ترق الدنيا الى أي غاية سموت إليها فالمنايا وراءها
ومن كلفته النفس فوق كفائها فما ينقضي حتى الممات عناؤها
ـأبو العتاهية –
قول ج.لويس ديكنسون:"العدالة قوة، وإذا لم تستطع أن تخلق شيئاً؛ فإنها تستطيع على الأقل أن تدمر، ومن ثم فإن السؤال الذي يواجه المستقبل ليس هو السؤال هل ستنشب ثورة؟ وإنما هل ستكون هذه الثورة نعمة أم نقمة". يحاول رجال الدولة الوطنية أن يزرعوا فينا الاعتقاد بالديمومة للوضع الراهن، وهم مخلصون لنا في عملهم من أجل حماية الأرض،ثم يتمسكون بمبدإ السيادة على وحدة الأرض التي يشترون الأسلحة من أجلها. لكن الحقيقة أن قيام دولة جديدة ليس بالعيب الذي تراه الدولة الوطنية خطرا عليها؛ بل بالعكس فنحن لا ننكر أن التاريخ يقدم لنا بعض الشرعية في حكمهم لنا؛ لكنه لن يكون أساس الحكم، ولقد حاول الكثير من الرجال والنساء طرح قضية الوحدة العربية للعالم العربي وقدموا أرواحهم في سبيل ذلك باسم الإسلام وباسم القومية العربية، ويرى المثقفون أن ظهور دول جديدة في الجغرافيا العربية الأفروسيوية هو تفكيك للوطن الذي لا نستطيع تعريفه التعريف اليقيني الذي يجعلنا نشعر بالارتياح له؛ فالحكومات الوطنية تحاول أن تجعل لها تاريخا خاصا وبأحداث عرضية غير مهمة في التاريخ العربي الحقيقي، و قد تكون هذه الأحداث تتعلق بانقلاب عسكري بسيط يتحول إلى عيد وطني تحت مسمى الثورة، ومناسبة تاريخية تخدع الشعب المغلوب على أمره، وفي حقيقة الأمر هذا الانقلاب هو مثل حادث سير في الطريق لن يغير في التاريخ قيد أنملة، ونحن نعلم أن خرائطنا الجغرافية رسمها الرجل الأبيض الذي قسمها مثلما كانت المصلحة الاستعمارية بين الدول الأوربية، ثم تشكلت الصراعات بعد استقلال معظم الدول العربية وظهور الدول الوطنية، والغريب في الأمر أن رجال الحكومات الوطنية لازالوا يرجعون إلى الأرشيف الأوربي في حماية هذه الأراضي، ومنهم من يقدم البترول رشوة من أجل اعتراف الرجل الأبيض بحدودهم الأرضية (البترول مقابل المشروعية).
أريد بالشعب العربي أن يرتبط تاريخه بالقرن العشرين وهو قرن مظلم وغير مشرف وكله هزائم، ولا أحد يهتم بالتاريخ الحقيقي الذي يتكلم عن العرب؛ التاريخ النقي الذي كنا فيه نتكلم اللغة العربية بالفصحى بدون لغات عامية غير مكتوبة؛ التي لا ينكرها أحد، رغم أن الفصحى تبقى اللغة الرسمية لأغلب الدول العربية فلم تمنع الحكومات الوطنية التكلم باللغة العامية إلا أنها تحارب كل من يجعل هذه اللغة هوية لمجموعة أو أقلية من الشعب الذي تسيطر عليه، بل تحاربه باسم السيادة والدستورية وكلام فارغ يرتبط بالإسلام، لكن الحقيقة أن الدول الجديدة التي قد تظهر في المستقبل والحركات الانفصالية هي في الحقيقة نوع من التطور والتغير للوضع الراهن، وعمر الحكومات الوطنية أصبح أقصر لأنها توقفت عن الإبداع والعطاء التاريخي، ومن حق أي مثقف أن يفكر في الدولة المثالية (اليوتوبيا)، ولقد فكر الفلاسفة في القديم في المدينة الفاضلة منذ عهد أفلاطون وهي المدينة التي تحاكي الجنة الدنيوية التي ينعم فيها الإنسان بالعدل؛ لكن المدينة الفاضلة في حقيقة أمرها هي انقلاب على التاريخ الإنساني؛ فهي بدون تاريخ للذي يريد أن يجلس على الكرسي الحكومي أن يجعله مصدر الحكم ومصدر الشرعية،من حق أي شخص أن يفكر في المدينة أو الدولة التي يريد أن يعيش فيها، ويرفض القهر الحكومي الذي ولد فيه بدون إرادته، وهذا ما وفرته العولمة للعالم؛ الحق في صناعة المعلومة، حرية تنقل الأفكار الجديدة عبر النت، فلم يصبح الكتاب أو الفيلم الممنوع يهرب عبر مراكز العبور الحدودية بين الألبسة في الحقائب، وهكذا فإن فكرة الدولة الجديدة غير الوطنية هي مشابهة للنظام العالمي الجديد في الطريق؛ لكن ليس في المضمون، وهي أمل الشعوب العربية في قيام دولة عربية أو دول عربية لا تعتمد على التاريخ القريب المرتبط بالوصاية أو الاستعمار العثماني أو الاستعمار الأوربي. من له مصلحة في منع دولة جديدة من الظهور على جغرافيا العالم، وقد تظهر دولة واحدة جديدة تجمع مجموعة من الدول العربية وهي ليست بالطبع دولة تستعمل مرة واحدة ثم ترمى؛ لأن الوضع الراهن الخطير على العروبة يستدعي ظهورها للوجود؛ فهي لا تقوم على الوحدة الأرضية الزائفة التي يحاول السياسيون أن يجعلوا منها فكرة شامخة يفتخرون بأمجاد تشبه قصص الأطفال، والمؤسف أنها ليست أمجادهم، ثم يتهمون كل صوت مخالف بالخيانة. أليست حرية الفكر من أقدس الحقوق؟ من حق أي شخص كما قلت أن يفكر في الدولة المناسبة لحياته والتي ينعم فيها بالعدالة، وأن يتلقى حقوقه بكل كرامة؛ لا أن يرغم على التكفف، فهذه الحكومات غير قادرة أن توفر لك سقف بيت تعيش فيه، أو تجمع القمامة التي في شارعك أو حيك الذي تسكن فيه، وتفكر في القنبلة النووية وعلى حساب عمرك القصير الذي ينتهي بالموت، وأنت تعلم بأنك تعيش في مشاكل تعودت عليها حتى أصبحت تبحث عن حل لها، والوقت يمر ولازلت في الغرفة المظلمة نفسها، ثم يصيبك اليأس، وتتحول إلى كائن شبه تحت أرضي(خلد) لا يرفع رأسه إلى النجوم.. لا ينظر إلى السماء؛ لأنك فقدت الأمل في التغير، لكن الحقيقة أن التاريخ يكتب بالدم والدموع والعرق والحكمة التاريخية التي أكدت أن الحكم يؤخذ ولا يعطى، أن رجال الحكومات الوطنية رغم اختلافهم غير مستعدين لأن يقدموا لك شيئا؛ فأنت بالنسبة لهم عزيزي القارئ مجرد رقم صامت من الشعب الذي يسيطرون عليه، وهذا الرقم لا يجب أن يفكر أو أن يكون له صوت؛ لهذا فأنت لا يحق لك أن ترتقي إلى طبقة أو عائلة أو قبيلة حاكمة؛ لأنهم مارسوا عليك عملية تأصيل طبقي.. وضعوك باسم التاريخ في طبقة اجتماعية تحت اسم "مواطن"؛ الذي في كل معاملة إدراية عليه أن ينتقل بين المصالح الحكومية ليشكل ملفا ليفوز بوظيفة لا تساوي شيئا ولا تلبي طموحك؛ فأنت خارج العملية الإنتاجية الصناعية، فتبقى تحلم على أمل أن يكون لك سقف بيت؛ لكنك تعلم حتى وأنت قد فزت بالوظيفة بأن راتبك بالكاد يكفي لأن يوفر لك خبزا لعائلتك، ثم مع مرور الوقت تكتشف أنك خدعت باسم الدولة الوطنية، وأنك في حقيقة الأمر لم تستفد من الولاء واحترامك للقانون؛ وهذا من خلال صمتك على حقوقك المضمونة التي هي حقوق إنسانية، لأنك صنعت طاغية وحاشية كبيرة من حوله لا تحترم القانون، تنهب في كل شيء باسم الوطنية، والمؤسف أنك عندما تكتشف ذلك تجد أن الوقت قد فاتك لتغير الوضع، وحتى محاولة التغير، وهذا لأن الحقيقة المرة أن كل من يدعي الوطنية التي يحكمك بها هو في حالة صراع على تقاسم الريع مهما كانت طبيعته؛ لهذا ترى الفرد الأوربي لا يتنازل على أبسط حقوق تراها أنت تافهة، ولقد رأينا خروج طلاب المدارس الثانوية الفرنسيين للتظاهر في 23/02/2006م ضد قانون عقد العمل المؤقت CPE رغم أن القانون لا يعنيهم مباشرة؛ لكنهم خرجوا معبرين عن سخطهم وشعورهم بتهديد مستقبلهم، وهذه الحالة صورة لثورة الحاضر على المستقبل؛ لأن القانون سيرهق مصير الطالب الثانوي الذي لم يبلغ عمره ثمانية عشر في المستقبل في كسب منصب عمل دائم، ورغم أن هؤلاء الطلاب لم ينتسبوا للنقابة إلا أنهم خرجوا إلى الشارع ضد القانون وضد الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
وقد ترى هذه التظاهرات تلقى من يسمعها وتفتح باب الحوار مع السلطة في الدول الأوربية، أما في العالم العربي فلازال الشباب العربي لم يجد السلطة التي تسمعه؛ لأن المؤسسات الدستورية معطلة ومحتكرة على فئة معينة من الشعب؛ هي أشبه بما يجري في الحكومة الوطنية مع الشباب العربي بعقدة أوديبOedipus complex؛ لهذا فقطع الحبل السري مع هذه الحكومة التي تدعي الوطنية أمر صحي للأجيال القادمة، ولا يحق لأي كان أن يحكم باسم الوطن أن يزايد باسمه مثله مثل الذي يطمح أن يحكم باسم الدين وأن يزايد فيه على بقية الشعب، فمن حق أي شخص أن يحلم بدولة تضمن له الحياة الكريمة بدون أن تجعل منه عبدا لجماعة حاكمة استولت على السلطة بالعنف واستعمال القوة، وهذا الحلم يحتاج إلى الشجاعة وإرادة صادقة من أجل تغير الوضع القائم الذي يسوء يوما بعد يوم بسبب غياب المسؤولية والمحاسبة على سلوك الأفراد الذين فقدوا مشروعيتهم لأنهم لم يقدموا الإبداع المطلوب لبقائهم في الحكم؛ لأنهم لم يقدموا الحلول المناسبة، ولم يتمكنوا من الإجابة عن الأسئلة المصيرية لشعوبهم. وهذا الشخص الحالم يشعر بالخوف من المجهول، لكن التاريخ يجيب في الكثير من المرات على قيام دولة جديدة أو ظهور فكرة جديدة ناقلة؛ لأن التاريخ يعترف بذلك الصراع العادل بين القديم والجديد، ونحن نعلم بأن الحكومات الوطنية ظهرت بعد سقوط السلطنة العثمانية (سقطت السلطنة العثمانية في الوقت الذي بدأت تفكر في إنشاء دستور) فهي حدث استثنائي عرضي؛ أي أنها ظهرت لملء فراغ السلطنة التي كانت مسيطرة على أغلب الدول العربية الحالية. ولا نريد أن نركز على هذه الحقبة التي لم تشكل فارقا كبيرا في تاريخ الحكومات الوطنية التي لم تكلف نفسها العناء ولا حتى المجهود لتشكل دولا قائمة على أساس صحيح؛ وهذا لكونها كانت في أغلبها حكومات استيلاء على الميراث العثماني بحدوده الجغرافية وبأنظمته، ولازالت بعض الكلمات الحكومية متداولة في اللغة العامية مما يدل أنها ليست حكومات وطنية كما تدعي؛ حيث بقيت جامدة لم تتجاوز المرحلة التي استولت عليها؛ فهي مستبدة وعشوائية، والشعب يدفع ثمن أخطائها المتكررة في غياب النظرة المستقبلية وغياب المشروع القومي العربي الكبير الذي حاولت مصر والعراق وسوريا تجسيده؛ والذي فشل بسبب الأنانية والتنافس الكاريزمي للقيادات التاريخية؛ التي لازال الفرد العربي يحن لحكمها ويتغنى بأمجادها، وبدأ بالفعل يرى الفارق بين القومية التي تعتمد على الدم الأصيل والوطنية التي تعتمد على الدم الهجين؛ عندما اندلعت الحرب في منطقة الخليج العربي. فكل شعب مصر يحن إلى رجل يكون فيها مثل جمال عبد الناصر الذي كان يقول أنا عربي، وفي كل دولة عربية تجد ذلك القائد الذي كان يقول أنا عربي، وهؤلاء القادة لن يظهروا في ظل هذه الحكومات التي لا تعترف بالدم الجديد ولا تثق بالشباب العربي المتنور المستقبلي القادر على مواجهة المستحيل بكل واقعية؛ لأنه يمتلك قدرات تصل إلى النجوم، وهذا الشباب يحتاج إلى دولة قوية هدفها التحدي والمشاركة في الحضارة العالمية مثلها مثل الصين أو روسيا أو اليابان أو الهند؛ في مواجهة الحضارة البيضاء بقيادة الغرب. فالتاريخ ليس دينا أو سياسة؛ لكنه في حقيقة الأمر هو خليط بينهما..شيء يشترك فيه الدين مع السياسة، والعنصر المحرك فيه الإنسان.
فالأمة العربية التي أتكلم عنها ليست الأمة العنصرية التي ترى الآخر الشريك على أنه أحط من العربي أو أدنى منه، نحن نعترف بجميع الأجناس غير العربية ولا نقول أعجمية؛ فالأمة العربية بالنسبة لي هي انتماء إلى ثقافة عربية إسلامية مسيحية على جغرافيا أفريقسيوية؛ خاضت حروبا ضد أوربا عبر التاريخ تحت مسمى الحروب الصليبية وثارت على الاستبداد العثماني الذي ترك الأمة العربية بدون جيش يحميها، وهذا الشرح الوجيز للمعاني التي قد تتعدى في خاطر القارئ إلى غاية لم أردها، وحتى عندما أقول كلمة الدم الهجين الموجود في الحكومة الوطنية التي ندافع عنها في محاولتها الحفاظ على الوحدة الأرضية للدول؛ يقال إنها عربية ونهاجمها عندما نشعر بأنها لم تعد وطنية ولم تعد ذلك المنزل الذي يجمع سكان مختلفي الأصول تحت سقف شرعية معينة وكيان سياسي معين؛ انتشر فيه الفساد ولا يمشي على الطريق الصحيحة التي غايتها الحضارة التي هدفها الرقي الإنساني (جنة عدن الدنيوية)؛ فالأمة العربية التي هي القادرة على تقديم التضحية لجميع الأمم في العالم والمستعدة فطريا لمواجهة الحضارة البيضاء المتغطرسة على جميع الأمم، ولقد استطاع الأجداد القيام بذلك، وكانوا عربا وبجانبهم أمازيغ تشاركوا معهم الحلم في نشر الإسلام تحت مسمى الفتح الإسلامي إلى أوربا، وهذا تحت راية موحدة تشاركت فيها قوميتان يتكلمون لغة عربية، ويكفينا في ذلك خطبة طارق بن زياد؛ فهو رغم أنه أمازيغي تكلم باللغة العربية لأنها كانت اللغة المحاربة، فهو انتمى إلى ثقافة عربية إسلامية كانت سيدة اللحظة التاريخية، وكان ممكنا حدوث العكس؛ فينطق قائد عربي باللغة الأمازيغية أو الكردية أو الفارسية عندما تكون الثقافة أو هذه اللغة غير العربية هي سيدة اللحظة والتي رفعت التحدي، ولقد حدث هذا في الكثير من مناطق الصراع؛ لهذا يجب علينا أن نضع العنصرية في الدرج عندما نتكلم عن حقائق تاريخية، والآراء المخالفة يجب أن تعترف بأن كل قومية يميزها العطاء عن بقية القوميات، وأن كل ما هو غير عربي الأصل عندما قدم نوعا من القيمة الحضارية للقومية العربية فهو قدمه بإرادته بعيدا كل البعد عن التهجين والتأصيل.
ــــ لا تطرق باب حكومة تعشق الأبواب المغلقة ـــ - الوطنية المزيفة شجرة تسقى بدماء المغفلين - **** يشعر العربي اليوم بأنه مهدد من الدولة الوطنية لأنها حاربت هويته وحاولت نقله من القبيلة إلى الدولة، وهذه الغاية السامية تمت بشكل غير صحيح، حيث ففقدنا القبيلة التي هي قبل أن تكون انتماء عصبيا إلى مجموعة بشرية معينة يجمعها أصل واحد، التي هي في حقيقتها شعور بالأمن؛ فالعربي يشعر بذلك الأمان الذي يحتاجه في مواجهة التحديات وسط القبيلة؛ فعندما حلت الدولة الحديثة فجأة في تاريخ الأمة العربية كسرت التقاليد القديمة، وتكلمت بلغة غريبة لا يفهمها العرب؛ فكلمة دستور والعقد الاجتماعي والديمقراطية والدكتاتورية وبعض المصطلحات السياسية بعيدة كل البعد عن لغة القبيلة التي تعتمد على رابطة الدم (عهد الدم أو عقد الدم). صحيح أن القبيلة بحلول هذه الدولة بقيت لكنها فقدت قلبها الحقيقي الذي ينبض لحماية أفرادها وحمايتهم من المخاطر والتحديات، ولم تمر مائة سنة عن ظهور هذه الدولة الحديثة تحت مسمى الدولة الدستورية لم ير الفرد العربي في ظلها سوى الهزائم المتتالية والانقلابات وخضوعها للغرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويحلم الوطنيون بأن التاريخ سيصحح الأخطاء السياسية بنفسه، ولا ننسى أن ظهور القومية العربية (بنخبة مسيحية)كان كذلك متزامنا مع ظهور الدولة الحديثة (الدستورية)، وبهدف الخروج من مشكل كبير في تلك المرحلة القريبة؛ تمثل في سقوط السلطنة العثمانية التي كانت في مواجهة حزب الاتحاد والترقي بقيادة كمال أتاتورك تتلقى الهزائم المتتالية في فرض الدستور على السلطان وتقيده بمجموعة من القوانين من جهة؛ وتفشي مرض الماسونية في الجسم الحكومي العثماني؛ لكن القوميين العرب الأوائل مثلهم مثل الإسلاميين الأوائل فكروا في دولة جامعة على أنقاض السلطنة، فالإسلاميين عملوا على فكرة دولة الخلافة وبعثها من جديد؛ بينما القوميون فكروا في الدولة العربية الكبرى (الوحدة العربية)، لكنهم لم ينجحوا لأنهم نظروا إلى المرحلة الأخيرة فيها وهي أن يكونوا وكلاء الدولة في ممارسة سلطتها، وتجاوزوا المراحل التاريخية اللازمة في قيام أية دولة؛ و هو أن التسرع في قيامها يجعلها دولة بدون شعب الذي تستمد منه سلطتها يكون خطأ غير قابل للتصحيح؛ ولهذا لم يتمكن الإسلاميون من إقامة دولة خلافة معاصرة، كما لم يتمكن القوميون من إقامة دولة عربية قوية.
أعتقد أن مشروع الدولة العربية الكبرى والذي كان حلم كل القوميين أو حتى دولة الخلافة بعد مرور ربيع الثورات.. الربيع العربي؛ التي كانت بطعم الإخوان المسلمين ومقاومة الحكومات الوطنية له هو جرس إنذار تاريخي يؤكد أن العرب ثاروا على الحكومة الوطنية وأرادوا التخلص منها بالجملة مرة واحدة، وهذه الثورة الفوضوية أمام ارتفاع الأصوات الكثيرة سمعنا صوت الدولة المدنية؛ لكنه كان صوتا خافتا، وسمعنا صوت الإسلاميين المرتفع، لكن لم نسمع صوت القوميين الذين تعلموا الدرس من التاريخ؛ فهم لم يعد هدفهم الدولة العربية الموحدة الذي تغير إلى هدف الشعب العربي الكبير الذي يكون أساسه الفرد العربي لا الأمة العربية ويتمثل في أفراد قادرين على خلق دولة عربية حديثة والسعي في تحقيقه بطرق سلمية إن أمكن في السنوات العشرين القادمة بعد الربيع العربي، وهذا الفرد العربي الذي سيمشي على هذه الطريق الممكنة هو أمل الشعب العربي في الخلاص من هذا الألم العام، وأمل هذه الأمة العربية على الطريق الممكن الوحيد للبقاء في مواجهة التحدي المفروض عليها، ولعل هذا الكتاب سيكون من بين الكتب الكثيرة التي ستمنحه الشرعية للخوض في هذه الطريق من باب الدفاع الشرعي عن قوميتنا، لأن المرجعية الفكرية هي التفويض الذي يحتاجه أي عربي مستعد لخوض هذه الطريق التي ستكلفه الدم والدموع. وأوجه نداء صادقا أتمنى أن يكون له صدى على أرض الواقع، وإذا فشلنا في تحقيق الفكرة ونحن في الحالة البائسة التي لا نحسد عليها؛ يكفينا أننا تمسكنا بأمل أن تنتقل الفكرة كالعدوى وهذا عزاؤنا.
التدقيق اللغوي : أبو هاشم حميد نجاحي