abstract 1196096

كانت الأسئلة تتزاحم خلف لساني ولا أعلم بأيِّها سأبدأ، ولكن بعد برهات من التّفكير رأيتُ أن أبدأ من الواقع الَّذي هو أمامي، فقد كانت مُعظم عناوين المُجلدات الَّتي أمامي تدور في فلك التّاريخ .. استفسرت منه إن كان مؤرخاً أو مهتماً بالتّاريخ؟ ولكن جواب العجوز لم يكن حاسماً فلم يؤكِّد أنهُ مؤرخ ولم ينفِ ذلك بل اكتفى بالقول إنَّه يملك الكثير من كتب التّاريخ!.

فأردفت بالقول: نعم كتُب التّاريخ شديدة الأهمية فهي تخبرنا بحقيقة ما حدث في العهود السّالفة، تنفس العجوز بعمق ثمَّ أغمض عينيه، وهو يستند براحتيهِ على السّرير الَّذي يرقد فوقهُ ثمَّ فتحهما كمن عاد للتو من رحلةٍ بعيدةٍ أو كأنَّهُ ذهب ليستشير أحداً ما في الحلم ثمَّ استيقظ ليجيب: بالنّظر إلى حالَّتي الخاصة، فإنَّ اقتنائي لكتب التّاريخ يندرج في مقولة "يجب أن تعرف ماذا يكتبه عنك أعداؤك" ورغم أني لا أحمل عداءً للمؤرخ إلا أنّهُ يُعلن العلاقة معي في إطار الحُكم الأخلاقيّ للعلاقة الإيجابية، فأنا من حيثُ طبيعتي لا أحمل تجاه الآخر قيمةً أخلاقيةً ما، فأنا لست حُبّاً، ولست كُرهاً، كما أني لست "معَ"، ولست "ضدًا"، أي أنني أندرج في علاقتي مع المؤرخ في إطار القيمة الأخلاقيّة السّالبة، وأحسن الغلام "ماكس فيبر" عندما قال: بأنَّ عمي العجوز يقف في علاقتهِ مع ما يحيطهُ على مسافة واحدة، فهو يضع نفسهُ في خانة "المحايدة التّقيميّة". ولكن ما يحدث أنّ المؤرخ لا يستطيع أن يقاوم إغراء إصدار الأحكام في ما يكتبهُ حولي، وإذا عُدت إلى هذه الكتابات فإنِّي أجدها في مجملها تجعل من حياتي الطَّويلة تسير في مسارب مؤطَّرةٍ بإيديولوجياتٍ متشاكسةٍ ومتضاربةٍ على نحوٍ يدعو إلى الضَّحك والدَّهشة، وهي بذلك بشكلٍ أو بآخرٍ تُعلن العداء على طبيعتي الحياديِّة، وترفض أن تعترف بهذه الخصوصيِّة الَّتي هي هويتي الحقيقية، والَّتي من غيرها أفقد كينونتي الخاصة، وإذا الأمر كما قلت لك فإنَّ كتب التّاريخ تصبح بالنسبة لي هي الوثائق على افتراءات المؤرخ حول طبيعتي الأصلية، ولذلك كان لا بُدَّ لي من معرفة ما يكتبهُ حولي هؤلاء القوم الَّذين يناصبوني العداء رغم أنَّي لا أرى فيهم إلا كما يرى المسافر في مسافرٍ آخر يسير إلى جنبه.

- سيدي، في الحقيقة لم أفهم إجابتك بشكلٍ جيدٍ، ولكن إذا كتب المؤرخ عنك أو عن بعض مراحل حياتك - كما ذكرت- فهذا يعني أنّك شخص مشهور، ولك شأن في هذا العالم؟.

- كما أخبرتك بأنّي أقف من كلّ ما يحيط بي على مسافةٍ واحدةٍ، والأمر نفسهُ ينطبق على حياتي الخاصة، فلا يمكنني أن أنسب إلى نفسي الشَّأن أو أن أنفيهِ عني، إنَّ حياتي الخاصة الَّتي يزعم المؤرخ أنَّها مراحل وأدوار لا يمكن أن تكون إلا كينونة واحدة تذوب فيها كل الفواصل المكانية والزَّمانية، بل إنَّ الزَّمن بالنسبة لحياتي الخاصة ليس أكثر من "فانتزيا" بعيدة المنال، إنَّها أشبه بمجرى النَّهر الَّذي يسري فيه تيار الماء المُتغيِّر في كلِّ لحظةٍ دون أن يَحدُثَ ذلك التَّغيُّر في المجرى نفسهُ، وعلى الرَّغم من أننا نستعمل كلمة "نهر" لنصف بها المجرى والماء الَّذي يسير فيهِ معاً، إلا أننا إذا انتقلنا من الوصف العام إلى الدِّقة العلميِّة فإننا لا مندوحة لنا حينها إلا أن نُميز بين ذلك الجزء المُتحرّك المُتبدّل وبين ذلك الجزء الثّابت، فالجزء الثّاني بوصفهِ حالة "استاتيكية"، فلا شك أنَّهُ لن يعرف مفهوم الزَّمن على النَّحو الَّذي يعرفهُ بهِ الجزء الأول، ولن أزعم بأنَّ مفهوم الزَّمن للمجرى حالة من العدم، فالمجرى نفسه قد يطرأ عليهِ تبدُّلات أو تغيُّرات طفيفة عبر حِقبٍ مُتباعدةٍ ولكن هذا الزَّمن الخاص بالمجرى سيكون أشبه بحالةٍ استاتيكيةٍ -كما ذكرت أنفاً- على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة الحاصلة، وكذلك فإنَّ حياتي الخاصة هي أقرب ما تكون في طبيعتها إلى ذلك المجرى، في حين تكون الحياة الخارجية - الَّتي يحشر المؤرخ أنفهُ في محاولات بائسة لقولبتها في أحكام تقريرية- إنما تكون أشبه بالماء الَّذي يزحف في المجرى.

- إنني لا أفهم حقا هذا التَّمييز بين الطّبيعة الخاصة والطّبيعة الخارجية لحضرتك، ففي الوقت الَّذي تؤكد فيهِ تمازجهما في كينونةٍ واحدةٍ، تعود لتجعل بينهما فواصل أو اختلافاً، إنَّ كلمة "نهر" بالنسبة لي لا يمكن تجزئتها إلى ماءٍ ومجرى؛ لأنني في هذه الحالة سوف أُلغي حقيقة النّهر، فليس الماء وحده نهراً، وليس المجرى وحده نهراً، بل كلاهما معاً، وبالتالي لا يمكنني أن أتحدَّث عن صفةِ أحد الأجزاء كما لو أنهُ الكل، وبالمقابل لا يمكنني أن أتحدث عن الكُلِّ بوصفهِ يحمل فقط حالة الجزء، أليس كذلك؟.

- نعم أحسنت، ولكي أتأكد من أنَّ فكرتي وصلت لك جيداً، دعني أضرب مثالاً آخر: إنَّ حياتي الخارجية هي حياة ذلك الجسد في تداخلاتهِ مع المحيط بهِ، فهو يعرف معنى الزّمن الدّيناميكي المُتسارع، ويمكن للمراقب الخارجي أن يتحدث أو أن يُميِّز بين تبدّلات ذلك الجسد؛ طفل ثمَّ شاب ثمَّ عجوز، والتَّعمق في الوصف سيكشف عن مراحل بين تلك المراحل، ولكن إذا ما انتقلت إلى الحياة الدّاخلية فلا يمكنك أن تنظر إليها بالمقياس نفسه، فما يسميهِ علماء النّفس "بـالدّيمومة الذّاتية" هو صحيح إلى حدٍّ كبيرٍ، فالعجوز والشَّاب والطِّفل ليسوا إلا مظاهرَ خارجيةً لوحدةٍ مُتصلةٍ في الطَّبقات العميقة. "الدَّيمومة اِنبجاس باطني مستمر يتدفَّق في داخلنا، ويجيش في أعماق الأنا الفرديِّة من غير توقف ولا اِنقطاع". على حدِّ تعبير "هنري برغسون". لكن المشكلة تكمن أنَّ أغلب من كتب عني من المؤرخين وغيرهم، إنما يُعمم طبيعتي الخارجية على مُجمل حياتي ويعتبرها الحقيقة الوحيدة الَّتي تَعكس كينونتي، في حين أنني أعتبر أنَّ الأصالة إنَّما تكمن في طبيعتي الثّابتة والمُتصلة أي طبيعتي الدَّاخلية، وليست في المظهر الخارجي الزَّائف المُتبِّدل.

- هل تقصد أنَّ المؤرخ لا يعترف بوجود طبيعة ثابتة لك؟ أم هو مجرد تغليب لإحدى الطَّبيعتين على الأخرى؟ فكلام حضرتك يحمل المعنيين.

- نعم، إنَّ كلامي يحمل المعنيين كليهما؛ لأنَّ المؤرخ نفسه لم يصل حتَّى الآن إلى رأيٍ واحدٍ حول طبيعتي، فهو يأتي بكلامٍ مُتناقضٍ، مرة يجعل حياتي مُتصلة بالطَّبيعة الخارجية - وإن لم ينكر وجود طبيعة داخلية- إلا أنَّه يعتبر هذه الطَّبيعة الدَّاخلية عديمة الفاعلية أو التَّأثير وأنَّها شيءٌ زائدٌ على الوجود كتلك القطعة اللَّحمية الَّتي تُسمى الزَّائدة الَّتي يَعتقد الكثير من النَّاس ألّا وظيفة لها، إلا أنَّ المبحث الطِّبي يؤكِّد بأنَّها تشغل وظيفة هامة في الجهاز الدِّفاعي للجسد؛ فتعمل عمل المِصفاة في مُحرك الحافلة، وتارةً أخرى ترى هذا المؤرخ يُنكر أن تكون لي أيَّة حقيقةٍ أو حياة داخلية وأنَّ "الأُحادية" هي الطَّبيعة الوحيدة الَّتي تُميِّز وجودي.

- حسنًا، حتَّى لا يتوه مني مؤشر البوصلة اِسمح لي أن أُلخِّصَ ما تراه أنتَ وما يعتقده المؤرخ حولك: حضرتك ترى بأنَّ طبيعتك الدَّاخلية هي الطَّبيعة "الفاعلة" والمؤثرة في تحريك وخلق ما يصدر عنك من نتاج مادي أو معنوي، وهي في الوقت نفسه طبيعة "لا تقيميِّة"، أي طبيعة فاعلة وحيادية. في حين يعتقد المؤرخ أنَّ المظهر الخارجي أو الطَّبيعة الخارجية وما يطرأ عليها من تبدّلات وما يتصل بها من أحداث وما يحدثه المؤثر الخارجي فيها من أثر هي الطَّبيعة الَّتي تعكس حقيقتك، إذا كان هذا التّلخِّيص صحيحاً، فما هو الفرق بينهما؟ وأين هي المشكلة؟.

- فهمك صحيح، ولكنَّه غير دقيق ويحتاج إلى توضيح أكثر؛ فهو صحيح من حيث اعتبار أنَّ الفاعلية المحركة إنَّما تكمن في الطَّبيعة الدَّاخلية، ولكن ذلك لا يلغي وجود الطَّبيعة الثَّانية -أي الخارجية- ولا ينفي - من حيث المبدأ- أن يكون لها تأثيرات فاعلة في مسيرتي الحياتيّة المُجملة، فطبيعتي من حيث الكينونة، هي "طبيعة ثُنائيِّة"، والاختلاف من حيث الفاعلية بين الطَّبيعتين يكون في النَّسبة، وليس في الحصول. ومن جهة ثانية لا يمكن لنا الحديث عن اكتشاف قوانين تضبط فاعلية الطّبيعة الأولى أو الثّانية، والخطأ الكبير الَّذي يقع فيه المؤرخ أو من يسمي نفسه فيلسوفَ التّاريخ أنّه يحاول أن يُقولِب طبيعتي الخارجية في "قوانين" صارمة تُفسِّر ما يحصل فيها من تبدُّل وما ينتج عنها من تأثير، ويصبح هذا الخطأ "خَطيِئة" عندما يَعترفُ بوجودِ طبيعة ثانية، ولكنها من وجهة نظره تنضبط أو تعمل بمقاييس قوانين الطّبيعة الخارجية.

- ولكن هل تعتقد حضرتك بالفعل أنّه لا توجد قوانين تنضبط بها المظاهر أو الفاعلية في سير حياتك سواء أكانت "أُحادية" أو "ثُنائية" الطَّبيعة، وإذا لم يكن ثمَّة قوانين تُنظم حياتنا، إذًا فما عساها تكون؟.

- بُنيَّ، لا بدَّ لي أن أوضح لك أنَّ الفرق بين حياتي وحياتك يشبه ذلك الفرق بين قطرة ماء في النّهر وبين النّهر بمجملهِ "ماءً ومجرى" أما عن وجود القوانين الَّتي تُفسِّر فاعلية الحياة الأولى أو الثّانية فليست هي إلا إحدى الأكاذيب الرَّائجة، فالَّذي يوجد حقاً ليس أكثر من حالة خجولة مُرتابة، خطواتها غالباً ما تجيء مُتعثرة بين الإقدام والإحجام، ويمكنك أن تتخيلها كمسار مجرى النّهر الَّذي يكثر فيه التّعرج والانحناء والالتفاف. أنت في أحسن الحالات يمكنك أن تتحدث عن "توجهات" عامة عريضة، هي في حقيقتها لا تزيد عن كونها محاولاتٍ بائسةً لصيادٍ يُلقي الشّباك في بحرٍ شديد الملوحة أو أعمى يتلمس إبرة في كومة قشٍّ، إنِّها تلك الآمال النّفسيّة والعقليّة الَّتي يَطمح بها المُؤرخ إلى إيجاد قانون في وسط الفوضى، العقل البشري الَّذي رُكِّب بطريقةِ الأوامر العسكريّة لم يعد يتقبّل أو يتصوّر العيش وسط مظاهر تحكمها الصُّدفة.

- هل يعني هذا أنّك تعتبر الصُّدفة هي من يُسيّر حياتك، وأنَّ الإرادة والقصد ليس لهما وجود؟.

- الإرادة والقصد بالتأكيد ليس لهما وجود، ولكن ربما أفضِّل استخدام كلمة الحَظّ بدل كلمة صُدفة.

- يعسرُ عليﱠ فهم عدم وجود الإرادة أو القصد في حياتك!.

- سوف يُزال هذا العُسر لو أنَّك جعلت الإرادة والقصد يأتيان في المرتبة الثّانية وليس في الأولى؛ أي قَدِّم الحَظّ واعتبره من يُسيِّر حياتك، وبعد ذلك لا مانع أن يكون لك بعض الحول والقوة في محاولة تلمُّس بعض القصد أو الإرادة.

- هل تقصد الحَظّ بالمعنى الَّذي يفهمه الإنسان العادي من هذه الكلمة؟.

- لا أعتقد أنني أفهم الحَظّ بشكلٍ مختلفٍ، ورغم ذلك أضرب لكَ مثلاً يوضح فهمي: هَب أنَّ إنساناً x يسافر في عرض البحر على متن باخرةٍ ما، ثمَّ لسببٍ ما، تتحطَّم الباخرة ويغرق جميع الرُّكَّاب بما فيهم ذلك المسافرx ، إنَّ هذا الأخير سيكون من الحماقة بمكانٍ لو أنَّه نسيَّ موضوع غرقهِ وإشرافهِ على الهلاك في تلك السَّاعة وراح يتساءل عن سببِ تحطُّم الباخرة: أصاعقةٌ أم جبلٌ جليدي أم عطل أصاب المحرك ..؟ إلى آخره من الأسئلة الَّتي يمكن أن تخطر على بال "مؤرخ الحدث"، ولكنها بالتَّأكيد أو على الأغلب لن تكون ذات أهمية لمن يجود بنفسه في لحظة الغرق، فإذا أراد المؤرخ أن يُنصف الغريق x، فأفضل ما يمكن أن يكتبه في كتاب التّاريخ حوله، هي عبارة: "لقد صادف الغريقx في هذه الواقعة حظاً سيئاً". ولاحظ أنَّ كلمة "سيئاً" هي تقييم لتلك الواقعة بالنّيابة؛ أيّ أنَّ المؤرخ يتخيل نفسه هو ذلك الغريقx وسوف يطلب منه تقييم الحدث. أحدهم كان أكثر ذكاءً وقال: "أُقيِّم الحدث ليس بوصفي أتخيل حالة الغريق x بل أفترض لو أنَّ الغريق x نجا من الغرق، ماذا كانت ستكون وجهة نظره لو أنّه غرق بالفعل؟. ولا شك أنَّه كان سيعتبر ذلك لو أنَّه حدث بالفعل "حظا سيئاً" .. أما نحن فنعتبر أنَّ الرَّأيين الأول والثّاني مجرد افتراضين ليس لهما دليل جازمٌ، وذلك أنَّ الغريق x بعد أن يكون قد غرق بالفعل لا يمكن لنا أن نتنبأ ما الّذي كان سيقوله لو أنَّه لم يغرق؟ فقد يكون قبل الغرق في حالة مُحبطة ويتمنى لو أنَّه ينهي حياته، هذا مجرد افتراضٍ بعيدٍ .. وأقول: بعيد، لأننا لا نستطيع أن نفكر بدلاً من x، ما لدينا هنا هو - فقط- ظاهرة: "أنَّ x قد غرق". وهذا الحدث قد خضع له x بفعل الحَظّ، ولا ندري أهو حظٌّ جيدٌ أم سيءٌ من وجهة نظر x؟ ولا ندري أهو حظٌّ جيدٌ أم سيءٌ في نطاقٍ أعلى؟ مثلاً من وجهة نظر مجتمع ما فقد يكون x رجلاً صالحاً، ولكنه قد يكون رجلاً سيئاً، وبالتالي يتغير مؤشر الحَظّ ويتأرجح من احتمال إلى آخر في نقاط مراقبة متعددة لحدثٍ واحدٍ .. وفي كلتا الحالَّتين أو كلا الاحتمالين: احتمال غرق x أو احتمال نجاته، لن نتمكن من وصف حصول الحادثة إلا في سياق الحَظّ أو في توجهٍ ما، يقف خلفه حظٌّ ما. أما من الَّذي أوجد الحَظّ؟ هذا سؤال آخر في مستوى آخر ولا تعدو الإجابات الَّتي تركها المؤرخ أن تجاوز الإجابتين، الأولى: "الله"، والثّانية: "الصُّدفة". ثمَّ بقي أن نشير إلى أنَّ وقوع حادثة الغرق ذاتها ستبقى أو ينبغي أن تبقى -أساساً- للمؤرخ موضع شكٍ وسوء ظنٍ.

- ولكن يا سيدي ألا تعتقد أنَّ هذا الفهم غير عملي، لماذا علينا أن نتعب أنفسنا بهذا الجدل؟ والحدث أمامنا واضح! فنحن نُعبِّر بأسلوبٍ علميٍّ بسيطٍ، كأنَّ نقول: "x غرق لأنَّ الباخرة غرقت، والباخرة غرقت لأنَّ صاعقة أصابتها". أعتقد أنَّ هذا الوصف واضح ومقنع.

- للوهلة الأولى يبدو هذا الوصف واضحاً وبسيطاً، ولكن لماذا لا تتابع التَّساؤل؟.

- كيف؟.

- كأنَّ تقول: الصَّاعقة تشكَّلت لأنَّ مُنخفضاً جوّياً تكوَّن في المكان الَّذي مرّت به السَّفينة في تلك السَّاعة من ذلك اليوم.

- حسنًا لا مانع أن نسأل أو نقول ذلك، فهذا يزيد توضيح "سبب" غرق الباخرة، وبالتالي غرق المسافر x، أليس كذلك؟.

- هذا ما يبدو لكَ ظاهرياً!. ولكن أنت بذلك تصف ما جرى؛ أي أنّك تجيب عن سؤال: (ماذا حدث؟)، ولكن هذا ليس تفسيراً؛ أي ليس جواباً يهتم به فلاسفة التّاريخ عن السُّؤال: (لماذا حدث؟). نحن نريد أجوبة على أسئلة من نوع:

1- لماذا حدثت الصَّاعقة في الوقت الَّذي مرّت به الباخرة x؟.

2- لماذا أصابت الصَّاعقة الباخرة x بالذَّات؟.

3- لماذا غرق x بالذَّات؟.

- حسنًا هو غرق بالذَّات؛ لأنَّ قدره أن يغرق!.

- وماذا لو لم يغرق، وطفا على لوحٍ خشبيٍ وحملته عليه الأمواج إلى برِ الأمان؟.

- ببساطة عندها نقول: هو نجا من الغرق؛ لأنَّه وجد لوحاً من الخشب امتطاه حتَّى بر الأمان؟.

- ما الَّذي يجعلنا نجزم بأنَّه نجا بالفعل لأنَّه وجد لوحاً خشبياً؟ فليست ثمَّة من ضرورة تفرض أنَّ كلَّ من غرقت باخرته ثمَّ وجد لوحاً خشبياً سوف ينجو! هَب مثلاً أنَّ سمكة قرش تسبح بجواره وقامت بالتهامه، هل تستطيع أن تجيب عن سؤال: لماذا صادف أن وجدت سمكة قرش تسبح بجواره؟.

- هذا يبدو حقاً تعقيداً للمسائل، إذا فتحنا الباب للافتراضات فلن ننتهي أبداً، لنريح أنفسنا ونقول: إنَّ x لم يغرق لأنَّ قدره قضى بذلك.

- نعم لأنَّ قدره قضى بذلك، وباللّغة الَّتي يستخدمها العجوز: لأنَّ حظَّه جرى على هذا الشَّكل، فقد صادف مرور الباخرة حيث تشكَّلتْ الصَّاعقة، وصادف أنَّ (x) كان موجوداً أو مسافراً على متن الباخرة (A)، ثمَّ صادف حدوث عطل ميكانيكي في الباخرة انتهى بغرقها، ثمَّ صادف أن وَجد (x) لوحاً خشبياً فسبح عليه، ثمَّ صادف ألَّا سمكة قرش تسبح بجواره، ثمَّ صَادف أنَّ الموج حمله إلى السّاحل وليس إلى عُمق البحر مرة أخرى، كلّ ذلك جرى وفق الصُّدفة أو الحَظّ أو القدر، وتقييم الحدث نسبي يختلف من مستوى إلى آخر بالنسبة للمراقبين أو لمن يعيش الحدث، ولكن بالنسبة للمصادفة أو الحَظّ فإنَّ الحدث كلّه ليس له معنىً لا في السلب ولا في الإيجاب، والمؤرخ نفسه لهذا الحدث ينبغي أن يقف عند ذكر ما جرى، وسيكون من الخطأ أن يخلع أحكامه التّقييمية على الحدث أو أن ينسب قصداً أو غايةً إلى حدوث الظّاهرة.

- هل أفهم من هذا الكلام أنّك تُريد القول: إنَّ التَّاريخ مُجردٌ من الغايات، ولا يمكن استنتاج قوانين تُسيِّر ديناميكيته؟.

- ليس ذلك فحسب، بل ما يسمى - مجازاً- الفاعل x ضمن الحدث التّاريخي، هو: فاعل من النَّاحية الاصطلاحية فحسب، وما يعتقد أنَّه قام به من فعل في إطار قصده وإرادته ليس أكثر من وهم خادع، وهذا التّوهم لا يختلف عن الوهم الَّذي تعتقده قطرة ماء - لو قُدِّر لها أن تفكر وهي تسير مع الَّتيار الَّذي يجرف ماء النّهر كلّه إلى جهة ما- أنّها تتحرك بمحض إرادتها وقصدها، ولا شك أنّ وجود القطرة في ماء ذلك النَّهر كان – أصلاً- مُجرد صُدفة أو حظّ أو قدر؛ لأنّها ببساطة كان يمكن أن تكون في ماء نهر آخر، يسير في اتجاه آخر، أو في ماء بحر، أو ماء بركة، أو تتبخر لتصبح جزءاً من غيمة.

- أرى أنَّك تستخدم الحَظّ والمصادفة والقدر وكأنّها جميعاً من المُترادفات!.

- أنت تريد القول: إنَّي استخدمتها بمعنىً مُتطابقٍ وليس مُترادفا؛ لأنَّ التّرادف لا يساوي التّطابق، ولكن الحقيقة أنا لم أفكر باستخدامها بمعنى التّطابق أو التّرادف، ولكن استخدمتها بالشَّكل الَّذي كان فيه اسم "x" "علاء" أو "براء". الأسماء مختلفة ولها مُتشابهات ومُتناقضات، ولكنّها في النّهاية لا تعدو أن تكون مُجرد مُسميّات للكائن (x)، الَّذي لم يكن له يدٌ في اختيار اسمه الَّذي لم يكن له يدٌ في وجوده، وقد لا يكون له يدٌ في عمله داخل السِّرداب، ومن يدري كيف ستكون نهايته؟.

- وهل تعتقد أنَّ الأمر يسري فقط على حادثة مادية مثل غرق سفينة، ثمَّ غرق من عليها أم أنَّ الأمر يسري -أيضاً- على السُّلوك البشري؟ كأن يختار شخصٌ ما القيام بهذا السُّلوك أو ذاك؟ وما الَّذي يفسر قيامه بالأول دون الثّاني؟.

- إنَّك تنقل المسألة من مجال تأريخ الظَّاهرة إلى مجال "نظرية الفعل"، أي: من المجال الَّذي يسأل فيه المؤرخ (هل وقع الحدث؟ ولماذا وقع؟ وكيف وقع؟)، إلى المجال الَّذي يسأل فيه عالم الاجتماع عن تفسير قيام الفاعل بهذا الفعل دون غيره؟ أو عن إمكانية التّنبؤ بقيامه في المستقبل بفعل ما؟ .. ورغم أنّ المجالين مُنفصلان ومُتداخلان في الوقت نفسه إلا أننا لن نوسِّع النّقاش وسأكتفي بتمديد فكرة الحَظّ أو أنّي أُفضل استخدامها كذلك في مجال "نظرية الفعل" على أية فرضية أخرى كتلك الفرضيات الَّتي تجعل الأمر في مجال إشباع الحاجات الأساسيّة أو تلك الَّتي تحاول أن تجد مؤشرات نفسيّة أو فرضيات الصّيغ الاجتماعية الجمعيّة أو الفردية .. كل هذه الفرضيات قد تصح في مستوى معين يأتي في المرتبة الثّانية، ولكن الخطوة الأولى، اللّحظة الأولى، الحركة الأولى، وجود الفاعل نفسه في الحياة، في المجتمع، في الحقبة الزَّمنية، في الطّبقة الاجتماعية، في الدّين، في الحزب، في الثّقافة .. كلُّه محكومٌ بـالحَظّ.

- هل يعني هذا أنني أعمل الآن كخادمٍ هنا؛ لأن الحَظّ قدَّر لي أو الصُّدفة قضتْ لي بذلك؟.

- من يدري؟ لعلك لو ولدت في مجتمع آخر، أو في زمن آخر، أو في أُسرةٍ أخرى، ستكون وزيراً أو سفيراً أو متسكعاً أو سكيراً؟.

- آه .. نعم، أعتقد أنَّ الأخيرة مُتحقِّقة بالفعل، لا أدري ربما يكون هو الحَظّ كما قلت.

- نعم "ربما" كلمة أُفضل استخدامها!.

- ولكن سيدي .. إذا ألغينا الأسباب والشُّروط الموضوعيِّة من كتاب التّاريخ، فماذا سيصبح هذا الكتاب؟

- لن يصبح، بل كان وسيظلّ "كتاب الأكاذيب الكبرى".

- "كتاب الأكاذيب"؟.

- نعم، إنَّ كتاب التّاريخ ليس أكثر من كتاب مليء بالأكاذيب والخرافات والدَّجل، لا توجد أسباب موضوعية تكمن خلف حدوث الوقائع التَّاريخيِّة، ولا توجد إمكانية موضوعيِّة لتدوين حدوث الظَّاهرة، ولا توجد طريقة علميّة واحدة مُطلقة الصِّحة أو تتمتع بالحد الأدنى من الصِّحة في نقل الرِّواية أو الحدث التَّاريخيّ، وما تجده من صحة نسبية في تدوين الأحداث إنما يعود لوجود أثر مادي أو لمجرد الصُّدفة.

- سيدي، ألا تعتقد بأنَّك تبالغ؟.

- لا، ليست ثمَّة مبالغة، فقط هو ذلك العقل البشري المُصمم - كما ذكرت لك سابقاً- بطريقة القواعد والتّرتِّيب، والسّبب والنّتيجة، فهو لا يستطيع تصوَّر أنَّ الحَظّ هو من يكمن خلف جميع التّحوّلات الَّتي يصفها المؤرخ –عادةً- بالتَّحوُّلات العظيمة في مسار الأحداث التَّاريخيّة. ولكن الحقيقية هي أنَّ الحَظّ هو السّيّد المُطلق في التّاريخ، والتّاريخ نفسه لا يحتوي مُطلقاً على أيّة أحداث أو شخصيات عظيمة.

- إذا كان التّاريخ لا يحتوي شخصياتٍ عظيمةً، فماذا نسمي الملوك والقادة العظماء؟.

- كما قلت لك التّاريخ لا يعرف أحداثاً أو شخصياتٍ عظيمةً .. ولكن يمكنك أن تستخدم تعبيراً أكثر صحة، هو أنّ التّاريخ فيه شخصياتٌ وأحداثٌ "إيجابية" وأخرى "سلبية"، وذلك بالنّظر إلى "زمنٍ" أو "فئةٍ" أو "مؤرخٍ" ليس أكثر.

- ولكنّك بذلك تنسف الأبنية المنهجية الَّتي ينضبط بها تدوين الواقعة التّاريخيِّة، وتلغي أهمية عمل المؤرخ في كشف الأسباب الموضوعيِّة حول نشوء الظَّاهرة وتطورها في سياقها التّاريخي.

- أعتقد أنّك تكرر طرح هذا السّؤال عليَّ للمرةِ الثّانية، فهذا يعني أنّك حتَّى الآن لم تفهم ما أود قوله بصورة واضحة، ولا تزال أفكاري يشوبها الغموض بالنسبة لك.

- أعترف بذلك!.

- إذًا لا بُدَّ من ضرب الأمثلة، لعلَّ رأيي يُصبح أكثر وضوحاً وإقناعاً، خذ -مثلاً- ذلك الخبر الَّذي يُوردهُ المؤرخ حول أنَّ عامل إسطبل أصبح ملكاً عظيماً يحكم الفرس. نحن أمام هذه الواقعة نحتاج إلى مزيد من الإيضاح. المؤرخ الَّذي يريد أن يتصرف وفق ما تمليه عليه العقلية البشرية العلمية يجب أن يُوجد تفسيراً يقنع غرور العقل البشري، يجب أن يوجد مبرراتٍ أو ما يُسمى شروطاً موضوعيّةً كانت تكمن خلف تحوَّل عامل إسطبل إلى شاهٍ أو ملكٍ .. إنَّ العقل البشري الَّذي أوضحت لك أنَّه مُصمم بطريقة التّراتب المنطقي بحيث تكون الأحداث منتظمةً بعلاقة السّبب والنّتيجة، والعلّة والمعلول، لا يمكن لهُ أن يتصور وقوع مثل هذا الحدث التَّاريخي من غير إيجاد مبررات موضوعيّة أو علائق وترابطات تفسر تحوَّل عامل الإسطبل إلى ملك، وإذا الأمر كذلك فإنَّ المُؤرخ يجهد في لَيِّ عُنق الأحداث التَّاريخيّة لكي تظهر بطريقة تراتُّبية سببيِّة؛ لذلك تراه يسرد الأحداث التّاريخيِّة وكأنّها أرقامٌ مُتتابعةٌ في مجموعة الأعداد الطّبيعية، هكذا: (1، 2، 3، 4، 5) أو (1+1=2)، فهو يسوق لكَ الحدث على هذا النَّحو: عامل الإسطبل ترقى إلى رئيس مجموعة صغيرة من الجُند، ثمَّ إلى ضابط، ثمَّ إلى جنرال، ثمَّ واتته الفرصة ليصير شاهاً يحكم البلاد. السُّؤال الَّذي يجب أن نسأله للمؤرخ الآن. هل كلّ عامل إسطبل يمكن له أن يصبح ملكاً؟. بالتأكيد الجواب (لا)، إذاً، لماذا أصبح عامل الإسطبل هذا "بالتّحديد" ملكاً؟ جواب المؤرخ كان: لأنّ أسباباً موضوعيّةً وفَّرت له ذلك. ولكن نعود لنسأل المؤرخ. ما الَّذي يضمن أنَّ ما تسميه أسباباً موضوعيةً حقاً كانت كذلك؟ ثمَّ هل -إذا توفرت الأسباب نفسها لعامل إسطبل آخر- سوف يصبح ملكاً؟ وهل يوجد ضامن بأنَّ عامل الإسطبل نفسه -لو فرضنا جدلاً- عاش الظّروف نفسها مُجدداً، وتوفَّرت له الظّروف ذاتها سيصبح ملكاً؟. طبعاً -بالتأكيد- المؤرخ إن كان يحترم كلمته فسوف يحجم عن الإجابة؛ لأنَّه لا يملكها، إلا أننا للأسف نلقى معظم المؤرخين لا يتمتعون بالحد الأدنى من هذا الاحترام.

فهنا لدينا عدة احتمالات منها أنَّ الخبر التَّاريخيّ حول هذه الواقعة الَّذي أورده المؤرخ ليس كاملاً، وأنَّ طرفاً من الأحداث الَّتي وقعت بالفعل تمَّ إخفاؤها أو تزويّرها أو إغفالها أو لم يصل إليها المؤرخ، هذا الاحتمال الأول. أما الثَّاني، فهو: إنَّ تحوّل الإسطبلي إلى ملك لم يكن إلا ضربة حظّ!. بعض من يسمّون أنفسهم فلاسفة العلم أو أصحاب المنهج النّقدي في تدوين الواقعة التّاريخية يأخذون ببعض محتويات الاحتمال الأول، ولكن من وجهة نظري الخاصة -وبما أن الأمر يتعلق بطبيعتي الخارجية ويعنيني شخصياً- فإنني أؤكد لك بأنَّ كلا الاحتمالين يُفسران هذه الواقعة مع فرق أنَّ الاحتمال الأول يُفسر حدوث الظَّاهرة في إطار طبيعتي الخارجية، أما الاحتمال الثَّاني فهو الَّذي يحكم طبيعتي الدَّاخلية، وبالتالي: فإن الحَظّ هو السّيّد المُطلق الَّذي يفسر حدوث هذه الواقعة في مسار التّاريخ أو الأصح في مسار الوقائع التّاريخيّة؛ لأنني أوضحت لك أنني لا أسير ولكنني شبه ثابت، فأنا المجرى، والوقائع هي الماء المنسرب بين ضفتين. أما المؤرخ فهو ذلك الصّيِّاد الَّذي يعربد بسنارتهِ فوق مائي، ويأمل بعد أن ملأ عقله بخمور المناهج المتوهمة بأنّه قادر على أن يمسك ببعض الأسماك في وسط التَّيار الهادر.

- هل لك أن تضرب لي مزيداً من الأمثلة؟.

- بالطبع، خذ مثلاً: المحاولات البائسة لتفسير تحوَّل ضابطٍ صغيرٍ حالمٍ رومنسي لا يتعدى طوله المتر وستين سنتمتر إلى إمبراطور يُدّمر مُعظم ممالك قارة أوروبا وبعض دول آسيا وأمريكا، ضابط صغير يصير فجأة قوة هائلة تبطش وتنهب وتدمر وتخرب هنا وهناك، العقل البشري ممثلاً بعقلية المؤرخ يحتاج إلى فهم وتفسير ينسجم مع طبيعة البنية الدَّاخلية الَّتي صُممت عليها عقليتهُ، العقل البشري المُنَظَم لا يقوى على الحياة بين الفوضى. العقل المنطقي لا يقبل بوجود الصُّدفة. فكما أنَّ المسيحيّ الألمانيّ يتخيّل السّيّد المسيح بعيون "زرقاء"؛ لأن المثل الأعلى لجمال العيون عنده يتمثل باللّون الأزرق، فإنَّ المسيحي العربيّ تخيّل السّيّد المسيح بعيون "سوداء"، حسب مثلهُ الجمالي، وكما أنَّ مسلمي أمريكا الجديدة تخيلوا النّبيّ "مُحمّدًا" أسود البشرة، كذلك تخيّل المُسلِم التُّركي النّبيّ مُحمّداً ببشرةٍ بيضاءَ تميل إلى الصُّفرة. ولكن السُّؤال الَّذي يطرح نفسه الآن: من يملك الحقيقة؟ الجواب: لا أحد!. والأمر نفسه ينطبق على آلية العقل البشري الدَّاخلية المُنظمَة الَّتي لن تقبل بنسب تحوِّل هذا الضَّابط الصَّغير –نابليون- إلى إمبراطور فرنسيّ كبير بفعل الحَظّ ليس أكثر، بل لأنَّ المُؤرخ مَحكومٌ أو مَطبوع بمُحددات العقلية البشرية العامة والعقلية البشرية الخاصة، فهو لا بُدَّ لهُ من خلع أو إسقاط طبيعة عقليتهِ على هذا الحدث التّاريخيّ، فتجده يُسجل هذه الواقعة وكأنَّها مُعادلةٌ رياضيّةٌ، والمؤرخ الَّذي يعجز عن فهم أو حل تلك المُعادلة يتحوّل إلى أسلوب رومنسيّ يتكلم فيه عن "العبقرية العسكرية الخارقة" أو يتحدث عن "قدر الرّجال العظماء" أو يتحدث عن ولادة "الرّجال المصلحين العظماء" أو "الرّجال المستنيرين" .. إلخ، إلا أنَّ الأمر ليس هذا أو ذاك، إنَّ هذا الضّابط لو نظرت إلى حياته من زاويةٍ ثانية لن تجده قد فكر في لحظةٍ واحدةٍ من لحظات حياته إلا في نفسه، وقد تصرف في كل فرصة أو ضربة حظ ّواتتهُ بطريقة أنانية، والمُصلح العظيم لم يكن أكثر من مستهتر يتنافس وزوجته في العلاقات غير الشَّرعيِّة، حتَّى إنّه لم يتمكن أيّ مؤرخ إلى هذا اليوم من إحصاء عدد أولاده غير الشّرعيين. إنّ الحَظّ يلعب في خلق التّحوّلات التّاريخيّة أكثر مما تمارسه الألعاب النّاريّة في حرية اللّعب في السّماء الصّافية!.

- هل أفهم من هذا الكلام أنَّ السّيّد الوقور لا يعترف بوجود العباقرة في التّاريخ البشري؟.

- ليس ما يهمني وجود عباقرة بين البشر أم لا، ولكن ما يعنيني هو ما نوع الأسباب الَّتي جعلت من (x) عبقرياً أو ذي وضع خاص بين البشر؟ الجواب عندي هو الحَظّ!.

- إنّك تُلغي بذلك دور الجهد والمثابرة والشَّجاعة، الَّتي يبذلها بعض البشر لإبراز عبقرتيهم أو لكسب الاعتراف بعبقريتهم.

- كم من إنسان يبذل جهود جبارة في حياته ولا يحصل على أي اعتراف بجهوده! وكم من كسول تافه لا يبذل أي جهد يحصل على مكاسب عظيمة في فوضى الأحداث!. المثابرة والجهد والنّشاط أشياء جيدة ولكنّها لا تخلق تحوُّلات جذرية أو تنتج عباقرة، وحده الحَظّ من يحكم اللُّعبة، ووحده من يملك تحرِّيك مفاصلها الأساسية، خذ مثالاً آخر: إنَّ شخصاً تواضع المؤرخون على تسميته عبقريّ، مثل "ليوناردو دافنشي" لم يكن لديه أي خيار، ولم يقدم أي جهد ولا توجد أي أسباب موضوعية أو عقلية تبرر ولادته من بطن أمهِ وهو مزود بموهبة الرَّسم، لو قُدّر له أن يولد في مجتمع أو أسرة أو حقبة زمنية مختلفة، لربما لم يكن أحد غير أمهِ سمع بهِ. فمن قدَّر لهذا الإنسان أن يحصل على كل هذه الشّهرة في العالم وأن يُخلق بهذه الموهبة؟ المؤمنون سيقولون: الله، والملحدون سيقولون: المصادفة .. كم من إنسان يحمل مواهب أكثر بكثير من ليوناردو، وربما كان يعيش على بعد أمتار قليلة من منزلهِ لكن لم يسعفه الحَظّ ليعبر أو ليبرز موهبته أو عبقريته! ومن غير الحَظّ -كذلك- لن تجد أي تفسير لتحوّل عريف شبه مريض نفسيّاً إلى ديكتاتور مجنون يحكم أوربا ويحرق العالم مثل "هتلر"، من غير الحَظّ لن تفسر تحوّل تاجر صغير في مكّة إلى خليفة مُبجَّل يحكم أرضاً تمتد من الصِّين إلى إسبانيا، من غير الحَظّ سوف تصبح كل مُحاولة عقلية -لتفسير تحوُّل مُراهق مثل "الاسكندر المقدوني- يحكم قرية صغيرة في مقدونية مع مجموعة من "زعرانه" إلى إمبراطور وقادة يحكمون العالم بسلطات مطلقة- مجرد فانتازيِّة لا تمتلك أيَّة مصداقيَّة واقعيَّة، وأيَّةُ كتابة تأريخيِّة لقصِّةِ المراهق المقدوني الَّذي ذكرت لكَ من غير الحَظّ سوف تبقى غير مُفسَّرَة وغير مفهومة وستبقى غامضةً ومشوشة، هذا إذا استبعدنا وجود النّقص أو التّزوير أو الكذب في تدوين هذه الرّواية الَّتي وصفت ترقي القائد المقدوني إلى حاكم عالمي. نعم، كتاب المؤرخ مليء بالأكاذيب وبالأحداث المُختلقَّة، كلُّ ما لدى البشر من كتب تاريخية لا تتمتع إلا بمصداقية نسبية ومحدودة جداً.

- إنَّك تُشكِّك بثقةٍ كبيرةٍ في مصداقية تدوين تاريخ البشر!.

- نعم؛ لأنني ببساطة أتحدث عن نفسي، ولا أحد يستطيع الزَّعم أنَّهُ يعرف عني أكثر مما أعرفه!.

- هل تريد أن تُضيف شيئاً آخر عن العبقريِّة؟.

- نعم، أودُّ أن أقول أيضاً: ليس كلُّ من تقدمهُ لكَ كُتب التّاريخ على أنّه شخصٌ أو عملٌ عبقريٌ هو بالفعل كذلك، إنَّ ما تنظر إليه البشرية في فترة زمنية ما في منظومة فكرية أو أخلاقية ما على أنَّه عمل عبقري يمكن أن يُنظر إليه في ظروف مختلفة على أنّه نموذج مثالي للحماقة والبلاهة. البشر الَّذين من أعظم ميزاتهم تزوير الوقائع، كثيراً ما قدّموا أشخاصاً على أنَّهم عظماء أو فلاسفة أو علماء، وهم لا يستحقون ذلك الشّرف الَّذي أسبغ عليهم، ولكن "مجموعات الضَّغط والنُّفوذ" في ترويج رواية تاريخية معينة أو تسويق شخصية معينة تُدخِل الوهم في أذهان البشر، وفي القرنين الأخيرين من عمر البشرية كثر وجود مثل هذه المجموعات، ويمكنني أن أزعم أنَّ ما تمﱠ تزويره في إعادة كتابة تاريخ البشرية والعالم في القرنين الأخيرين يعادل أضعاف ما تمَّ تزويره في عمر البشرية قاطبةً منذ اليوم الأول الَّذي أمسك بهِ ذلك الإنسان القلم ليدوِّن الكلمة الأولى من وقائع التّاريخ!.

- إنَّك حقاً مُتحاملٌ على البشرية وتُسيء الظَّن بها إلى أبعد الحدود!.

- ليس الأمر كما ذهبت، ولكن دعني أضرب لك أمثلة من القرن الأخير، أمثلة قد عايشها بعض البشر، منها أنّك تجد في الفترة الزّمنية نفسها والمكان الجغرافي نفسه في دولةٍ صغيرةٍ مثل ليبيا، كُتباً تأريخيِّةً تؤرِّخ لحياة شخصية ما يسمى "معمر القذافي"، فتجدها من وجهتي نظر متضادتين تماماً؛ الكتب الأولى: تجعل منه قائداً عظيماً وفاتحاً حضارياً وملك ملوك القارة الإفريقية. الكتب الثّانية على النّقيض: تجعل منه صعلوكاً لقيطاً مجهول الأصل، سرق السّلطة أو استولى عليها بشكل غير مفهوم أو غامض .. وأمام تأريخ هذه الظّاهرة نحتاج أن نسأل عدة أسئلة، منها: ما هي حقيقة هذه الشّخصية؟ إلى أيّ عالم تنتمي؟ كيف يمكن لنا وفق ما يسمى بالأسباب الموضوعية أو الشّروط المُفسِّرة أن نفهم تحوّل ملازم أول، مشوش عقلياً إلى رئيس بسلطات مطلقة لأكثر من أربعين سنة؟ بالتأكيد ستُبْذَلُ محاولاتٌ كثيرةٌ من المؤرخين لتفسير هذا الأمر، منها: سيفسر الظَّاهرة عن طريق المؤامرة، ومنها عن طريق اقتناص الفرص، ومنها عن طريق الجهد والمثابرة والعبقرية، ومنها عن طريق الظُّروف الاجتماعية والدّولية المؤاتية.. إلخ. ولكن الشّيء الَّذي يمكن أن يتمتع بالمصداقية أو بالنصيب الأعلى من المصداقية هو أنَّ الحَظَّ كان من دفع بهذه الشّخصية إلى لعب هذا الدّور في مسار الوقائع التّاريخية. وأمام وجهتي النّظر المتعارضتين حول هذه الشّخصية من ملاك إلى شيطان، يظهر السّؤال التّأريخي -بعد ألف عام قد تمضي على هذه "الحتوتة"- ترى ماذا سيدوِّن المؤرخ حول هذه الظّاهرة؟ والجواب آنذاك لا بُدَّ أن يكون واحداً من عدة احتمالات، أولها: أنّه إذا وصلت المؤرخ كلتا الرّوايتين، وكان لديه الحد الأدنى مما يسمى بموضوعيّة التّدوين، فإنّه سيذكر كلتا الرّوايتين، ولكن ستواجهه -حينها- مُعضلة أيُّهما الرّواية الصّحيحة؟ ما هي حقيقة هذه الشّخصية؟ هل هي عظيمة وعبقرية أم وضيعة خرقاء؟ وكيف سيتم فهم تحوّل ضابط إشارة فاشل إلى دكتاتور مُستبد؟. أما الاحتمال الثّاني، فهو: أن تصل إلى المؤرخ –فقط- إحدى الرّوايتين، وبالتالي تضيع نصف الرّواية الخلافية حول هذه الشّخصيِّة. الاحتمال الثّالث، هو: أن يُكتب الحدث وفق رؤية "مجموعة ضغط أو نفوذ" ما، تَعمدُ إلى توجيه المؤرخ –آنذاك- إلى إحدى الرّوايتين أو إلى رؤية ثالثة تنكرهما معاً أو تجمع بينهما. والسّؤال يبرز الآن: أين هي الحقيقة؟ الحقيقة هي: أنَّ ما نسميها كتب تاريخٍ مليئة بهذا المثال، وبالتالي لن نبالغ إذا زعمنا بأنّ علم التّاريخ مُمثلاً بكتابه العام يجمع في جوفه الكثير من الأكاذيب والمزوّرات والافتراءات المقصودة وغير المقصودة. أما العلَّة الواضحة والقادرة على تفسير تحوّلات التّاريخ، فهي الحَظّ وليس الفرضيات "الخُزعبليّة"، الَّتي يروج لها بعض من يسمُّون أنفسهم فلاسفة التّاريخ أو المؤرخين أو علماء التّاريخ.

- ولكن هذا الفهم شديد الخطورة إذا ما تمّ تمديده على تاريخ الأديان والفلسفة والعلوم عامة، والفنون والأساطير البشرية القديمة والمعاصرة خاصةً.

- نعم، هذا الأمر ينطبق على كلّ هذه التّنصنيفات المتوهمة أو المفترضة لأشكال معرفة البشر ولكن بدرجات متفاوته!.

- ولكن ماذا تقولون في علم ظواهره: وثائق ومخطوطات مادية كعلم الآثار؟.

- دعني أوضح لك بأنَّ لي أولاداً كثر غير شرعيين، ولكن ذاك المسمى بعلم الآثار أحبَّهم إلى نفسي وأقربهم إليِّ.

- ابنك غير الشَّرعيّ؟.

- نعم، فهل تعتقد فقط أنَّ الضَّابط "الكوراسكي نابليون بونابرت" من كان لديه الولع بملاحقة بنات الهوى ليخلّف بعد كل مغامرة كائن غير شرعيّ؟.

- حسناً سيدي، دعنا الآن من الضَّابط "الكوراسكي" ، وقل لي: ما ترى في علم الآثار؟

- في البداية دعني أُسجِّل هذا الاعتراض على كلمة (علم): فلم يكن ما يسمى بعلم الآثار في أي يوم من أيام ولادته حتَّى هذه اللّحظة الَّتي تخرج فيها حروف هذه الكلمة من فمي (علماً).

- إذاً، فما هو؟.

- إنَّه في غالب الظَّن: مبحثٌ متقدِّمٌ في (محاولة) تقصِّي ما كان عليه الزَّمن السَّالف، وإذا قُدِّر له أن يكون (علماً)، فهو (علم) من الدَّرجة الخامسة!.

- ولماذا هذا البخس لشأن هذا العلم المهم؟.

- ليس الأمر قضية بخس أو رفع الشّأن بل الأمر متوقف على مصداقية ما ينتجه هذا المبحث من معارف ومعلومات.

- لم أفهم، هل من الممكن أن تزيد الأمر وضوحاً؟.

- بالتأكيد، سأوضح لك الأمر: حتَّى يصبح المبحث علماً لا بد له من أن ينضبط بمنهجية ما يفترضها العقل العلمي، ورغم أني بينت لك عدم اعترافي بأيِّة منهجية يفترضها العقل البشري على أنَّها مسلَّمة الصِّحة، فإنِّي أَبْسِطُ لكَ الموضوع في نطاق ما يتعارف عليه الباحثون في ما يسمى نظرية المعرفة العلميّة، وما يهمنا هنا هو أنَّ ما يسمَّى اصطلاحاً علم الآثار يعتمد منهجية "إعادة البناء العقلي"، وهي إحدى الأكاذيب الرَّخيصة الَّتي روّجت لها مدرسة "إيرلانغن" الألمانية في فترة من الفترات.

- وما تكون هذه المنهجية؟.

- إنّها أشبه بلعبة ملء الفراغات المتباعدة، مثلاً أعطيك مسماراً وعليك أن تتخيل أنَّه كان في ألواح سفينة النّبيّ نوح، ومن ثمَّة عليك أن تقوم بإعادة تصور للشكل الَّذي كانت عليه السّفينة أو أن تجد حجرين متباعدين، ثمَّ تفترض أنهما كانا في سور لمدينة مزدهرة، ومن ثمَّة تحاول أن تملأ المسافة بينهما بالحجارة الضَّائعة لتعيد تصور بناء هذا السُّور. والمشكلة أننا قد نفاجأ فيما بعد أو قد لا نعرف أبداً أنَّ السُّورَ المفترض للمدينة لم يكن أكثر من سياج لِحظيرة ماشية.

- ألا تعتقد أنّك تبالغ؟.

- ربما، ولكن هناك مُجلدات ومباحث تملأ رفوف المكتبات حول وجود شعب أو مجموعة بشرية في عهد من العهود، فقط لأنَّه ورد اسمٌ غامضٌ قد يكون له معنى أو لا يكون في وثيقة غامضة وجدت في مخلفات أحد القبور الدارسة!. هناك مباحث كاملة في ما يسمى بعلم الآثار عن مسميات لبلدان، ووجود لأمم يتم الحديث عنها وكأنَّها مُسلَّمة الصِّحة من حيث وجودها .. رغم أنَّه قد لا توجد قطعة حجارة واحدة تشير إلى وجود هذه الشُّعوب، كل ما لدينا هو ذكرٌ لمعلومات في كتب خرافية تصف ببعض الأسطر أنَّه توجد مثل هذه المجموعات العرقية أو المدن، إنَّ الفرق بين المعلومات الَّتي تتحدث عن وجود العنقاء أو التّنين، وبين المعلومات الَّتي يقدمها لنا كتاب الآثار، ليس في النَّوع ولكن في درجة الصّحة المفترضة لحقيقة وجودها.

- هل يعقل هذا الكلام؟! وماذا عن هذه الأقسام المنتشرة في أنحاء العالم، وتلك البعثات، وهؤلاء العلماء العاملين في هذا المبحث؟.

- إنّي لا أزعم أنَّ هذا المبحث عديم الفائدة أو أنَّ جميع ما ينتجه يفتقد للمصداقية أو من وحي الخيال والخرافة، أبداً ليس هذا ما أعنيه، وعليك ألّا تفهم كلامي السّابق على هذا النَّحو، ما أود إيصاله لك أنَّ هذا النَّوع من الدِّراسات ينتمي للفنون أكثر مما ينتمي للعلوم، وأنَّ الخيال والفنتازيا يلعبان دوراً مهماً فيه، والشَّيء المميز له هو خضوعه الكلي لسلطة "مجموعات الضّغط والنّفوذ" الَّتي تخترع أشياء لم تكن موجودةً، وقد تلغي أشياءَ كانت موجودةً بالفعل، وقد تُوجد للقيط تاريخاً ونسباً، وتحذف نسب وتاريخ الأصيل، وهكذا دواليك.

- إنَّ هذا الكلام الَّذي تذكره هنا شديد الخطورة.

- اِسمع أيُّها الغلام، لقد كررتَ هذه العبارة أكثر من مرة، لا يوجد شيءٌ في تاريخ البشرية وفي نتاجها يمكن أن تسميه "شديد الخطورة" أو أنَّه يُحدث تأثيراً خطيراً إذا ما قمت بتغيير وجهات النّظر نحوه، فأنت في البداية وفي النّهاية تتعامل مع تاريخٍ ونتاجٍ مليءٍ بالأكاذيب والتّزوير، فلو أنّك زوَّرت قطَّعة ورق إلى عشرة دولارات أو إلى عشرة يورهات فلن يتغير الأمر من حيث إنّك تمارس التّزوير، كل ما في الأمر أنّ الَّذي يتغير هو نسب العملة الورقيّة، فبدلاً من أن تقول هذه عشرة دولارات أمريكية، ستقول هذه عشرة يوروهات أوروبية!. هل فهمت ما أرمي إليه؟ إنّك تُغير نسب الكذبة من مكان إلى آخر، ورغم أننا لا نستطيع أن ننكر أنَّه توجد بالفعل عشرة دولارات أو يورهات غير مزورة، ولكن إذا كان الشّرطي المسؤول عن كشف العملة المزوَّرة هو من يقوم بهذا التّزوير أو عقدَ اتفاقاً وثيقاً مع من يزوِّر، فهل ستبقى أيِّة مصداقيِّه لما تملكه من عملة؟ أو أيِّة مصداقيِّة لذلك التّقرير الَّذي يصدره شرطي المراقبة حول صدق أو كذب ما لديك من عملة؟. إننا إزاء هذا الموقف تصح لدينا مقولة "بروتاغوراس": "كلُّ حكمٍ حقيقيٌ". بل سيكون من الأجدى أن نستعير مقولة "غورجياس": "ولا حكمَ حقيقيٌ"!.

- هذا يدعو إلى التّشاؤم!.

- ليس أكثر تشاؤماً من أن يعمل مئات الطلّبة والأساتذة بجدٍ في إخراج عشرات المجلدات في أحد مراكز البحوث حول فكرة من الأفكار من غير أن يعلموا أنَّ الفكرة ليست أكثر من وهمٍ أو كذبةٍ مفتعلةٍ مثل تلك الكذبة الهائلة الَّتي افترضها مراهقٌ نمساويٌّ مخبولٌ في القرن الثّامن عشر حول ما يسمى بالشّعوب السّامية المنسوبة إلى سام بن نوح، وبالشعوب اليافثية أو الحامية نسبة إلى أولاد آخرين، فنحن نعلم أنه حتَّى هذا اليوم لا توجد مزِقة جلد أو قطعة حجارة واحدة تثبت وجود سام ذاك أو أحد أخوته، وكلّ هذا الجدل الَّذي تراه حول تاريخ ما يسمى الشّرق الأوسط -على الرَّغم من أنَّه ليس شرقاً بل مركزٌ- من تاريخ لنبيّ يسمى إبراهيم ولديه أولادٌ هاجريون وساريون، حتَّى هذه اللّحظة لا يمتلك ما يسمى علم الآثار وثيقةً واحدةً محترمةً تثبت وجود ظاهرة العائلة الإبراهيميِّة تلك، كل ما نجنيه من هذه التّصانيف المُفترضة هو إعطاء المبررات لأصحاب المذاهب العنصرية هنا وهناك من أجل تمزيق عُرى الأسرة الإنسانيّة الواحدة من خلال التّرويج لمثل هذه الأساطير المبتدعة، فلم تزلْ جرائمُ النَّازية ومحارقهم، والفاشيِّة وأكاذيبهم، والاشتراكية العربية المتوهمة، والنَّزعة السَّاسانية المفتعلة، والصهيونية المتطرفة ماثلةً للعيان.

- ولكن كيف ذلك؟ إنَّ الكتب الدِّينية مليئةٌ بالمعلومات حول النّبيّ إبراهيم وأولاده، وحول الشّعوب الَّتي تفرعت عنهم.

- نعم أؤكد صحة ما قلته، ولكن حينها سوف ننتقل من إطار المعارف العلميّة إلى إطار المعارف الدّينيّة. بُنيَّ، أرجو أن تفهمني جيداً، فلقد أُسيء فهمي كثيراً، إنني حينما أقول لك إنه لا توجد حفريات تثبت وجود النّبيّ إبراهيم، وأن ليس من حقّ علم الآثار أن يتبجح بحشر أنفه في هذه المسألة، حيث إنّه في إطار مبحثه الخاص لا يملك أيَّ معطيات حول هذه القضية، فإنَّ هذا الكلام لا يعني أن هذا النّبيّ كان موجوداً أو لم يكن موجوداً، ولا يعني أنَّ ما تذكره الكتب الدّينية عنه صحيحاً أو غير صحيحٍ، بل كلُّ ما يعنيه أنّه عندما ينتج علم الآثار دراسات ومعلومات تستند إلى هذه المعطيات اللاأثريّة يكون بذلك يمارس نوعاً من الدّجل الَّذي لا يقبله العقل العلمي، فهو أشبه بممارسة عالم فلك في إنتاجه أبحاثاً يزعم أنّها علميّةٌ، وهو يستند فيها إلى فن التّنجيم، وأُعيد التّذكير بأنني بهذا المثال لا أقلل من أهمية أو مصداقية فن التّنجيم مقارنة بغيره من الفنون.

- إذا صحَّت مزاعمكم، فهذا يعني أن ما ينتجه علم الآثار من معارف تكون مجروحةً، أو أن درجة صحتها النَّسبيِّة منخفضةٌ مقارنةً بغيرها؟.

- حسناً تستطيع أن تقول ذلك، ولكن تبدو لي شديد التّفاؤل؛ لأننا إذا أضفنا إلى هذه النّسبيِّة الَّتي تعتمد منهجيِّة "إعادة البناء العقلي"، ولعبة "ملء الفراغات"، أقول إذا أضفنا لها تأثيرَ (مجموعات الضَّغط)، فإننا سوف نتحدث عندها عن علمٍ من نوعٍ خاصٍ أو كما ذكرت لكَ يُفضَّل نقل تسمية مباحث الدِّراسات الأثريِّة إلى مباحث الفنتازيا "fantasy"، وإذا أردت عنواناً مُسالماً، فلنقل: "علم التَّخمين".

- لقد تحدَّثت كثيراً عمّا تسميه "مجموعات الضَّغط والنّفوذ"، فما الَّذي يثبت وجود مثلِ هذه المجموعات وتأثيرها في حقل المعارف العلميِّة؟.

- لا يخلو عصر من العصور من وجود مثل هذه المجموعات، والكثير من النّاس تحدَّثوا عنها وعن تأثيرها ودوَّنوا ذلك في كُتبهم وموسوعاتهم، فوجودها ترافق منذ القدم مع وجود المعرفة البشرية، ولكن درجة الضّرر ونسبة التأثير الَّذي تمارسه يختلف من عصرٍ إلى آخرَ ومن علمٍ أو مبحثٍ إلى غيره، أمَّا عن وجودها فلن يخفى على المُتبصِّرِ إلا بالقدرِ الَّذي يمكن فيه أن تخفى وجود التَّيارات البحرية على ملاحٍ مُتمرِّسٍ، فرغم أنَّ ماء البحر قد يتجه بعمومه إلى جهةٍ ما إذا تُرك على سجيته، فإنَّك ترى هذه التّيارات تدفعُ به باتجاهٍ يبتعدُ أو يقتربُ، فنحن لا نستطيع أن نُلغي وجود أنماط من الضَّغط والتَّأثير المرئيَّة وغير المرئيَّة المتعددة الأشكال تُمَارسُ على حركة ماء البحار والمحيطات من جهاتٍ أو من عواملٍ مختلفةٍ مثل جاذبيَّة الشَّمس والقمر، وقوة الطَّرد المركزي النَّاتجة عن دوران الأرض حول نفسها إلى جانب دفع الرّياح والأعاصير ونسبة الملوحة وغيرها .. فلا يمكنك إذاً الحديث عن حركة الماء بشكلٍ صحيحٍ، إذا ما غفلت عن وجود مثل هذه الأنماط من التَّأثيرات الَّتي تمارسها أشياء من خارج حدود الماء أو من داخله عليه، والأمر يشبه إلى حد بعيد ما يحدث في لجُج "بحار المعرفة البشرية عبر التّاريخ"، فثمَّة تيارات دافعة وقوى جاذبة أو طاردة تمارسها مجموعات الضَّغط والنُّفوذ على توجيه حركة الثّقافة البشريِّة بما فيها عمليات تدوينها أو إهمالها أو تحريفها وأنماط فهمها أو تفسيرها أو تأويلها، وذلك وفقاً لأغراض ونوايا تعود عليها بالنّفع المؤقت أو البعيد، فهي تتحرك في كل ذلك مشفوعة بمصالحها الخاصة؛ لذلك فإني أقترح أن نتفق على تسمية هذه المجموعات، أقصد المبحث المفترض لها: "بعلم مجموعات الضَّغط والنُّفوذ"،

"The science of pressure groups and influence"،

وذلك أسوةً بالمجاز المستخدم في تسمية بعض المباحث على أنَّها علوم مثل علم الآثار كما بينا. والجدير بالذكر وجود مراكز مُتخصصة بمثل هذا المبحث في أنحاء مختلفة من العالم.

- لا يبدو هذا الاسم سيئاً ولكنه طويلٌ. ألا توجد طريقة لاختصاره؟.

- ولمَ لا، أعطنا اقتراحاً؟.

- مثلاً: "SOPGAI".

- كلُّ شيءٍ جائزٌ، فمعظم ما تعتقده من معارف وما تستخدمه من مصطلحات في حياتك اليوميِّة وفي جميع التَّخصصات المعرفية إنما هي افتراضات تمَّ اقتراحها من أحدهم في فترة ما ثمَّ اقتضت مصالح فئة محدودة من النُّخب العلميِّة أو الاجتماعيِّة أو الدّينيِّة أو السّياسيِّة أو الاقتصاديِّة أو حتَّى فئة المهمشين أحيانًا أن تتبنى هذه الافتراضات فتعمل على التّرويج الواعي لها بين شريحة أوسع من المُغفلين الَّذين يتلقفون كلَّ ما يلقى إليهم بتسليم ساذجٍ لتبقى في النِّهاية مسألة أنَّها قد تصح أو لا تصح مُعلقةً إلى حين حدوث انزياح باتجاه تصورات مغايرة تأتي على خلفية مكتشفات جديدة أو تبدل مصالح النُّخبة الحالية أو ظهور نخبٍ جديدة منافسة.

- ألا تعتقد أنَّك بهذا القول يمكن أن تستعدي معظم العاملين في تلك العلوم والتّخصصات؟.

- لستُ أنا من يعاديهم ولكن كما سبق وقدَّمت لك القول: بأنَّ المُؤرخ ملأ وجهي بالبصاق، وأولادي غير الشّرعيين جُلّهم ولدٌ عاقّ .. ثمَّ اُنظر ماذا ترى أمامك؟ ليس أكثر من عجوزٍ خرفٍ .. إنَّ العقلاء عادةً لا يلتفتون لما يصدر عن العجائز الخرفة، أليس كذلك؟.

- لا أدري "حقاً" إن كنت أنت الخرف وهم العقلاء أم العكس؟ إنني أشعر كمن ضرب على رأسهِ فلم يعد يميز يمينه من شماله.

- هذا جيد، يبدو أنّك قد بدأت الخطوة الأولى نحو فقدان الذَّاكرة، وهذه فضيلة عظيمة يمكن أن تحدث فقط للصدّيقين؛ لأنَّ ذلك سوف يُمكِّنك من نسيان كلّ آثام وأكاذيب البشرية السَّابقة وبالتالي سوف تضطرُّ إلى أن تُعيد بناء معارفك من جديد على أُسسٍ جديدةٍ دون أن تستسلم لغويات ما تروج له مجموعات الضَّغط على أنّه الصِّيغة الوحيدة المتاحة أو القراءة الأصح.

- وماذا إذا استعدت ذاكرتي قبل أن أبني هذه الذّاكرة الجديدة؟.

- إذًا سلم أمرك إلى الحَظّ الَّذي جعلك فرداً في منظومة التّيار الثّقافي الموجه، وكلّما قُدِّمت لك معلومة ما امضغها جيداً ثمَّ أتبعها بكأسٍ من "عِرق السُّوس" كي يُساعدك على الهضم الجيد للعلف الَّذي قُدِّم لك!.

- هذا ليس بِالسِّيء، والمرء يحتاج بين الفينة والأخرى لتلك الكأس!.

- ولكن لا تكثر منها وإلا سقطت أسنانك، وما بقي منها يصير شديدة الصُّفرة.

- حسناً أيّها "الخادم الشّاب"، هل عندك مزيدٌ من الأسئلة؟.

- لديَّ أسئلةٌ كثيرةٌ ولكن أرجو أن تسمح لي بأن أُغيّر نوعها فقد تحدثنَّا أو بالأصح حدثتنَّا عن مسائل تخصُّ جوانب معرفيِّة، وعلى وجه التِّحديد ما يتعلق منها بالعلاقة بين التَّاريخ والمؤرخ، والَّتي وصفتها بالعلاقةِ العدائيِّة. فهل تسمح لي الآن أن أنقل الحديث من المسائل العامة إلى مسائل تخصُّ حضرتك فحتَّى الآن لم تخبرني من أنت؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت لتعيش في هذا العالم المُنعزل عن بقية العوالم؟.

- كلُّ ما دار بيني وبينك من حوارٍ لم يكن أكثر من محاولة الإجابة عن سؤالك الأول: "مَن أنا"؟ وليس بالضّرورة أن تعرف الآن من أكون بالتحديد، ولكنك ستتعرف إليَّ شيئاً فشيئاً من سياقِ هذا التَّعارف. أمَّا ما يخصّ سؤالك: "من أين جئت"؟ فلعلي أفهم أنَّك تقصدُّ السُّؤال عَن مَوطني؟ إذا كان فهمي صحيحاً، فذلك أنك تسأل سؤالاً يحتمل إجاباتٍ عديدةً!.

مراجعة وتدقيق: عبد العزيز شباط

كاتب وأكاديمي
عبد الحكيم شباط، أكاديمي وكاتب مقيم في ألمانيا، له العديد من المؤلفات والأبحاث العلمية والأدبية المنشورة باللّغتين الألمانية والعربية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية