(أنا أفكر إذا أنا موجود)...مقولة نحَتها أبوالفلسفة الحديثة (رينيه ديكارت) فصارت حجر الزاوية في تعريف جديد للإنسان بوصفه كائنا مفكرا، وقد أكّد على ذلك (مالك بن نبي) حين صنّف عالم الأفكار على أنه أعلى درجات الرقي في سلّم الإنسانية الحقّة بعد أن تجاوزت عالمي الأشياء والأشخاص. ومعلوم أن الحيوانات المنوية والبويضات لم تكن يوما وعاء ناقلا للفكر؛ فالوراثة بريئة من تهمة صناعة الفكر كبراءة يوسف من بهتان امرأة العزيز، ولكن العقل وحده هو من يصنع من دقيق الحياة ومائها خبزه الفكري ووقوده الإدراكي الذي يقوده إلى النجاة إن كان صحيحا وإيجابيا أو إلى الهاوية إن كان سلبيا وشيطانيا.

وإذا كانت المعرفة والثقافة هي نتاج النقل، والعقل، والتجوال في ميادين الحياة المتشعِّبة عبر عائلة الحواسّ الخماسية(البصر-السمع-التذوق-الشم-اللمس)؛ فإن الأفكار هي المنتوج النهائي والمولود الذهني الذي يكشف المجهول ويشرح الغامض ويوضح المُبهم ويحلّ المعضل، أما المبادئ فهي تلك الأفكار التي صمدت للنقد؛ فلاقت إجماعا إنسانيا على مَرّ العصور، ووافقت الفطرة، وعززتها الرسالات السماوية، وأكدتها التجارب الحياتية.

 

وعلى النقيض من المبادئ التي تضاهي الجذوع والجذور في ثباتها ورسوخها، فإن الأفكار أوراقٌ تبْلَى و تسّاقط عن دوْحتها حين تمرُّ بمراحل صهْر وصقْل في طريقها للنضوج واكتساب صفات الصحة والصلاح والواقعية، وبعدها تشكِّل اللبِناتٍ الحيّة في تشييد صرح الحياة السويَّة... فكُلُّ ما في الحياة كان فكرة مجرَّدة قبل أن يصبح واقعا وسلوكا.  

والواقع أن الأفكار هي سلاح العقول وترسانة الدول المتحضِّرة ورأس مال المجتمعات الناهضة، أما الدول الاستبدادية والأنظمة الرجعية فترتجف من الفكرة وترى فيها حتفها؛ فتسارع إلى قمعها وخنقها وتغييبها بإحدى وسائل القهر الثلاثي الموروث (ليُثبتوك أو يَقتلوك أو يُخرِجوك)([1])، وقد أدركت الدول الاستعمارية مضاء الأفكار كسلاح ونجاعتها كرأس حربة؛ فبعد أن كانت تعتمد في غزوها على الجنود والعتاد والمواجهة في الحروب؛ أصبح القفاز الفكري بوسائله المتعددة هو من يمسك بتلابيب المعارك وزمام التحرك لتحقيق المآرب والمطامع.

وفي هذا يُنسَب إلى المفكر الحر الثائر علي شريعتي تعريفا للفقر بأنه ليس ليلة تمضيها دون طعام بل هو يوم يمرّ عليك دون تفكير، وعندما سُئل الألمعي مهاتير محمد عن السر في النهضة الماليزية التي أنجزها قال: (جعلتُ الشعب يفكر في المستقبل)، وعلى الجانب الآخر المظلِم سَأل أحدُ أرباب الفكر المعتقلين سجانه عن سرِّ القسوة التي يعاملونهم بها إلى حدٍّ فاق تعاملهم مع تجار المخدرات؛ فكانت الإجابة: إنكم أخطر علينا من تجار المخدرات فأنتم توقظون فكرا وتصوغون وعيا بينما هم يغيِّبون عقلا ويئِدون فكرا.

  وبالنظر إلي واقعنا الذي لا يخفى على كل ذي لب، نستطيع القول بأننا سنظل نحرث في الماء ونرسم في الهواء وندور في الفراغ؛ إن لم نطلق العنان للأفكار لتنمو وتزهر وتثمر؛ بعد أن تبذرها يد خير وصلاح، وترعاها مجتمعات حُرّة ناضجة متآلفة، وتحرسها عين الله التي لا تنام...فهل آن الأوان؟

 


([1])الأنفال 30

 

التدقيق اللغوي: أبوهاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية