تسعى مختلف التيارات العربية المنتمية إلى إيديولوجيات مختلفة، إلى بلورة تصور متكامل للرقي بأوطانها ومن خلالها الرقي بالأمة العربية ككل، ونقصد بالأمة العربية الدول والكيانات التي تنتمي لثقافات المنطقة التي حكمها العرب منذ الإسلام خصوصًا بمختلف تنوعاتها الدينية واللغوية والاثنية والعرقية والطائفية والمذهبية...، وقد طرحت في هذا السياق عدة نظريات يمكن أن نجملها في تيارين رئيسيين، يضم الواحد منهما العديد من المرجعيات الفكرية والأطر النظرية، التي تتباعد أحيانًا وتتقارب أخرى، وهما التيار الحداثي الليبرالي وهو الذي لم ير بديلًا عن النموذج أو النماذج الغربية لتحقيق أي نهضة مرتجاة في عالمنا العربي ، باعتبار أن ما وصل إليه الغرب لا يمكن، بأي حال من الأحوال، الحياد عنه لمثاليته وكماله على مستوى الإطارات النظرية والتطبيقية التي نشاهد نجاحاتها بأم أعيننا في الأمثلة الكثيرة لنجاحات الدول الغربية، وفي مقالي هذا ليس الهدف نسف هذا الطرح أو إثباته، بقدر ما هو فتح باب لطرحٍ بديلٍ أو تكامليٍّ يمكن أن يسير إلى جانب الأطروحات الأخرى، والتيار الثاني الذي هو صلب اهتمامنا في هذا المقال هو التيار السلفي، والذي أريد أن أضع له تصورًا تصحيحياً سواء لدى المنتمين لهذا التيار أنفسهم أو لخصوم هذا التيار.
يرتبط مفهوم السلفية لدى الكثير من المهتمين بالتأصيل المصطلحي بالماضي، والسلفية في المعنى الأولي من سلف أي تقدم في الزمن، لكن للكلمة حمولات لغوية قد يستفاد منها لاستخراج مكنون الكلمة اصطلاحًا، فنقول سلفًا أي من تقدم من القوم و كان عبرة سواء بالإيجاب أو السلب، كقوله تعالى } فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين{(الزخرف 56)، وتحمل معنى السالفة وهي العنق ولا يمكن للرأس أن يقف صلبًا في الجسد إلا باتكائه على سالفة قوية، ونقول سلف الأرض أي سواها استعدادًا لتكون أساسا متينًا، وهذه المعاني كلها تحملها كلمة السلفية لدى من فهم جوهرها وصحيح اصطلاحها، بينما يعتقد خَطَأ وخِطْأ بعض متبنيها وجل خصومها أنها إحالة على الماضي الجامد، فتجد البعض ينادي أو يحارب السلفية التي تحيلنا إلى زمن سابق ليكون نموذج حياة صالح لكل زمان ومكان بحيثياته وتفاصيله الاجتماعية والفكرية المختلفة، وهذه ولاشك ماضوية تحيل إلى رجعية وتخلف فكري مبني على فهم خاطئ للتصور وللمنهج ككل، وهنا لا نتحدث عن الخصوصية الإسلامية فقط، بقدر ما نتحدث عن مبادئ كونية إنسانية منتشرة في كل الإيديولوجيات والطبقات الاجتماعية والبقاع الجغرافية، أناس اختاروا أن يكون حسبهم ما وجدوا عليه آباءهم و أجدادهم.
السلفية في ما نريد أن نطرحه للنقاش في المقال المتواضع هذا، سلفية من نوع آخر، سلفية تحيل على الماضي نعم، لكن ليس للوقوف عنده والقناعة به، وإنما اتخاذ هذا الماضي أساسًا لحمل سلسلة من الانجازات المجتمعية والفكرية على أساس قوي، إنه عودة إلى زمن نموذجي من تراثنا ليكون نقطة الانطلاق بدل الارتكاز على حاضر يتردى وسط تراكمات الفشل والانحطاط الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا الذين توالوا على نخر جسد هذه الأمة بما لم يكن في جيلها الأول، حتى استحال منهج الجيل الأول مغطى بل ملوثًا بأرطال من الغبار والرغام من صنيعة من تلا الجيل الأول النقي، إنها سلفية تنفض الغبار عن المنهج القويم وتعيد له الحياة لاتخاذه نقطة انطلاق بدل أن نبدأ من الصفر أو أن نرتمي في أحضان الآخر الذي يختلف عنا في أغلب الأشياء، وبدل أن نرضى بالارتكان إلى الآخر والاتكال على جهده وما صنعته يداه، سلفية رضيت بها أوربا حينما بدأت نهضتها اعتمادًا على الإرث اليوناني الإغريقي الروماني ولم ترضَ الاعتراف بالإرث العربي الإسلامي لها سندًا وعونًا رغم إنه كان كذلك، بينما نحن يسهل علينا أن نطمس ماضينا لنرتمي في أحضان الغربي، ولا غرابة إن ولد فكرنا هجينًا أو معاقاً بفعل عدم اعتراف الأب الشرعي به أو عدم تواؤم جيناتنا وجيناته منهجًا وفكرًا وخصوصيةً، هذا إن خلف تزاوجنا حملا من الأصل، إذ لا يتوالد الغير متجانسين، أوربا التي استفادت من منجزات العالم العربي الإسلامي الذي كان منارًا لها في قرون الظلام لم تجد بدا من إسناد حضارتها القائمة الآن إلى التراث الإغريقي والروماني، خوفًا من أن تشاب حضارتها بالغبش "العربي الإسلامي"، وقد شابها فعلًا، إذ لولا ترجمات القرآن إلى اللغات الأوربية منذ منتصف القرن الثاني عشر، لما وُجد السند لتفكيك الكنيسة الكاثوليكية ولما ظهرت النزعة الإنسانية بدل النزعة اللاهوتية السائدة آنذاك، ولما هدمت الكنيسة كليًا في قلوب الكثيرين من معتنقي ديانات التثليث بعد ظهور اللائكية التي شكلت رد فعل على تصرفات الكنيسة من جهة ورفض اعتناق الإسلام من جهة أخرى، وهذا الحديث يمكن الرجوع إليه في مقالة أخرى.
سلفيتنا إذن هي دعوة للرجوع إلى الجيل المتنور من تراث هذه الأمة، الجيل الذي فهم المنهج القويم، ليس للوقوف والرضى بمنجز هذا الجيل، على عظمته وسموه، وإنما لاتخاذه نقطة بداية صحيحة وصالحة للذهاب بعيدًا وسريعًا نحو منجز يليق بالعصر وبالوقت الحاضر، إنها من باب الرجوع خطوتين إلى الخلف للقفز فوق الحاجز، إذ القفز على أساس صلب خير من القفز على أساس مهترئ، والأساس المهترئ هو ما نعيشه اليوم في ظل التراكمات المخجلة التي حققتها الأجيال السالفة بعد الجيل الأول، وهنا يمكن أن نقول فعلًا إنه لا يصلح شأن هذه الأمة إلا بما صلح به سلفها، وبطبيعة الحال الركون إلى الجيل الأول هو ركون وانحياز لأدارته ومناهجه المستندة أساسًا على دين هذه الأمة، الإسلام النقي الذي بناه نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي اعتمد هو نفسه في منهجه على سلفية هي الحنفية أو دين إبراهيم عليه السلام، ولم يبنيه على ديانات الوثنية القرشية ولا على منجز الروم وفارس الذين كانوا أسياد ذلك الزمان، وحينما نقول بناه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا شك أننا نقصد البناء عن طريق الوحي حتى لا يذهب ذهن أحد بعيدًا عن المراد الصحيح للكلام، وبعد أن نكون قد وضعنا مصفاة المنهج في عقولنا يمكن بطبيعة الحال، أولًا: الاستفادة من نقاط الضوء العديدة التي ظهرت بعد الجيل الأول في أمتنا وهي كثيرة ومتعددة، و ثانيًا: الاعتماد على المنجز الغربي الهام والأساسي في تحقيق أي انطلاقة حقيقية، إذ لا يمكن لسياسة الباب المغلق أن تحقق شيئًا في ظل العولمة الحاضرة، و في غياب المصفاة التي هي منهج "السلفية" كما وضحناها اختصارًا في هذا المقال، فلن تكون لنا أي استفادة حقيقية من الآخر الغربي، ولنا في تجارب خديوي مصر أيام نابليون والتجارب الاشتراكية التي خاضتها بعض الدول المثل والقدوة، إذ فشلها جاء نتيجة لغياب المصفاة السلفية المتوافقة مع تراثنا وخصوصيتنا وحتى وجدان سواد الأمة.
ياسين گني
للاتصال
https://www.facebook.com/fommiwmagal