القيم جمع قيمة، وقيمة الشيء سعره أو ثمنه، فالقيم وفق المعنى اللغوي هي حصيلة التقدير والتقويم، وما التقويم إلا تقدير الثمن الذي يجب دفعه مقابل الحصول على البضاعة في وقت ومكان معلومين. تمنحنا الدلالة اللغوية خطاطة أولى نرى الأمور من خلالها، فالقيم أولاً تقديرات بشرية وليست ترتيبات طبيعية أو تدابير ربانية، وهي ثانيًا نسبية تتغير بتغير المكان والزمان، وليست أزلية وأبدية. لم نستنفذ المعاني اللغوية بعد، إذ عندما نقول: لهذا الشيء قيمة، نود أن نعلي من شأنه، وعندما نقول عنه إنه بلا قيمة نحط من شأنه. وعليه، فإن التقويم سلم ترتب فيه الأشياء حسب تقديراتنا بين حدين هما النفيس والبخس، وبين الحدين مراتب كثيرة. ثم إن تقديراتنا للقيمة قابلة للتصحيح بموجب المعنى الاشتقاقي للفظ التقويم مادام تقويم الشيء هو جعله مستقيمًا وتصحيح ما به من اعوجاج. لنجمل الحصيلة ونقول: في عملية التقويم نمنح القيمة ونصحح الاعوجاج. لنترك الآن الحقل الاقتصادي (وهو الرحم المولد للاستعارات في هذا الصدد) ولنتحدث عن حقل آخر للتقويم لا نقدر فيه قيمة البضائع والسلع، بل نقوم فيه الأحكام، وخاصة أحكامنا الخلقية، ففي هذا المجال (إلى جانب الجماليات) تتجلى قوة التقويم بالمعنيين السابقين، أي نمنح قيمة لأفعال معينة وننزعها عن أخرى، كما نعمل على تصحيح هذه العملية ونصلح ما بها من عوج، فيصبح التقويم تربية وتهذيبًا. تسفر العملية الأولى عن إصدار الحكم (هذا حسن، وذاك قبيح. ذلك خير، وهذا شر...) وتعمل الثانية على إصلاح ما في الأولى من خلل. نطرح في هذا الصدد تساؤلين اثنين: على أي أساس نقوم؟ وكيف نقوم؟ وسنجيب عنهما من خلال استحضار نمطين من التفكير أحدهما قديم والآخر حديث دونما غوص في التفاصيل. ارتبط التقويم في الفكر القديم (اليوناني) بمنظور معين للعالم هو المنظور الكوسمولوجي. فلقد ذهب القدماء إلى أن الأشياء والكائنات التي يتألف منها العالم تشكل كلاً متكاملاً، حجمه محدود وشكله كروي وأشياؤه
متفاضلة في الشرف ومتراتبة في مدارج الوجود: فأعلاها مقامًا وأشرفها وجودًا الموجودات السماوية، وهي مراتب تتناقص قيمتها في الوجود كلما كانت أقرب إلى مركز الكرة، وهو الأرض. وما يمنح أجسام السماوات وكائناتها السمو والشرف الرفيع هو خلوها من العيب والنقص والتغير والتقلب. وأخسها وأدناها مقامًا هي أجسام الأرض التي تتصف بنقيض ما تتمتع به موجودات السماوات العلى. فالنقص يطولها والزوال مآلها والتحول ديدنها. على أن كائنات الأرض هي أيضًا مراتب ومدارج: أعلاها الإنسان وأدناها المواد الأولى التي تكون منها كل ما هو أرضي، وهي في ترتيب الفضل: النار والهواء والماء والتراب. وعليه فإن القيم المرغوبة والغايات المنشودة مبثوثة في ثنايا الكون العجيب المحكم الترتيب، وذلك ما تعنيه كلمة كوسموس القديمة. في هذا المنظور للعالم يعد الإنسان الكائن الأرضي الوحيد القادر على التطلع ببصره وبصيرته إلى السماوات العلى والتملي بما في الكون من تناغم ساحر وترتيب بديع ابتغاء جعل وجوده مشاكلا لترتيب الطبيعة وانسجامها. كانت الطبيعة إذن نموذجًا يستلهم ويوضع نصب العين في التنشئة الخلقية والسياسية عند القدماء. بيد أنه ما كل الناس سواء؛ فالناس معادن، بعضهم نفيس بالطبع وبعضهم خسيس بالطبع، وبناءً على ذلك قيل إن الإنسانية مراتب حظ البعض منها قليل وحظ البعض منها عظيم وحظ آخرين معدوم. وذلك ما ينبغي أن يضعه المربي في اعتباره عند التنشئة، أي أن يراعي تفاوت الطبائع والفطر، فلا يرتقي بمن يهذبهم إلى طور لا قدرة في معدنهم على تحمل ثقل شرفه. إن غاية التقويم بما هو تهذيب للطبع هي إظهار ما فيه من إمكانات وإخراج ما فيه بالقوة إلى الفعل. ولا يمكنك أن تجعل الحديد فضة أو النحاس ذهبًا. إن غاية التنشئة خلقية كانت أو سياسية (وهما أمر واحد عند القدماء)، إحقاق الحق والعدل، وهذان وغيرهما من القيم في المنظور الكوسمولوجي عبارة عن موازين كوسمية بمقتضاها ينزل كل واحد المنزلة التي يستحقها بالطبع وليس بالعمل. في العصور الوسطى اغتنى هذا المنظور بمعطيات دينية خصبته وألبسته لباسًا لاهوتيًا دون أن تغير جوهره. وأهم تلك المعطيات تعديل فكرة الطبع التفاضلية بفكرة الإنسانية الواحدة خلقيًا: فكل الناس من آدم، وآدم من تراب،و الله خلق البشر جميعًا "من نفس واحدة" ثم خلق من هذه زوجها، وبث من الاثنين " رجالًا كثيرًا ونساء"، ثم فكرة الفرد: إذ الدين يخاطب الفرد ويطالبه بإتباع الحق وينكر على الأفراد انصياعهم الأعمى لسلطان الآباء وأساطير الأولين، "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا"، حيث يحاسب كل فرد على ما عملت يداه. غير أن ما كان مبثوثًا في نسيج الكون أضحى الآن أوامر الله ونواهيه، وعلى كل مؤمن التقيد بها كي ينجو من وعيده ويفوز بوعده. سينهار هذا المنظور بانهيار أساسه الكوسمولوجي مع الثورة التي عرفها علم الفلك في القرن السادس عشر على يد كوبيرنيك. ففي النظام الفلكي الجديد كفت الأرض عن أن تكون أرضية وأصبحت كوكبًا سماويًا سيارًا، وانفتحت السماوات على آفاق اللاتناهي. الكون الجديد عالم مفتوح مادته واحدة، لا منازل فيه ولا مراتب، فما هو إلا حقل قوى تتصادم وفق قوانين ميكانيكية. لا تنطوي هذه الآفاق الرحيبة حد اللاتناهي على نموذج يمكن محاكاته عند تربية الفرد أو إدارة المجتمع. وبعبارة أخرى كفت الطبيعة عن أن تكون مرجعًا قيميًا، ولو صيغ المجتمع على غرارها لأصبحت القوة أساس الحق ولما كان ثمة حضارة إنسانية ولكان الإنسان مجرد حيوان يعيش تحت تهديد الطبيعة الخارجية القاسية وتحت تهديد طبيعته العدوانية. ثم إن الدين وإن حوى عناصر خلاقة فإن التأويلات التي تغلب عليه عند اعتناق أمم شتى له تصبح عامل فرقة واقتتال، وكل مذهب يدعي أنه يمثل الحق الذي لا مجمجة فيه. باختصار، دعت الحاجة النظرية إلى البحث عن أساس آخر صلب قادر على أن يكون مرجعًا نظريًا وعمليًا، وما ذاك الأساس إلا الفرد باعتباره ذاتًا مفكرة وحرة، أي إنسانًا قادرًا على أن يفكر ويقدر ويحكم ويقوم آخذًا المسافة اللازمة مع ميوله وتفضيلاته وأهوائه ومعتقداته حتى يأتي حكمه سديدًا، أي يجعل الأنا الراغب والمعتقد يخرس حتى يسمع صوت الأنا أفكر. في العالم الجديد أضحى بناء المجتمع سياسيًا وتنشئة الفرد تربويًا يقتضيان مصارعة الطبيعة خارجنا وفينا. فقوانين الاصطدام الميكانيكية لا تصلح نموذجًا لبناء عالم إنساني يحترم فيه كل فرد بما هو إنسان لا غير، وقوانين انفعالاتنا وميولنا تجعل كلًا منا، إن انصاع لها وحدها، لا يرى إلا نفسه فلا يقيم أي اعتبار لغيره. ومن يطالبنا بأن ننحي جانبًا مصالحنا الضيقة وميولنا الأنانية ونضع الآخرين في الحسبان عند الإقدام على الفعل إنما هو العقل، وهو يأمرنا بذلك إما مراهنة على المنافع أو تفاديًا للمضار، وعندئذ يكون عقلاً تقنيًا وأداتيًا، وإما لأن ذلك هو الواجب وحسب، دونما اعتبار للمنافع والمضار، وعندئذ يكون عقلًا عمليًا خالصًا (خلقيًا) أو قل إرادة خيرة. في الحالة الأولى يكون الباعث على الفعل هو المصلحة المحسوبة، ويكون العقل خادمًا لأغراض مادية. أما في الحالة الثانية فيكون الباعث هو احترام القانون لأنه قانون ويكون العقل سيدًا آمرًا. القيم هنا ليست غايات مبثوثة في الطبيعة، بل نماذج ومثل عليا يشيدها العقل الخالص من أغراض الحس لتكون بمثابة منارات توجه السلوك وتسدده. إنها ليست وقائع، بل آفاق مأمولة يوجب العقل على أي إنسان بما هو إنسان العمل على تحقيقها والمساهمة في إنجازها. ومجموع القيم بهذا المعنى يشكل خيرًا أسمى يجب أن يوجه السلوك كي تكون الأفعال شرعية (المطلب السياسي) أو خلقية بحيث يكون الباعث عليها احترام القانون (المطلب الأخلاقي). أما التحقيق التام لهذا الخير فأمر بعيد المنال، وما بمكنة الإنسان هو الاقتراب على الدوام منه من جيل إلى جيل. الخير الأسمى في الفكر القديم كامن في نظام الطبيعة الذي يجب استلهامه ومحاكاته ابتغاء العيش السعيد، وهذا أمر لن يتحقق إلا لصفوة من الناس هم من أهلتهم الطبيعة أفضل من غيرهم ليستجيبوا لنداء الكوسموس الداعي لتسلق المنازل نحو المدارج العلى. أما في الفكر الحديث فهو مثل أعلى تاريخي يقع أمامنا في المستقبل البعيد، والواجب الخلقي يأمرنا بالسعي للاقتراب منه بكل ما نملك من طاقة، وهو موجه لجميع البشر بما هم بشر، وختامًا أضع بين يدي القارئ هذا السؤال للتفكير: أين نحن من هذين النمطين من الفكر؟ أنحن كوسمولوجيون قديمون أم تاريخانيون حديثون؟