ربما يكون من نافلة القول أن نشير هنا إلى أن الحضارة العربية - الإسلامية في تاريخها الطويل قد تعرضت ولاتزال إلى عدد هائل من محاولات النقد والاتهام، أو الإهمال والاستدبار، أو التشويه والتآمر، وذلك على نحو لم يحدث مثله لأي حضارة في تاريخ البشرية جمعاء. لذلك نود تصنيف الأبحاث التي تقدم حول الحضارة الإسلامية من داخلها وخارجها إلى مجموعتين كبيرتين، نتناولهما بإيجاز شديد:   - أبحاث حول ماوصلنا بالنقل.   - أبحاث حول ماأنتجناه بالعقل.    أبحاث حول ماوصلنا بالنقل: نقصد بها الأبحاث التي تهتم بدراسة الكتاب والسّنة، وهذه الدراسات تسعى إما إلى إثبات صحة هذين المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي أو بطلانهما. وكما هو معروف فقد حاول الكثير من الناس على مر

القرون الطويلة الشك في مصداقيتهما التاريخية أو اللغوية أو العلمية أو التشريعية ..، وفي يومنا هذا تتكالب بعض الجهات البحثية "المؤدلجة" وبعض وسائل الإعلام المُسيرة على متابعة هذه المهمة. كما أن التاريخ يخبرنا بأن هؤلاء لم يجنوا من مثل هذه الأبحاث والدعاية المزيفة إلا كمن عاد بخفي حنين. أبحاث حول ماأنتجناه بالعقل: وهي الأبحاث التي تتناول النتاج المعرفي للعقل العربي- الإسلامي، سواءً على الصعيد الفكري أو على الصعيد العملي، ويمكن أن نصنف هذا النتاج إلى أربعة أنواع معرفية أساسية، وهي: 1- المعارف العلمية: تشمل مساهمات الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية. 2- المعارف الفلسفية: الفلسفة الإسلامية وتفرعاتها. 3- المعارف الفنية: مساهمات الحضارة الإسلامية في مختلف أنواع الفنون بما فيها اللغات وآدابها. 4- المعارف الدينية: وهي تشمل الفكر الديني الذي ابتكره علماء المسلمين الأجلاء، مستندين إلى فهمهم للمصادر التشريعية في الفقه والحديث والتفسير والعقيدة وكذلك طرائق التربية الإسلامية.   ويمكننا كذلك أن نصنف الأبحاث التي تقدم حول النتاج العقلي المعرفي العربي- الإسلامي، من حيث الغاية والهدف الذي تريد تحقيقه إلى ثلاث مجموعات أساسية، هي:  أبحاث تأريخية: هدفها أن توثق النتاج المعرفي للحضارة الإسلامية، في المجالات الأربعة التي ذكرت قبل قليل، وذلك لحفظها، وتمييزها عن نتاج بقية الحضارات الأخرى، وتقديمها للمجتمع الإنساني؛ لتساهم في تقدم الحضارة الإنسانية ككل. أبحاث نقدية: هدفها الأساسي أن تجري محاكمة نقدية للنتاج المعرفي للحضارة الإسلامية من جهة، والعقل الإسلامي الذي أنتج هذه المعارف أو طورها من جهة ثانية، وذلك لكي يسلط الضوء على الجوانب الإيجابية والسلبية لهذا العقل، وإعادة تقييم ما أنتجه من الناحية العلمية والعملية. وبالتالي فإن هذا النوع من الأبحاث يعنى بطرح مجموعة من الأسئلة المهمة حول العقل الإسلامي، مثل: 1- ما هي المشاكل التي يعاني منها العقل الإسلامي سواءً على الصعيد الفكري أو العملي؟ 2- ما هي الأسباب التي خلقت هذه المشاكل؟   3- ما هي الحلول المقترحة والإمكانيات المتاحة لمعالجة هذه المشاكل؟ أما على صعيد النتاج المعرفي فتكون الأسئلة من مثل: 1- ما مدى صحة مناهج البحث المستخدمة في النشاط المعرفي وصلاحيتها؟ 2- ما مدى صحة النتاج المعرفي ؟ وما مدى ملاءمته للمكان والزمان الذي يطبق فيهما؟ 3- ما هي العقبات والعوائق التي تعترض متابعة النشاط المعرفي واستئنافه؟  أبحاث إعادة الفاعلية: هدفها الأساسي أن تحاول الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن إعادة الفاعلية للعقل العربي- الإسلامي؛ ليصبح قادراً من جديد على ممارسة النشاط المعرفي؟ وهذا النوع من الأبحاث يجب ألا يكتفي بتقديم الحلول، بل كذلك عليه أن يقدم طرائق تطبيق الحلول المقترحة عملياً. فإذا كان الطبيب عندما يريد أن يعالج مرضاً جسدياً يطرح على نفسه ثلاث أسئلة أساسية، هي: 1- ما هو المرض؟ 2- ما هو سببه؟ 3- ما هو علاجه؟   فكذلك الأمر في الأبحاث التي تريد أن تتناول بالدراسة أمراض العقل الإسلامي، ومشكلاته، ونتاجه المعرفي، حيث يتوجب عليها أن تتوزع في ثلاثة محاور أساسية، هي: 1- ما هي مشاكل العقل الإسلامي؟ 2 –ما هي أسباب هذه المشاكل؟ 3- ما هي طرائق حلول هذه المشاكل ومعالجتها؟  وبينما يلاحظ المرء أن معظم الأبحاث التي قدمها الباحثون والمفكرون في هذا الإطار، إنما تعنى بالدرجة الأولى بالإجابة على السؤال الأول، أي تهتم بإبراز مشاكل العقل الإسلامي، والمشاكل المتعلقة بنتاجه المعرفي. فإنه يلاحظ بالمقابل أن عدد الأبحاث التي تعنى بالإجابة على السؤال الثاني الذي يبحث العوامل التي خلقت مشاكل العقل الإسلامي وعقباته، وبالتالي قيدت نشاطه وجمدت حراكه المعرفي تقل من حيث العدد والأصالة البحثية. أما عن الأبحاث التي تعنى بالإجابة على السؤال الثالث الذي يهتم بإيجاد الحلول المناسبة التي تستطيع إذا ما طبقت أن تخرج العقل الإسلامي من أزمته المعرفية الحالية، وتعيد إليه فاعليته الخلاقة، التي تمكنه من استئناف نشاطه المعرفي الذي بدوره سوف يسهم بإعادة إحياء الحضارة العربية- الإسلامية، كحضارة فاعلة في المجتمع الإنساني فإن المرء سوف يلاحظ ندرة مثل هذا  النوع من الأبحاث. ولعلّ قلة هذا النوع من الأبحاث لم يأت مصادفة، بل له أسبابه وعوامله الموضوعية، التي تتعلق بالإمكانيات المتاحة للباحثين العرب والمسلمين لإجراء مثل هذه الأبحاث، التي تتطلب أن تقوم بها مؤسسات ضخمة وليس أفراداً، وكذلك لتراكم المعوقات السياسية والاجتماعية والدينية، التي تفرض قيوداً مباشرة أو غير مباشرة على موضوعية مثل هذه الأبحاث، وكذلك يمكن أن نضيف عوامل ذاتية تتعلق بقدرات الباحث الذهنية والمعرفية واستعداده النفسي، فقد جرت العادة في المجتمعات والأمم أن يتولى مهمة التفكير والبحث في مستقبل الأمة ومعالجة قضاياها المصيرية حكماؤها وعباقرتها وعلماؤها وزعماؤها السياسيون. وإذا كان معظم زعمائنا السياسيين وحكمائنا وعباقرتنا وعلمائنا قد أهمهم أهلوهم وشغلتهم أموالهم عن قضايا أمتهم، فلا عجب إن وصلت أحوال مجتمعاتنا ومعارفنا إلى ما وصلت إليه اليوم من تخلف وجمود.      

كاتب وأكاديمي
عبد الحكيم شباط، أكاديمي وكاتب مقيم في ألمانيا، له العديد من المؤلفات والأبحاث العلمية والأدبية المنشورة باللّغتين الألمانية والعربية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية