زكي نجيب محمود أحد أبرز الفلاسفة العرب في القرن العشرين، وأحد أبرز رواد ما سمي بالوضعية المنطقية، التيار الفلسفي الذي حمل لواء فكره العديد من الفلاسفة المعروفين، مثل: رسل، رايشنباخ، وايتهيد، حلقة فينا الفلسفية، ... إلخ. والشائع عن الدكتور زكي أن الاتجاه العلمي والعقلاني والوضعي هو الطابع السائد في فلسفته، في حين لا تتم الإشارة إلى توافره على رؤية دينية إسلامية مبنية على أسس علمية تخللت فلسفته، وهو ما نحاول حالياً الكشف عنه من خلال تحليل كتابه المهم، والموسوم ب: "رؤية إسلامية". واقتباساتنا لأفكار د. زكي نجيب أدناه هي حصراً من هذا الكتاب، ولذلك سيتم الاقتصار على هذه الإشارة رغبة في الإيجاز.

يفتتح زكي كتابه المذكور (ط 2، دار الشروق، 1993 م)، بطرح تساؤل مركزي، ولعل الانشغال بالاجابة على هذا السؤال هي التي دفعته إلى كتابة ما يزيد على ثلاثمائة صفحة من أجل الاجابة عنه. وهذا السؤال هو: ما الذي أصاب العالم الاسلامي، فتخلف حتى أصبح في آخر الركب الحضاري في هذا العصر، بعد أن كان قائداً ورائداً؟ دوائر الانتماء الثلاثة التي يتحرك في داخلها د. زكي بحسب ما يشير هي (الدائرة المصرية)، لأنه مصري، و(الدائرة العربية)، لأنه عربي، والثالثة (دائرة العالم الاسلامي) الذي ينتمي إليه.

يشرع د. زكي نجيب ببيان أن أحد أهم وسائل عودة العالم الإسلامي إلى موقع الريادة والقوة هو في جدية الاهتمام بمحاولات الكشف العلمي عن أسرار الكون، وعدم الوقوف عند الأسرار بل تحويل العلم إلى عمل في مجالاته التطبيقية التي تفعل حياة الانسان العلمية. هذه هي الدلالة الحقيقية لمعنى كلمة {إقرأ} أول ما نزل به الوحي بالقرآن الكريم على نبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام، (وهذه الاستخدامات اللغوية هي له). ولذلك، فالعلم هو الركيزة الصلبة التي تقام عليها أركان الإسلام، لأن مع العلم تدور القوة من ناحية الوجود والعدم، وإداة العلم الإدراكية هي العقل، فعن طريقه يهتدي الإنسان إلى النتئاج الصحيحة التي تستدل من الشواهد والمقدمات، ثم هو يعود فيهتدي بها في مرحلة التطبيق. وهنا يؤكد أنه يتعين على العقل أن لا يقف عند حدود الشواهد والمقدمات في أشكالها اللفظية، بل يتعين عليه الانتقال إلى عمليات التحليل والاستدلال والتطبيق. وهذا ما يضاعف المسؤلية على المسلم بأن يستمد من روح إسلامه القدرة على المشاركة الإيجابية في الكشوف العلمية، ومن ثم تحويل هذه الكشوف إلى مختلف نماذج النشاط البشري.

ثنائية الدين والعلم، يوضح زكي، يتفرع عنها تحديد مفهوم الحرية. فلا بد من التمييز بين التحرر من القيود على مختلف أنواعها، وبين معنى الحرية التي هي بالضبط قدرة الإنسان على امتلاك زمام أموره تجاه أي موقف من مواقف الحياة، إذ يتفاوت تقدير الموقف بحسب تقدير مفهوم الحرية وقيمتها الأساسية بالنسبة للإنسانية أفراداً وشعوباً.

لا بد من إزالة الوهم، يؤكد زكي نجيب، بوجود التناقض بين أن يكون الإنسان مؤمناً بعقيدته الدينية من جهة وبين أن يسعى إلى ما يسعى إليه أهل الغرب من إيجاد علم جديد، ومن ثم إقامة الحضارة على أساس ذلك العلم. فالاسلام ليس هو المسؤول عن تخلف الأمة الاسلامية العلمي الحالي، بل هو خطأنا في تشخيص أهمية العلم بأسرار الكون، والانتفاع بذلك العلم في الحياة العملية. وقد ابتدأ الخطأ من عدم القراءة الدقيقة للمفاهيم العلمية التي اختزلتها كلمة {إقرأ} التي افتتح بها الوحي الإلهي خطابه إلى البشر.

واللافت للنظر أن د. زكي نجيب محمود لا يدعو إلى القطيعة مع التراث والتاريخ بل يدعو إلى التواصل والاستمرارية. فلا بد من إيجاد علاقة توازن بعدم التوجه إلى المعيشة في الماضي بشكل كامل، وبهذه الطريقة تلغى جهود المعاصرين. لأن على هؤلاء المعاصرين تبرير وجودهم التاريخي بإثبات وجودهم ضمن اللحظة التاريخية التي يعيشونها.

يعتقد د. زكي نجيب بالعقيدة القرآنية {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. وأهم ما يجب تغييره، بحسب ما يرى، هو التطرف في العقيدة، هذا التطرف الذي لا يهيأ المجال أمام رؤية ما يكون عند أصحاب الاتجاهات الأخرى من حق، (هذه هي رسالة الغزالي في كتابه: الاقتصاد في الاعتقاد). ولذلك فالحياة الثقافية للإنسان شاملة للمستويات المتنوعة للإنسان أيضاً، وهي: العقيدة الدينية، والفن، والعلم، وغيرها.

هذه هي المقدمات الأساسية التي بنى عليها زكي نجيب محمود رؤيته الاسلامية. ويمكن القول أن هذه الرؤية تنبني بالدرجة الأساس على ثنائية الدين والعلم، فالدين هو المحرك الأساسي في الدعوة إلى العلم، ولا فهم علمي للدين بدون الإفادة من الإنجازات العلمية من أجل فهم الدين.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية