تنطوي استعمالات مفهوم المجتمع المدني على كم هائل من الاختلاطات والالتباسات، حيث كل مقاربة ترتدي هنا لبوس الأيديولوجيا، إنما تندرج في حكم المقاربات التي تتماهى مع عموم الخطاب النفعي.
إن التتبع التاريخي والرصد المنهجي والإبستيمولوجي لمفهوم المجتمع المدني، إنما هو محاولة معرفية للتصدي لهذا الائتلاف وتفكيك لتلك الاختلاطات التي أحاطت وواكبت تاريخ وتجربة المفهوم نظريا وسوسيولوجيا.
وقد عرف مفهوم المجتمع المدني ذيوعا وانتشارا كبيرين في الخطاب العربي المعاصر، وأصبح من المفاهيم الشائعة والمألوفة ومن ثم المقبولة – رغم ما أثاره، ولا يزال من اختلاطات واختلافات بشأنه- في كتابات الصحافة العربية وفي أحاديث وسائل الإعلام الأخرى، كما نجده فيما تعلنه النقابات والجمعيات المهنية من مطالب وبلاغات، وفيما تصدره جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف توجهاتها من نداءات، كما يتردد المفهوم نفسه في خطب وأحاديث الأحزاب السياسية والعديد من الجمعيات الثقافية والاجتماعية، وفيما تورده مراكز البحث من تقارير ودراسات، هذا بالإضافة إلى عدم خلو خطابات وكتابات المثقف العربي منه، بل إن المثير في الأمر أن الخطاب الرسمي والحكومي العربي يحمل في الكثير من الأحيان هذا المفهوم .
هذا الرواج الهائل لمفهوم "المجتمع المدني" أسهم في زيادة تعقيداته واضطراباته بشكل أضفى عليه عدم الاستقرار والتحديد الواضح، مما جعل فكرة المجتمع المدني تتهيأ للتوظيف الخاطئ والاستخدام السيئ، حتى إن استخدامه في بعض الصراع السياسي يتخذ مضمونه بحسب الجهة التي تستخدمه ووفقا للأغراض التي تسعى لتحقيقها، كما كانت للخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني دورا أساسيا في الوصول بالمفهوم إلى نوع من الاستقرار والوضوح، فقدّم المفهوم تارة بوصفه مقابلا للدولة والمجتمع السياسي، وتارة أخرى بوصفه مقابلا للدين.
كما قدم كمقابل للنظم العسكرية والبنى الاجتماعية التقليدية، وقدم أخيرا بوصغه مفهوما حديثا لا صلة له بالمجتمع العربي الإسلامي كذريعة لرفضه وعدم القبول به وهو ما جعل المفهوم حمّال أوجهٍ عديدة زادت من الغموض عند التعامل معه، فلم تهتم الكثير من الكتابات العربية في تناولها للمفهوم بإزالة هذا الغموض والإبهام الذي أحاط به أو محاولة إيجاد المدخل المناسب لتحديده تحديدا دقيقا من الناحية التاريخية والوظيفية والمجتمعية حتى يتم الكشف عن جوهره وأدواره وأبعاده.


لذا فان المدخل المناسب لترسيخ مفهوم المجتمع المدني بما يحمله من مبادئ وقيم الديمقراطية والمشاركة بمعناها الواسع سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا هو القبول به أولا، ثم العمل على وضع آليات لتفعيله وفق متطلبات الواقع في المجتمعات العربية.
وقد أضفت فترات المد والجزر التي صاحبت المفهوم عبر تاريخه وتراوحت ما بين الصعود والهبوط، المزيد من التعقيد والغموض عليه، حيث أفرز هذا التأرجح كمًّا هائلا من التعريفات، ما فتئت تزداد ثراء وتنوعا كلما اكتشف المفهوم في فضاء جديد أو أعيد اكتشافه في ساحة من ساحاته التقليدية. ومن تم فالإشكالية المطروحة هنا، ليست الوصول إلى تعريف جامع مانع للمجتمع المدني، بقدر ما هي محاولة التوصل إلى التحديد الدقيق لعناصر المفهوم ومحدوداته وبالتالي وظائفه وأهدافه، وذلك من خلال التعرف على الجذور التاريخية للمفهوم الذي تعددت مضامينه، باعتباره من ميـراث الحضارة الغربية. والجدل الذي صاحب شيوعه في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وحتى الآن يبين جوهر المفهوم من خلال عناصره وخصائصه ومقوماته.
وعموما تعاني المفاهيم من مشكلة انحصارها وانغلاقها وبالتالي فشلها في اختراق قاموس خطاباتها، في حين أن مشكلة مفهوم المجتمع المدني هي انسيابيته وميوعته وانتشاره في كل الاتجاهات لينحت لذاته وجود إما تارة، أو ليفوض عنوة تارة أخرى، بحيث أصبح اصطلاحا متداولا في الجدل الذي تخوض فيه النخب التي تنتمي إلى مجالات وقطاعات مختلفة، في المعرفة، والسياسة، والاقتصاد... فضلا عن ذلك نجد أن المفهوم يعد من المفردات المرحب بها في القاموس التداولي للتيارات المتدينة، حيث لا وجود لرجل دولة أو دين إلا واستخدم أو استغل هذا المفهوم، بل إن فئات وهيئات عريضة من قطاعات المجتمع تتبارى في السعي للحصول على صفة العضوية في تنظيمات المجتمع المدني، لأن هذه الصفة تعد مصدرا من مصادر الشرعية... شرعية وجودية وشرعية حداثية. إن المجتمع المدني بهذا المعنى ليس مجرد قيمة سياسية، إنه إفصاح عن قيمة وجودية.
هكذا ينتمي المجتمع المدني إلى شبكة مفاهيمية، مما يزيد من صعوبات الرصد، ومن تم يكون للمفهوم أكثر من نشأة، حيث ارتبط في كل مرحلة بتجربة تميزها قطائع في الفكر والسياسية عما سواها، مما يعكس طبيعة المفارقات التي لزمت هويته التكوينية، سواء من مجال الأنساق الفكرية أو في التجارب التاريخية والاجتماعية. وقد ينتج عن ذلك كله ما يشوش على محاولات التعريف التي أخضع لها. حيث ينطوي بذلك مفهوم المجتمع المدني على صيغ دلالية ومفاهيمية تتمنع على الضبط والتحديد والتعريف. ومع ذلك ينبغي التأكيد على أن التمنع الذي يبديه مفهوم المجتمع المدني لا ينبغي أن يقود إلى التوقف عن الإمساك بتعريفه وتحليله، وبالتالي الارتقاء بهذه المحاولة ليكون لها هدف علمي ومنهجي ومعرفي، مع الإدراك التام بأنه كلما تضاعف استعمال المفهوم، إلا وتضاعف غموضه وانتصبت العراقيل أكثر فأكثر في وجه كل مقاربة لرصده. مما يجعل تاريخ المجتمع المدني من أطول وأقدم التواريخ كلها، ذلك أن تحول المفهوم من لغة إلى أخرى، وما واكب ذلك من انتقال لمضامين مجمل السياقات السوسيو سياسية والملأى بالتنوع والتعدد حد التناقض والتنافر عبر تاريخ طويل ومعقد يجعلنا أمام مفهوم تاريخي شديد الحساسية إزاء التعريفات الإجرائية والتي يمكن أن تقلل من أهميته النظرية والمعرفية.
وبالنظر إلى هذا البعد التاريخي للمفهوم وبعيدا عن كل الإسقاطات المجانية والتوظيفات الجزافية تنبثق الرؤية النقدية ل "مفهوم المجتمع المدني" والتي يجب ألا تنصب على المفهوم ذاته كما أبرزته المدارس المختلفة في الفكر الغربي بل يجب أن تنصب أساسا وبشكل أكبر على نقل هذا المفهوم في الوسط الأكاديمي والثقافي العربي مثلا، حيث إن "المجتمع المدني" هنا يعتبر مفهوما نموذجيا لعمليات مركبة ومتداعية تتعلق بنقل المفاهيم الغربية.
مفهوم المجتمع المدني بذلك "مفهوم مأزق" مرجعيته غربية، ومنقولا إلى الواقع العربي، وهو في خبرته مفهوم أيديولوجي يرتبط باتجاهات مختلفة كما تتبناه مدارس متنوعة وهو مضطرب المعاني، صعب التكييف، كما أنه ليس محل اتفاق، وهو مفهوم منظومة يستدعي سيلا من المفاهيم الغربية، وهو مفهوم حضاري يرتبط بالمشروع التحديثي، كما أنه مفهوم نسبي نظري إجرائي. وفي سياق الإشارة إلى مأزق مفهوم المجتمع المدني، فقد يكون أحد مداخل الخروج من عناصر الغموض، التي تشكل أحد جوانب المأزق، والوصول بالمفهوم إلى غاية الوضوح، والعبور به من الفوضى والتقدير إلى الضبط والتنظيم، هو تحديد المفهوم بشكل إجرائي يعبر عن حقائق المفهوم وجوهره.
ومن تم يمكن تعريف هذا المفهوم على نحو إجرائي بمجموع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة منها: أغراض سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية ، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي يمكن القول إن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية...
إن هذا التعريف يعبر عن الانتقائية بدرجة أو بأخرى، إذ يرد عليه المعايب نفسها التي توجه إلى الأسس المنهجية التي يستند إليها التعريف الإجرائي بوجه عام، علاوة على ذلك فان هذه التعريفات الإجرائية بطبيعتها تحاول من خلال الارتباط بفكرة المؤشرات كإحدى الوسائل البحثية أن تتغافل عن الأبعاد التاريخية للمفهوم، وتتبع سيرته وتطوره، فهي تتعامل معه كما هو لا في تطوره، وإهمال تاريخية المفهوم لحساب المعاني المعاصرة التي آل إليها المفهوم لا يزال يدور حول الانتقاد نفسه وهو الانتقائية المعيبة.
في هذا المقام إن تحديد هذه الأشكال المرتبطة بالمجتمع المدني، ووفق التعريف الإجرائي، قد يشوبها عيب التحكم الذي يستبعد بدوره أشكالا أخرى ترتبط بأنماط حضارية أخرى، بل ترتبط بالنمط الحضاري الواحد على فترات زمنية مختلفة.
"المجتمع المدني" كمفهوم يشير يقينا إلى مجموعة الظواهر وعدد من الشروط تحول هذا المفهوم إلى مجموعة الظواهر التي يشير إليها والأخذ في الاعتبار شروطا عملية تصير أكثر حيادا وأقل تحيزا.
إن مفهوم المجتمع المدني باعتباره مفهوما "منظومة" إضافة إلى كونه مفهوما حضاريا، وفق التصور الذي يجعل منه رافدا ضمن المشروع الحضاري، يعني بدوره أن البحث عن مصادفات هـذا المفهوم وكذا الظواهر الجزئية التي يشير إليها، يفترض رؤية هذا المفهوم في منظومته التي يرتبط بها مثل "المواطنة، حقوق الإنسان، المشاركة السياسية والشعبية – الشرعية- العلاقة السياسية"... أي منظومة من المفاهيم يمكن استدعاؤها بمناسبة مفهوم المجتمع المدني، يجب مراعاتها بدورها في سياق النمط الحضاري المغاير أو المتميز.
ضبط هذه المفاهيم بدورها والظواهر التي تشير إليها، وضبط النسب بينها، وعلائق التفاعل، إنما تعبر عن حقائق التعامل المنهجي مع هذا المفهوم وأشباهه. ومن تم يعني هذا ضمن ما يعنيه القيام بترجمة المفهوم إلى جوهر يتعلق بالظواهر المرتبطة به والشروط الخاصة به. وهذه خطوة تبرز جدارتها بالاهتمام حين معالجة المفهوم، وهي جزء من القيام بعملية التحديد لجوهر المفهوم.
وعموما يعتبر مفهوم المجتمع المدني مفهوما متحركا وغير مستقر وغير قابل للاستخدام في كل زمان ومكان حيث إن هذا المفهوم مرتبط بنشأته أي المشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه .أي أن لحظات معينة تاريخيا وعاطفيا هي التي تبرز مكامن قوة هذا المفهوم من جهة وتعري على مكامن ضعفه من جهة ثانية. الاحالات:

علي عبد الصادق، "مفهوم المجتمع المدني: قراءة أولية" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ،2007)، ص 18. 2 نفس المرجع، ص 19. 3محمد الغيلاني، "محنة المجتمع المدني: مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية" دفاتر وجهة نظر (6) ، (مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005)، ص22. 4 -سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، "المجتمع المدني والأهلي من منظور إسلامي بين الفكر والممارسة" ضمن "المجتمع المدني وأبعاده الفكرية" (دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى، غشت، 2003 )، ص 88.

5 نفس المرجع ، ص 89.
6نفس المرجع، ص 97. 7-إبراهيم ساهيل، "الحكامة وتمويل الجماعات المحلية" بحث لنيل شهادة الماستر في القانون العام جامعة محمد الخامس السويسي، الرباط، يونيو 2010 ، ص 27 . 8علي عبد الصادق، مرجع سابق، ص 19.

التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية