتضي الدعة والتسليم، والتفكر فيه شيء من القلق، بل كثير من القلق أحيانا.
وفي النهاية، لا خير في قراءة لا تجعلنا نشتبك مع الحياة! جميل أن نقرأ من أجل المتعة أحيانا، لكن فلنعلم أن القراءة المريحة خيار الكسالى أو السذج الذين لا يريدون أن يخرجوا من صدفاتهم المريحة، ولا يريدون أن يتعرضوا لأفكار تنفخ الغبار عن طاولاتهم الفكرية. نحن نقرأ لنعيش بشكل أفضل، لنعبد الله على وجه أكمل، ولنعمر الأرض كما أراد لنا أن نفعل. وهذا السعي والدأب والحراك تقتضي أن نسير لا سيرا جسديا وسعيا ماديا فقط، بل أن تظل عقولنا في سعي دائم بين صفا الحياة ومروتها، تتفكر وتبحث عن زمزم يتفجر فيروي الدنيا.