مشكل التجديد:

 
التغير والتطور والتبدل سنة كونية طبيعية، فكل شيء يتغير، لا شيء يبقى على حاله. ويظهر هذا التغير على الإنسان، مثلاً في أدواره العمرية المختلفة، طفولة، فشباب، فشيخوخة، فموت. ويظهر في تجليات الطبيعة المختلفة، وجود فعدم، وهكذا. يتقادم العهد على الأبنية عمرانية أو فوقية – فكرية فتغدو الأبنية متكلسة مهترئة صدئة، بفعل عامل تغير الزمن وتطور العقل وتحولات المكان فتصبح الحاجة ماسة للتجديد تلافيًا للتكلس والتحجر، ولتغيير الأشكال الخارجية للفكر بتغيير بناءاته الداخلية العميقة بالتزامن مع تحولات التاريخ.



 

يؤكد هيجل نظام تعاقب المنظومات الفلسفية والذي يحدث في التاريخ بشكل يماثل تعيينات مفهوم الفكرة في اشتقاقها المنطقي. وإذا تم تجريد المفاهيم الأساسية للمنظومات الظاهرية لتاريخ الفلسفة وتجريدها عما يلحق شكلها الخارجي فبهذه الطريقة يمكن الحصول على مختلف درجات التعين الخاص للفكرة في المفهوم المنطقي الخاص بها. ويقرر هيجل أنه لا مناص من الاعتراف بهذه المفاهيم المحضة من خلال ما يتضمنه الشكل التاريخي الخارجي، وعلى الرغم من إن التعاقب هو تعاقب زمني في التاريخ وإنه يتميز عن تعاقب نسق المفاهيم. ولمتابعة تطور الفكرة لابد من امتلاك معرفة الفكرة، أي في الإرشاد إلى هذه الفكرة وإلى شرح الظواهر بمقتضاها، أو ظاهرة الفكر، بمعنى كيف تتبلور الفلسفة كظاهرة في الزمن وأن يكون لها تاريخ. إن وجود الفكر كان فعله، والطبيعة كما هي كائنة تغيراتها هي عبارة عن تكرارات وحركتها حركة دائرية. وينص هيجل قائلاً: "إن هذا الموجود (Dasein)، هذا الوجود في الزمان، ليس فقط لحظة من لحظات الوعي الفردي عمومًا التي تكون بصفتها هذه لحظة متناهية جوهريًا، وانما تكون أيضًا لحظة من لحظات تطور الفكرة الفلسفية في عنصر التفكير". [1]

وإذا كان كل شيء طبيعي – إنساني يخضع لقاعدة التطور والتحول والتبدل وما ينتج عنه من تغير، وجب أن يكون علم الكلام منسجمًا مع قاعدة التحول المذكورة، تلافيًا لمشكل التلاشيء الصدأ. وهذا ما تبحث فيه ورقتنا الحالية. على أن يكون التطور المذكور مستندًا إلى المبادئ الدينية الثابتة، وهذا أمر هام للغاية.

    

ما هو علم الكلام الجديد؟

 

علم الكلام المعاصر يتعامل مع غربة الواقع وأزماته، محاولاً وضع موقف من التراث بوصفه ماضيًا، على أساس عاملي الزمان والمكان، والكشف عن رهانات الحاضر، من أجل تأسيس جدلية الأصالة والمعاصرة، واستدعاء نظام التراث ضمن نظام الاجتهاد الكلامي المعاصر، تأكيدًا لمقولة الصيرورة والتحول، ورفض السكونية اللاتاريخية والاستئناف المستنسخ الكامل أو شبه الكامل للأفكار التاريخية. الاجتهاد الكلامي المعاصر يحاول التمييز بين المقدس وغير المقدس، الإلهي والبشري، الدين والمعرفة البشرية الدينية. أو بين الكتاب وتفسير الكتاب. وينفتح على المنجزات الجديدة للعلوم، وبالأخص العلوم الإنسانية: الهرمنيوطيقا، وعلم والاجتماع، والانثروبولوجيا، وفلسفة العلوم وغيرها. [2]

    

لماذا تجديد الكلام؟



لكل عصر مشاكله ورؤيته التي تنبثق من طبيعته وتكون مرتبطة بشكل كبير بالتغيرات المتنوعة والصراعات الناتجة عنها. والفكر الإسلامي، وبالأخص علم الكلام ما هو إلا محاولة لهضم تلك التغيرات والصراعات في ضوء أصول الإسلام وقواعده. الحلول التي يقدمها الفكر في أي عصر لا يمكن أن تكون هي الإسلام من حيث هو وحي. المطلوب أن يقوم الفكر الجديد في العصر المتأخر بعملية تواصل عميق مع الفكر الذي تقدمه من خلال موازنة دقيقة تعبر عن المتغيرات الجديدة، ليكون الفكر الجديد في العصر الجديد اكثر تعبيرًا عن أصول الإسلام في ضبط الحركة الاجتماعية. وبهذه الطريقة يكون الفكر الإسلامي حيًا متواصلاً مع ما سبقه ومتواصلاً مع ما عاصره. وهكذا فالفكر الإسلامي هو ليس محاولة  اجتهادية واحدة، وإنما هو مجموعة من الاجتهادات تحتمل الخطأ والصواب. [3]

 

خطوات عملية:



1- يقترن تجديد علم الكلام بمحاولة تقديم تعريف أو تعاريف جديدة له بحيث تنسجم مع الروح المعاصرة للعلم وللواقع ولمشكلاتهما معًا.

2- لعل واحدًا من أهم وسائل التجديد هو الإستفادة من العلوم المعاصرة، وبالأخص العلوم الإنسانية، التي توفر فرصة هائلة لتقديم خريطة شاملة بحسب ما وصلت إليه من انجازات حول الإنسان وتطلعاته وقضاياه.

3- فسح أكبر مجال ممكن من التسامح والتعددية لمناقشة القضايا اللاهوتية بحرية، واعتبار ما يحدث في هذه النقاشات اجتهادًا عقليًا يماثل بالضبط ما يحدث في العلوم الفقهية. فالمجتهد في العقليات حاله حال المجتهد في العلميات قد يخطأ ويصيب. كل هذا يفسح المجال لحرية الفكر، ويضيق الطريق على إخراج الآخر من الصراط المستقيم والطريق القويم.

 

[1] هيجل: "محاضرات في تاريخ الفلسفة: مقدمة حول منظومة الفلسفة وتاريخها"، ترجمة د. خليل أحمد خليل، ط 2، مجد: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1423 ه – 2002 م، ص 30 – 40.

[2] الأفكار أعلاه لعبد العزيز صقر ود. عبد الجبار الرفاعي، أنظر: د. رواء محمود حسين: "إشكالية الحداثة في الفلسفة الإسلامية المعاصرة – دراسة وصفية"، ط 1، دار الزمان، سوريا، 2010 م، ص 243. وقد بحثنا علم الكلام الجديد بشكل مفصل في كتابنا: "إشكالية الحداثة"، المذكور، القسم الثاني: "إشكالية الحداثة – تطبيقات"، الفصل الثاني: "علم الكلام الجديد"، ص 243 – 317.

[3] د. محسن عبد الحميد: "الفكر الإسلامي – تقويمه وتجديده"، ط 1، دار الأنبار، العراق، 1987 م ، ص 49 - 50.

 

 

التدقيق اللغوي: هبه العربي

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية