مفهوم الثقافة
من المقومات الرئيسية لرقي أي مجتمع وتحضره الثقافة والتعليم ، وقد أولت الشريعة الإسلامية اهتماماً كبيراً لكليهما ، وبمشيئة الله تعالى سوف نلقي الضوء على الثقافة والتعليم في الإسلام : مفهوم كلا منهما ، وأهدافهما ، وأثرهما في الفرد والمجتمع .. وسوف نبدأ بالثقافة ثم نعقب بالتعليم ، والله ولي التوفيق .
أولاً : معنى الثقافة :
لقد تعددت تعريفات الثقافة باختلاف المفاهيم والأفكار والمجتمعات ، إلا أن مفاهيم المفكرين عن معنى الثقافة متقارب إلى حد كبير ، وذلك كالآتي :
(1) هناك من يرى : أن مصطلح الثقافة قد اشتُقّ من إحدى مفردات اللغة العربية وهي "المثقف" والتي تعني القلم المبري وهو أداة للتعلّم ، واشتُقّت هذه الكلمة منها للدلالة على أنّ المثقف يصقل نفسه ويقوّمها ويسويها من خلال تعلم الأمور الجديدة .
وتُعرف الثقافة من الناحية اللغويّة بأنها : تغذية الذهن والفكر بالمعلومات واستنارة العقل المفكر ، وترمز إلى المستوى العلميّ والتعليميّ للفرد ، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرة الفرد ومجتمعه على إدراك المعرفة والعلوم في كافة أمور الحياة ومجالاتها .
وفي الوقت الحاضر كلمة الثقافة تعتبر مفتاح دلالي على مستوى الرقي الذي وصل إليه الأفراد من الناحية الفكريّة والاجتماعيّة والأدبيّة .
ومن الممكن أن تتمثل الثقافة بأحد أنواع الفنون ، أو اكتساب صفة كالكرم عند العرب ، أو الدقة في المواعيد ، أو اتباع مراسم خاصة للزواج ، أو الوفاة .
ويعبّر الفرد عن مدى ثقافته التي بلغها ليس فقط من خلال أفكاره إنّما ذلك يتعدى إلى الطريق التي رسمها لحياته بشكل عام .
وقد تعبّر الثقافة عن عادات وتقاليد الشعوب التي تميّزها عن بعضها ، ويشمل ذلك القيم والعقائد والمبادئ واللغة والمقدسات والقوانين والسلوكيّات .
ويمكن تصنيف الثقافة كجزء لا يتجزأ من بيئة حياة الإنسان التي هي من صنعه أساساً واستمدت نشأتها من أفكاره وقيمه ومعارفه ومعتقداته ، كما أنها تتعمّق في كافة تفاصيل حياة الأفراد وتتحكّم بها .
ويمكن وصفها بأنها طريقة أو أسلوب ينتهجه شعب ما ويعيش على أساسه ، وتعتبر روح المشاركة من أهم شروط الثقافة وصفاتها ، على الأقل بين فئة محدودة لكن الأهم وجود المشاركة .
(2) وهناك من يقول : بتعدّد المعاني التي ترمي إليها الثقافة في اللغة العربية ، فهي ترجِع في أصلها إلى الفعل الثلاثي ثقُفَ الذي يعني : الذكاء ، والفطنة ، وسرعة التعلم ، والتهذيب ، وتسوية الشيء وإقامة اعوجاجه ، والعلم ، والفنون ، والتعليم ، والمعارف .
أما اصطلاحاً فتعني ما يلي :
أنها مجموعة المعارف والعلوم والفنون التي من أبرز متطلباتها الحذق . وهي العلم الذي يختص بالبحث في مختلف كليّات الدين ، إذ تُعنى في شؤون الحياة كلها . وهي الإلمام بجميع قضايا التاريخ المهمة والوصول إلى الدرجة العليا ، والرقي في الأفكار النظرية من سياسة وقانون وغيرها . وهي مجموعة من العلوم والخبرات والتجارب الدينية والاجتماعية التي تُسيّر الفرد نحو الوجهة الصحيحة . كما أنها غنى وازدهار فكريّ يقود عقل الفرد للجمع بين الثقافات المختلفة والتنسيق فيما بينها ، وذلك من خلال صقل الفرد لمواهبه بالمعرفة ، والعلوم ، وممارسة التراثيات الأدبية والفنية والفكرية . وأخيراً فهي مجموعة العادات والتجهيزات التي يكتسبها الإنسان من المجتمع كونه عضواً فيه ، متمثلةً بالمعارف والعلوم والمعتقدات والفنون والأخلاق والحق .
(3) وهناك من يقول : أن الثقافة تعني : صقلٌ للنفس والفطانةٍ والمنطق ، وهي كلمةٌ عربيّةٌ عريقة ، وردت في المعجم بمعنى (الحذق والخفةِ والفطنة) ، والمثقف لغةً : القلم المبري ، ومن هنا تم اشتقاق المصطلح مثقّف ، لأنّ المثقف يقوّم ذاته من خلال السعي المتواصل والدؤوب لتعلم أمورٍ جديدة .
وقد استُخدمت كلمة ثقافة للدلالة على كم التطوّر والرقي الفكري والأدبي والاجتماعيّ للفرد والجماعة على حدٍ سواء ، فالثقافة هي عبارة عن نظريّة في السلوك ، ولا يقتصر إطلاقها على مجموعةٍ من الأفكار ، وهذا الأمر يساعد كثيراً على رسم طريقٍ وهدفٍ للحياة بشكلٍ عام ، وذلك ضمن نطاق الطابع العام في المجتمع .
وتعتبر الثقافة واحداً من الوجوه التي تميّز كل مجتمعٍ عن غيره من المجتمعات بكل ما يحويه هذا المجتمع من عقائد وقيم ومبادئ ولغة وسلوكيّات وقوانين ، بالإضافة لمقدّساته وتجاربه ، وبشكلٍ عام فإنّ الثقافة: هي مركّب يتضمن جميع العقائد والمعارف والأخلاق والفنون إضافةً للعادات .
ويستخدم مصطلح الثقافة للتعبير عن عددٍ من المعاني الأساسيّة وهي : الشعور والتذوّق المتفرّد والمتميّز بشتّى أنواع الفنون الجميلة ، هذا بالإضافة إلى اشتمالها على العلوم الإنسانيّة ، وهنا تكون الثقافة عالية المستوى .
فالثقافة : هي عبارة عن نمطٍ كامل من المعرفة الإنسانيّة ، كجميع السلوكيّات والاعتقادات التي تعتمد على التعليم الاجتماعيّ ، والتفكير الرمزيّ .
وتُطلق الثقافة أيضاً على عددٍ من الاتجاهات والأهداف المشتركة كالأهداف والقيم وعددٍ من الممارسات التي تميّز جماعةً معيّنة أو مؤسّسة أو منظمة .
مظاهر الثقافة :
للثقافة عدة مظاهر أبرزها ما يلي :
المظاهر الرمزية : وتشكل علوم الحساب ، واللغة ، والموسيقى .
المظاهر المعنوية : وتتمثّل بالعناصر الثقافية التي يتم إدراكها بالعقل والفكر مثل العادات والدين .
المظاهر النفسية : تتمثّل بالمشاعر والتوجهات العاطفية من حب وكراهية للشخوص والأشياء .
المظاهر الاجتماعية : وتشكّل سلسلة العلاقات بين أفراد المجتمع .
المظاهر المادية : تتمثّل بالعناصر المادية التي تستخدم الحواس كوسيلة للإدراك مثل وسائل الإنتاج .
مكونات الثقافة :
- الأفكار : وهي ما يكتسبه الفرد من البيئة التي يعيش فيها ، ويقتنع بها تماماً ، ونتائج عمليّات معالجة يقوم بها الدماغ .
- العادات : هو نهج يعتمده مجتمع ما في تأدية أشياء معيّنة وفق طرق معتادة وخاصة .
- اللغة : وهي الوسيلة التفاعليّة بين أفراد المجتمع الواحد ، وهي عبارة عن طريقة بالكلام يتم التعبير عنها بواسطة رموز كلاميّة خاصة .
- القانون : وهو مجموعة من الإجراءات ، والقواعد التي تنظّم حياة الأفراد وسلوكهم .
- الأعراف : هي مجموعة من الأفعال تكرر حدوثها ، وفعلها حتى اعتاد عليها أفراد المجتمع ، وأصبح من اللازم القيام بها .
عناصر الثقافة :
العموميّات : وتمثل العنصر الأساسي في الثقافة ، وهي عبارة عن عناصر عامة يتشارك فيها الأفراد في مجتمع ما ، وتوضح أبعاد الشخصية القومية التي يتخذها كل مجتمع من خلال العادات والتقاليد والقيم والدين ، وكما تشمل أيضاً ما يبديه الفرد من استجابات عاطفية ، وأنماط سلوكية ، وأساليب التفكير ، والفائدة من هذه العموميات توجيه الأنماط الثقافية في المجتمع في اتجاه واحد ، وتقليص المسافات وتقصيرها بين أفكار الأفراد في المجتمع واتجاهاتهم ، بالإضافة إلى توطيد الأواصر والروابط بين الاهتمامات المشتركة ، والتشجيع على التماسك الاجتماعي .
الخصوصيات : وهي عبارة عن صفات أو تصرفات أو مجموعة من العناصر التي تكون مشتركة بين فئة معيّنة من أفراد المجتمع ، وتكون مسئولة عن سلوك مجموعة معينة دون غيرهم ، وقد تختص هذه الخصائص بطبقة اجتماعية مثلاً كالطبقة الأرستقراطية .
البدائل والمتغيرات : وتنحاز هذه البدائل والمتغيرات إلى عناصر العموميات أكثر من الخصوصيات ، ولا تشترك بها فئة معينة من الأفراد ، ولا تخص طبقة دون غيرها من طبقات المجتمع ، وإنما يتم استحداثها وتجربتها في المجتمع لأول مرة ، وتبدأ بالانتشار وتكون غير مألوفة في بداية ظهورها .
خصائص الثقافة :
إن أي إطار ثقافي ينسجم مع إطاره المجتمعي الذي قام بخلقه وحدد صفاته وخصائصه ، والمظاهر الاجتماعية المُكتسبة من قِبَل الأفراد الذين يبذلون كل طاقتهم للحفاظ على بقاء هذا النموذج ، واستمراريته وتطويره ، ويمكن تلخيص هذه الخصائص على النحو التالي :
الثقافة إنسانية : أي أن الإنسان هو المخلوق الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي بمقدوره ابتكار أفكار وأعمال جديدة ، كونه المخلوق الوحيد الذي يملك جهازاً عصبياً قادراً على أداء مثل هذه المهام .
الثقافة مكتسبة : يكتسب الفرد ثقافته منذ نعومة أظفاره ، وخلال مسيرة حياته من مجتمعه المحدد بمكان وزمان محددين ، عن طريق الخبرات الشخصية المكتسبة فيه ، إذ ينعدم تأثير العوامل الفيزيولوجية على عملية اكتساب الفرد لثقافته .
الثقافة اجتماعية : حيث لا تتم دراسة الثقافة إلا من خلال المجتمعات (الجماعات) ، فهي نِتاج اجتماعي خَلَقته جماعة معينة تقوم بتمثيل عدة عادات وتقاليد مجتمعية وقيمية .
الثقافة تطورية تكاملية : إن الثقافات ليست محكومة بالثبات والجمود ، بل هي متطورة مع تطوُّرالمجتمع ورقيه ، فيحدث التطور في كل من جوهر الثقافة ، وفي الطريقة العملية لممارسة تصرفات الأفراد داخل المجتمع المتطور ، كما أن هذا التطور لا يعني انعزال وانفصال كل مرحلة عن مراحله الأخرى بل يدل على تكامل الثقافة ، مما يُشبِع حاجات الفرد النفسية ، والبيولوجية ، والفكرية ، والاجتماعية ، والروحية للفرد .
الثقافة استمرارية انتقالية : بما أن الثقافة هي نتاج مجتمعي وملك وراثي لأفراد المجتمع كافة وليس لفرد واحد ، فإنها لا تموت بموت الفرد الواحد ، ولا يمكن القضاء عليها إلا من خلال القضاء على الجماعة التي أنتجت واتّبعت ومارست هذه الثقافة ، وبما أنها إرث مجتمعي جماعي ، فهي قادرة على الانتقال من جيل الأجداد إلى الأبناء من خلال عمليات التثقيف والتنشئة والتربية والإعداد الثقافي والمجتمعي لهم ، كما أنها قادرة على الانتقال من جماعة لأخرى عن طريق وسائل الاتصال المتنوعة والمختلفة ، فإنّ وجود ثقافة ما مرتبط بوجود المجتمع والعكس صحيح ، وبالرغم من أن لذلك تأثيراً في بعض العوامل الجغرافية والبيولوجية ، إلا أنها السبيل لحياة الجماعات ، ونمط متجانس ومتكامل لحياة الأفراد .
علاقة الثقافة بالتربية :
تعد التربية أحد الأمور التي تحكم استمرارية وتطور ثقافة ما ، كونها أساس انتقالها من جيل الأجداد إلى الأبناء عن طريق التعليم والتعلُّم ، وفيما يلي توضيح لعلاقة التربية بالثقافة :
- تُشكّل التربية أحد مكونات العملية الاجتماعية الثقافية والمتمثلة في نقل مختلف أنواع التفكير ، والنشاط ، والمشاعر التي تتّسم بها جماعة ما من جيل الآباء إلى جيل الأبناء ، لجعلهم يكتسبون الصفات الاجتماعية التي يحملونها عن طريق التريبة ، وبالتالي فهي عملية تطبُّع اجتماعي .
- أن عدم الالتزام بنقل الثقافة من جيل إلى آخر عن طريق التربية يؤدي إلى القضاء على الثقافة وهلاكها ، وبالتالي هلاك المجتمع .
- طبيعة حياة الإنسان المؤقتة والمحدودة بعمر وزمن معين تجعل من توارث الأدوار بين الآباء والأبناء أمراً ضرورياً لنقل الثقافة والحفاظ على استمرارية المجتمع ، إذ أن عملية النقل هي عملية تتصف بالإيجابية ، وتتطلب تبسيط لعناصر الثقافة والاختيار بينها ، بالإضافة إلى تجديدها .
- توفّر التربية القدر الكافي من الاتّساق والانسجام بين أفراد المجتمع ، وهو الأمر الضروري لتشكيل أفكار ووسائل مجتمعية ، وقيم ، ومعتقدات ، وأنشطة سلوكية ، واتجاهات مشتركة بين أفراد المجتمع ، والتي بدورها تُشكّل ثقافة ما من خلال الأسرة ، والجماعات ، والمدارس ، ودورالعبادة ، ووسائل الاتصال المختلفة .
- للتربية دورٌ هام في إحداث اتّزان وانسجام بين عناصر المحيط المجتمعي مع بعضها البعض ، وعليه تساهم في إزالة الفروق بين طبقات المجتمع المختلفة ، أو تساهم في بناء نظام طبقيّ بمحدّدات وقوانين صارمة له ، بالإضافة إلى مساهمتها في عمليات تعدُّد السلوكيات والأفكار للأفراد ، والذي بدوره يؤدي إلى التغيُّر والتنويع الثقافي والاجتماعي .
- تعد التربية أداة لتحقيق التماسك الاجتماعي والمحافظة على استمرارية المجتمع ، كونها وسيلة لنقل الثقافة بين الأجيال ، كما أن للتربية أهمية في تزويد الفرد بالمهارات والمعلومات وسبل التفاعل الإيجابي والتأقلم السوي مع أفراد المجتمع الضرورية للقيام بمهام إنتاجه في المجتمع ، وتختلف التريبة باختلاف المجتمع ، وثقافته ، وأيدولوجيته ، ونظامه السياسي ، والاقتصادي ، والاجتماعي .
أهمية الثقافة :
تُعتبر الثقافة وسيلة للقضاء على الجهل والتخلّف . تعمل على تهيئة العيش الكريم للأفراد مع إكسابهم الشعور بالوحدة المتماسكة . تعمل على خلق حلول مناسبة للمشكلات التي تشكل عائقاً في وجه الأفراد . تعدّ الثقافة من أكثر العوامل تأثيراً في التنمية البشريّة . دفع الأفراد في المجتمعات للإبداع والتميز من خلال تسيير وتوجيه أفكارهم . صقل شخصيّة الفرد وصهرها في بوتقة الثقافة والتنمية . اكساب الفرد التحضر الإنسانيّ والرخاء الفكريّ . الكشف عن نقاط القوة في المجتمع وتحفيزها وتوجيهها نحو التطوّر والإصلاح . تساهم في تقويم ودعم الحياة الاجتماعيّة . هي وسيلة لمواكبة التطوّرات والتغيرات التي تطرأ على حياة الأفراد والمجتمع . زيادة مستوى الوعي عند الأفراد . تحفّز العنصر البشري على الإيجابيّة . إنجاز وحدة متكاملة ومتجانسة بين أفراد المجتمع . إيجاد التقاطعات ، والميول ، والإهتمامات المشتركة بين أفراد المجتمع . تشكيل الطابع القومي والتراث الذي يُميّز أبناء المجتمع عن غيرهم من المجتمعات .
المقالة من من كتاب (تركة المصطفى ﷺ وشريعة الإسلام) جـ3 لمؤلفه/ أحمد درويش عبد السيد .