إن المهتم بمبحث الإعجاز العلمي في الإسلام قد يسجل ملاحظة أساسية، مفادها أن بعض المتخصصين في هذا العلم يحاولون جاهدين إثبات أن الكثير من الحقائق الفلسفية والفيزيائية والفلكية والطبية، التي توصلت إليها العلوم الإنسانية والحقة المعاصرة سبق للإسلام أن أثبتها قبل حوالي خمسة عشر قرنًا، سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية. وهذا ما يترتب عنه نقاش ساخن في المشهد الثقافي العربي والإسلامي بين مختلف التيارات الدينية والفلسفية، ينحرف فيه هذا النقاش أحيانًا عن مساره الموضوعي، فيستحيل النقد البناء انتقادًا هدامًا، وينقلب الحوار الهاديء إلى تشكيك وتبخيس واتهام.


قد يرى البعض أن علماء الإعجاز العلمي يمارسون من خلال استحواذهم المتكرر على نتائج الاكتشافات العلمية المعاصرة ونسبتها إلى الإسلام نوعًا من الاحتكار المعرفي. وقد يذهب البعض الآخر إلى أن الادعاء بالسبق التاريخي للإسلام إلى إثبات تلك الحقائق، هو في واقع الأمر ادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة. وقد يخلص فريق آخر إلى أن هذا الادعاء بامتلاك الحقيقة وذلك الاحتكار المعرفي من شأنهما أن يقفا سدًا منيعًا في ربط جسور الحوار الجاد بين شتى مكونات المجتمع الإنساني على اختلاف معتقداتها وثقافاتها وأعراقها ولغاتها.

إن استمرارية هذا النوع من النقاش داخل منظومتنا الثقافية يعمق الفجوة المعرفية بين مختلف التيارات والتوجهات، بدل تجسير تلك الفجوة عن طريق تقريب وجهات النظر واستثمار النظريات المعرفية المعاصرة لأجل فهم التراث واستيعاب ما استشكل من النوازل والأحداث. ولعل المخرج من هذا المطب لا يتأتى إلا بالقراءة المتأنية والمعمقة لما يقوله الإعجاز العلمي عن الاكتشافات العلمية المتواصلة، ومن ثم الحكم بعين العقل لا العاطفة على تأويلات علماء الإعجاز التي عادة ما تتم في ضوء النصوص الدينية من الكتاب والسنة.


أود أن أتوقف في هذه المقالة عند مثال يرتبط بعلامة كبرى من علامات الساعة كما يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه، رواه الصحابي الثقة أبو هريرة، يقول فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها فذاك حين (لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا)".  بالإضافة إلى هذا الحديث هناك أحاديث كثيرة متواترة حول هذا الموضوع لا يمكن التشكيك في صحتها.


لقد فسر بعض علماء الإعجاز العلمي بتفسير هذا الحديث في ضوء اكتشافات علمية فلكية متعلقة بعلوم الكواكب والأجرام معتمدين منهج القياس، أي قياس ما حصل لكوكب المريخ سنة 2003 على ما سوف يلحق بالكرة الأرضية في المستقبل القريب، إذ تم ملاحظة تباطؤ حركة الكوكب الأحمر المعتادة نحو الشرق، لتتوقف تمامًا، فيتحرك من جديد، لكن في اتجاه عكسي نحو الغرب! (ينظر الموقع العلمي: www.space.com).


قد يقول قائل أن هذا القياس غير منطقي، فالبون شاسع بين الأرض والمريخ. إلا أن ما يعزز هذه الفرضية هو الخبر الذي كشفت عنه وكالة ناسا الفضائية شهر يوليوز الماضي، مؤداه أن الشمس بدأت تقترب من أن تشرق من جهة المغرب، وذلك بسبب انقلاب الحقل المغناطيسي الأرضي، الذي سوف تترتب عنه الحركة العكسية أو الاتدادية، وهو ما يعرف في علم الكواكب بـ Retrograde Motion، حيث سوف تطلع الشمس من الغرب بدل الشرق. وقد انتشر هذا الخبر في الكثير من المواقع الرقمية الدولية والعربية التي نقلته من الموقع العلمي Live Science.


وحتى نتثبت من حقيقة هذا الخبر عدنا إلى مصدره الأصلي، الذي هو عبارة عن مقالة علمية قصيرة كتبتها الإعلامية وعالمة الأحياء كيللي ديكرسون حول تزايد ضُعف الحقل المغناطيسي الأرضي عشر مرات عما كان عليه، وهو عبارة عن غلاف دائري يقوم بحماية كوكب الأرض من الانفجار والإشعاعات الشمسية القاتلة، وما أن يتوقف عن أداء وظيفته سوف تحل كارثة عظمى بالكون. حسب تقدير العلماء يتحدد ضُعف الحقل المغناطيسي 5% أثناء كل قرن، غير أن المعطيات الجديدة تُظهر أن الحقل أصبح يضعف 5% كل عشر سنوات، أي عشر مرات أسرع مما يتصور. كما يرى الباحثون أن ضُعف الحقل المغناطيسي لن يؤدي بالضرورة إلى قيام الساعة أو نهاية الحياة على الأرض، غير أنه سوف يلحق أضرارا كبيرة بالشبكات الكهربائية وأنظمة التواصل، ويؤثر بشكل سلبي على التكنولوجيا، بل ويخلق الفوضى على الكرة الأرضية. (ينظر كيللي ديكرسون في الموقع: www.livescience.com).


هذه حقائق علمية صرفة لا تمت بصلة إلى الدين، بل إن أغلب العلماء والباحثين الذين توصلوا إليها بعد عقود من الملاحظة والبحث والتجريب، لم يعتقدوا على الإطلاق أن النصوص الدينية (الإسلامية) تتضمن مثل هذه الإشارات العلمية، ومنهم من لا يؤمن أصلا بالدين، ويرى أنه مجرد مرحلة سابقة من مراحل التفكير الإنساني تقع بين الأسطورة والعلم.
تُرى كيف يمكن استيعاب هذه المفارقة الغريبة؟ نصوص دينية جد قديمة تتضمن حقائق علمية لم يتمكن العلم من اكتشافها إلا بعد مرور حوالي خمسة عشر قرنًا من الزمن على ظهورها! ألا يبعث هذا على العجز عن فهم هذه المفارقة؟ ومن العجز ينبثق الإعجاز الذي يحيل على الشيء إذا عجز العقل عن فهمه وكشف حقيقته، وقد قال الليث قديمًا، كما ورد في لسان العرب، أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه.


إن تنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بطلوع الشمس من المغرب في آخر الزمان، قد يحسبها اللا ديني أو غير المؤمن محض خرافة، كما صنع مشركو قريش أثناء البعثة النبوية، إذ كانوا يسخرون من معجزات الرسول وكراماته، غير أنه بحكم الثورة العلمية والتكنولوجية انقلب ما كان يحسب خرافة حقيقة، وصار ما كان يبعث على السخرية مدعاة للإعجاب. وهذا ما ينطبق لا محالة على "حديث طلوع الشمس من مغربها" الذي أثبت اليوم علماء وكالة ناسا الفضائية صحته (ربما) دون أن يسمعوا عنه شيئا!


بناء على ما سلف ذكره، يظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتمتع ببصيرة استشرافية نادرة، تتجاوز الواقع المعيش نحو المستقبل البعيد الضارب في المجهول، وهذا لا يعني أنه كان يعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه دون سواه، وإنما كان يستشرف (بإيحاء من الله) المستقبل الذي هو "انعكاس على الزمن لآثار ونتائج أعمالنا أو عدم عملنا اليوم"، حسب تحديد علماء المستقبل، لذلك يمكن اعتبار نبي الإسلام أول عالم مستقبليات في التاريخ، لا سيما وأنه، حسب ما يستكنهه المفكر المهدي المنجرة، لو لم يتوقع "المستقبل في فجر الإسلام، ما كان هناك اليوم مليار و200 مليون من المسلمين". (الحرب الحضارية الأولى، ص 293، 297).

 

التدقيق اللغوي: هبه العربي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية