شكّل العنوان مفهومًا جديدًا في عالم النصوص المتداولة في العالم وقت نزول القرآن، حيث لم يكن العنوان حاضرًا في النصوص القديمة، سواء منها النصوص الدينية (المقدسة) أو النصوص الإنسانية (الإبداعية)، بل إن الإنسانية لم تتنبه لأهمية العنوان إلا في قرون تالية ظهور الإسلام والقرآن، ورغم أن المسلمين عَنْوَنوا لكتبهم إلا أن العناوين لم يكن لها المدلولات الكثيرة التي يحملها العنوان اليوم، بل إن العناوين المتداولة قديمًا بعد القرآن كانت طويلة إلى حد ما، و قد يغلب عليها مفهوم المطلع المتداول قبل القرآن على مفهوم العنوان، سواء المفهوم الحالي للعنوان بدلالاته الكبيرة، أو المفهوم القرآني للعنوان الذي لم يحظَ بالاهتمام الكبير إلى اليوم. الاهتمامُ الذي أرمي إليه من خلال مقالتي اليوم، والذي سيتضح نسبيًّا في مقالي هذا وأتمنى أن يتضح أكثر من خلال إمكانية تطوير المقال لاحقًا، ولا ذلك الاهتمام الذي حظي به العنوان في كتب متفرقة قديمة منها أو جديدة، والذي لم يتجاوز دلالات العنوان في حد ذاته وبمقارنته مع المضامين المتداولة في السورة كلها.
نزل القرآن في مناخ عربي وشرقي كبير، توافرت في هذا المناخ نصوص كثيرة ومتنوعة، منها النص الذي يحمل قدسية (سواء الإلهي المصدر أو الإنساني المصدر) أو النص الإبداعي أو التقني، كل هذه النصوص افتقدت مفهوم العنوان بصفة نهائية، وغالبًا ما حمل النص عنوانًا بعد تداوله سنوات أو قرونًا بعد كتابته من طرف صاحبه، عناوين غالبًا كانت جُملية لا تحمل نفس الدلالات التي يمكن أن يحملها العنوان المفرد، إذا ما اتخذنا بعين الاعتبار ما أولاه الباحثون المعاصرون لقضية العَنْوَنة، ما اصطلح عليه لاحقًا علم العنوان(TITROLOGIE) الذي ساهم في صياغته وتأسيسه باحثون غربيون معاصرون منهم: جيرار جنيت G.GENETTE وهنري مترانH.METTERAND ولوسيان ﮔولدمان L.GOLDMANN وشارل ﮔريفل CH.GRIVEL وروجر روفرROGER ROFER وليوهويك LEO HOEKوغيرهم.
1 – النص، العنوان، القرآن
إذا تتبعنا النصوص الأكثر انتشارًا خلال المرحلة التي سبقت نزول القرآن وجمعه سنجد أن أغلبها كانت نصوصًا دينية سماوية أو نصوصا شعرية، وهي نصوص خلت من العنوان مطلقًا.
-النص الشعري: لا يوجد نص شعري خلال أي حقبة قبل نزول القرآن حمل عنوانًا قط، إلا إذا أردنا أن نعتبر المطلع عنوانًا، وهو قول متأخر لا يمكن الأخذ به مطلقًا، كما أن مطلع القصيدة لا يحمل الدلالات الكبرى التي يحملها العنوان كعتبة من العتبات الأساسية التي توسّع نظرتنا حول النص وفهمه وتحليله، والنص الشعري درس محليًّا وعالميًّا بما يغنينا عن تفصيل الأمر فيه حول موضوع العنوان وجوده من عدمه ودلالاته.
-النصوص المقدسة: حضر النص المقدس بكثافة في الفترة التي سبقت نزول القرآن، سواء النص المنسوب للديانات السماوية، وخاصة الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، وذلك النص المنتسب لديانات غير مؤكد سماويتها كديانة البراهمة بكتبها الكثيرة أو الزرادشتية وكتب الأفستا والفيدا، الكيتا والأسورا وغيرهما، وكتب تناول على الاقتباس منها ونسبتها مجموعة من الديانات الشرقية، أو الكتب التي نقلت ديانات اجتهادية بشرية صرفة كالبوذية.
إذا قمنا بتصفح كتب العهد القديم الستة والأربعين فإننا سنجدها جميعًا تخلو من العناوين، تجد مباشرة السفر وبداخله إصحاحات متعددة، سواء كان هذا السفر لنبي من الأنبياء الأربعة أصحابها، أو ما بقي من من أسفار الأنبياء بعدهم، وطبعًا لن نتحدث عن التلمود باعتباره كتاب متأخر لا يحمل صفة القدسية التي أسبغت عليه، أما العهد الجديد، وأشهر ترجمة له كتب الحياة، بأناجيله وسفريه ورسائله فيخلو من العناوين تمامًا حتى في الترجمات التي حاولت أن تفسره.
أما بالانتقال إلى الكتب الدينية الأخرى فلا يدّعي أحد أنه يتوفر على نسخها القديمة، حيث ظلت شفهية الانتقال ولم تكتب إلا متأخرة، الأفستا مثلًا يحمل عناوين غالبًا أضيفت في النسخ الحديثة، وإن قلنا جدلًا أنها أصلية فهي على العموم لا تحمل ما يحمله العنوان من مفهومإشكالي طرح في علم العنوان ونحاول طرحه في ما نصبو إليه من مفهوم جديد حول العنوان في النص القرآني.
وبهذا يبقى مفهوم العنوان مفهومًا جديدًا تاريخيًّا ظهر مع القرآن وتوقف قرونًا حسب ما أزعم ثم ظهر مرة أخرى وانتشر.
2 – أهمية العنوان
بما أنني أدّعي أنني أقدم طرحًا جديدًا في الموضوع فإنني لا أريد أن أملأ مقالتي هذه بكلام مكرر حول مفهوم العنوان في الدراسات الحديثة ولا أهميته، العنوان الذي أوْلته المناهج الحديثة أهمية كبرى واعتبرته مدخلًا، أو نصًّا موازيًا paratexteكما عبر عن ذلك جينيت، أو عتبة رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها، ليس فقط في إثارة الانتباه وإغراء المتلقي بل في فهم النص بطريقة متكاملة كونها، عتبة العنوان التي قد لا تكون أول ما كتبه صاحب النص، بل بما آخر وأهم ما كُتب.
قبل دراسة العنوان لابد من تأطيره ضمن النص الموازي أو العتبات، أو هوامش النص كما يعبر هنري متران. والعتبات عبارة عن ملحقات تحيط بالنص من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية، وهي تنسج خطابًا متمثلًا عن النص الإبداعي.
ويمكن إجمالًا مقاربة منهجية للتعاطي مع العنوان ترتكز على أربع خطوات هي:
البنية
الدلالة
الوظيفة
القراءة السياقية: الداخلية والخارجية.
ويمكن الاطلاع على موضوع أهمية النص في مراجع كثيرة ومتوفرة تبرز أهمية العنوان في النص الإبداعي عمومًا.
3- العنوان في القرآن: آفاق جديدة للفهم
ثبت أن الرسول محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سمّى سورًا للقرآن باسمها، كالفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والكهف، لكن سورًا أخرى لم يثبت تسميتها في فترة النبوة، واختلف العلماء، هل أسماء سور القرآن الكريم كلها ثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، أم أن بعضها ثبت اجتهادًا عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ؟ فذهب أكثر العلماء إلى أن أسماء سور القرآن كلها توقيفية عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، قال الإمام ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ: " لِسوَر القرآن أسماءٌ سمّاها بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" (جامع البيان) (1/100)
وقال الزركشي ـ رحمه الله ـ:ينبغي البحث عن تعداد الأسامي: هل هو توقيفي، أو بما يظهر من المناسبات؟فإن كان الثاني فلن يعدم الفَطِنُ أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها، وهو بعيد"( البرهان في علوم القرآن) (1/270).
وهكذا فالأكثر علمية وتحقيقًا أن أغلب أسماء القرآن على الأقل توقيفية منزلة، وإن كان بعضها اجتهاديًّا فهو القلة، وهو أمر مستبعد لأن آيات القرآن جمعها توقيفي فمن الطبيعي أن تنسب كل آية لسورة لها اسم معين، بل إن السورة قد تحمل أكثر من اسم.
بما أن الله منزه عن العبث فإن دلالة اسم السور، أو عناوينها لابد أن ترقى إلى أكثر من حملها للمفهوم الذي قد يحمله العنوان العادي والمتداول، وهو الأمر الذي لم يهتم به علماء المسلمين إلا في ما ندر، رغم أن مفهوم العنوان كان شيئًا جديدًا أولى أن يثير الإشكالية لدى العقل العربي الذي نضج خلال القرون التي تلت مرحلة الاضطرابات الإسلامية الكبرى، لكن أغلب من كتب في موضوع العنوان، ولم تكن كتابة في الموضوع مستقلة إلا في العصر الحديث، اهتم بشرح اسم السورة وموضعها في السياق القرآني من الآيات التي لها علاقة به، ولم يربط أحد العنوان/اسم السورة، بالآيات الأخرى، فربط اسم سورة البقرة بحادثة بقرة موسى وبني إسرائيل في حين السورة تحمل مضامين عديدة ومتنوعة بدت لكل العلماء أن لا علاقة لها بالبقرة عنوانًا وحادثة، وكذلك الشأن باسم كل سورة، بل إن سورًا حيرت الأفهام في ربط اسمها مع حدث أو موضوع في سياقها، وإذا كانت أسماء السور الثانوية، أي غير تلك الواردة في المصحف، قد حظيت باهتمام متزايد فإن الاسم الأصلي لم يلقَ نفس الاهتمام.
الجديد في الموضوع الذي أطرحه اليوم هو أنني أدّعي أن اسم السورة/عنوانها، له امتدادات مع كل آية من آيات السورة دون استثناء، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ذلك أن العنوان نفسه وهو الشيء الجديد في عصره هو دليل من دلائل الإعجاز في القرآن ولم يرد عبثيًّا ليكون السمة العامة لسورة تحمل من الأحداث والمواضيع ما قد يبدو أهم من الحدث المرتبط بالاسم/العنوان، فكيف يعقل أن تسمى سورة البقرة بكل ما تحمله من مواضيع وأحداث بالغة الأهمية باسم حادث يدخل ضمن القصص القرآني الذي قد يكون ورد في الكتب المقدسة وعلى لسان قصّاصي العرب والعجم؟ ! سورة مليئة بالتشريعات المدنية تسمى بقصة أقرب لخصائصللقرآن المكي منه للمدني، إذن فالأمر يستدعي بحثًا أكبر في الموضوع من الرمي بربط اسم السورة/عنوانها بمقطع نصي قد يزيل القدسية عن الكتاب ويحيله نصًّا عاديًّا من القرون الماقبل عنوانية،أي من القرون التي أنتجت فيها نصوصًا بدون عناوين أو بعناوين بدائية.
العنوان إذن في السورة القرآنية يمكن أن يوسّع دائرة الفهم ليخرجنا من السياج الدوغمائي، حسب مفهوم أركون، الذي بنيناه حول تصوراتنا أجيالًا بعد أجيال، ساهم الجيل الأول بنصيبه الكبير في الفهم فيما بقي الجيل الجديد حبيسًا للفهم القديم دون أن يضيف عليه شيئًا، تحت دعاوى فهم القرآن بالنص، وكأن العنوان والاجتهاد داخل العنوان والسور ليس نصًّا.
وحتى نخرج من السياق النظري البحث سأحاول أن أقدم نموذجًا تطبيقيًّا يقارب المفهوم المقدم دون أن أدّعي أنني قادر على تناول كل جوانب الفهم المراد لموضوع يبدو أنه يدخل في خانة غير المفكَّر فيه، وربما قد فُكر فيه في غير سياقه المكاني، باعتباري لست باحثًا متخصصًّا في المجال القرآني، لكن عسى أن يكون لهذا المقال حقلًا يضع له مفتاحه، فيبنيه وينظر له ويطوره المختصين في المجال القرآني والنصي النقدي.
نعود للمثال ونأخذ سورة البقرة:
العنوان/الاسم: البقرة
الارتباط المباشر من السورة: حادثة بقرة بني إسرائيل التي أمرهم موسى بذبحها فرفضوا بداية وجادلوا بعد ذلك في ماهيّتها ثم ذبحوها وما كادوا يفعلون، بما تحيله هذه القصة بما ورد في التفسيرات والإسرائيليات عن المرأة الفقيرة صاحبة البقرة والثمن الباهظ الذي قدمه القوم لقاء البقرة وما يتداول في الموروث الإسلامي حول القصة مما يمكن الرجوع غليه، بطبيعة الحال دون الدخول إلى التفسيرات الباطنية التي لا يمكن أن تكون موضوعًا لدراسة علمية رصينة.
ارتباطات العنوان: يمكن أن نستخلص أشياء كثيرة من العنوان بربطه بالآيات التي يشير إليها حسب التفسيرات التقليدية، مفاهيم الطاعة والابتعاد عن المجادلة في أمر إلهي والجزاء الدنيوي للإيمان والصبر والامتثال للتشريع الإلهي وغيرها من القيم البارزة في سياق القصة، فما علاقة الأمر بآيات السورة الأخرى البعيدة عن القصص؟
آيات سورة البقرة المدنية تحدثت عن مواضيع التشريع والمعاملات والأخلاق والعبادات الأدائية بتفصيل كبير، ويمكن أن نقول أن هذه الآيات من سورة البقرةهي بمثابة مدونة قانونية صغيرة تتكامل مع القوانين التي تكملها و توضحها وتكملها في السور الأخرى، فما علاقة كل هذا بقصة البقرة وبالتالي باسم السورة/العنوان؟
إن القيم التي ركز عليها العنوان في القصة التي ربطت به تبدو حاضرة في المدونة القانونية المطروحة في سورة البقرة، مفاهيم الطاعة والامتثال وإلزامية التطبيق (ملزم) وعمومية أو الشمولية التطبيق (عام ومجرد) وغيرها، وهذه المفاهيم هي نفسها مفاهيم القاعدة القانونية، وبهذا تكون الآيات قوانين انطلاقًا من العنوان قبل أن نخوض في داخليتها، وهذا على العموم، أما إذا شئنا فيمكن أن ننطلق من كل آية، وحدة نصية، أو مجوعة من الآيات المترابطة، لربط الصلة بينها وبين العنوان بالشكل المقترح أو باشكال أخرى لطرح تفسير قرآني جديد قد يحل كثيرا مما استعصى على المجتمع الإسلامي اليوم، وهذا لا يخرج أبدًا من كون القرآن صالح لكل زمان ومكان.
إن الحديث عن تفسير جديد قد يجد الكثير من العقول الأورتدكسية التي تقف أمامه دون أن تكلف نفسها عناء سبر أغوار المفهوم المقدم، جديدًا كان أم قديمًا، لكن الوقت تقد حان لفتح كتاب الله وإعادة قراءته بالآليات التي وفرها العصر، طبعًا ليس بتسليط مناهج الغرب بآلياتها كلها كما فعل المستشرقون أو تلاميذهم من مفكرينا، أركون والجابري مثلًا، ولكن بمحاولة بناء نظرية نصانية وتاريخانية تنطلق من النص القرآني وتنتهي إليه، وبالمحافظة على القواعد الشرعية الأساسية وليس تلك التي أصبحت مقدسة بالتقادم...
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.