منذ الاستقلال، في أواسط خمسينات القرن الماضي، عرف المغرب صيرورة بروز نخبة دينية أدت بها جملة من التحولات في نهاية المطاف إلى التهميش إلى أن أوشكت على الانقراض في بعض تجلياتها، لاسيما مع ظهور عناصر تستهدف فرض نفسها كنخبة بديلة للتي كانت قائمة في البداية كانت النخبة الدينية بالمغرب تعتمد على الشرفاء و الصالحين و الزهاد و رؤساء الزوايا، و هذه النخبة غلبا ما كان يطلق عليها نعت التقليدية لتمييزها عن العلماء في المجال الديني. هؤلاء العلماء هم أناس كان من المفروض أن يتوفروا على الجرأة في مواجهة السلطة السياسية و على القيام بوظيفة تأويل النصوص الأساسية و إنتاج جملة من المعايير المحددة لسلوك الحكام اعتبارا لدرايتهم بالمجال الديني أكثر من غيرهم، و باعتبارهم يضطلعون بدور حراس الشريعة. فهل هذا ما قاموا به فعلا أم أن أغلبهم زاغ عن هذا النهج؟

بعيد الاستقلال اكتسب جملة من العلماء بالمغرب زعامة و كاريزمية واضحة. و يمكن ذكر على سبيل المثال لا الحصر، علال الفاسي و عبد إبراهيم. إلا أنه سرعان ما بدأ علماء الدين يفقدون دورهم ضمن النخبة التي أضحت تتشكل من خريجي المدارس و المعاهد العصرية، خصوصا الغربية منها. علما أن بعض العلماء ظلوا يحتلون مواقع مهمة في صفوف بعض الأحزاب السياسية المغربية، و من ضمنهم أبو بكر القادري و معنينو و مولاي العربي العلوي بحزب الاستقلال و الحبيب الفرقاني بحزب الاتحاد الوطني ثم الاشتراكي للقوات الشعبية بعد انفصاله عن حزب الاستقلال.

وعندما لاحظ علماء الدين بالمغرب صيرورة التهميش التي أصابتهم عقدوا مؤتمرا و أحدثوا رابطة لهم تسعى لإعادة إحياء وظيفتهم في الدعوة و تمكين موقعهم ضمن الوظيفة العمومية. و هكذا شكلت هذه الرابطة جماعة ضغط لها دورها في تحديد الخط الديني للدولة.

لقد تحول دور العالم من دور فاعل إلى دور رمزي استشاري. كما عمل القائمون على الأمور على تقنين حمل صفة العالم بالمغرب، و التي كانت تقرر من طرف الأقران أو بالانحدار من عائلات تقليدية معروفة بعلمائها إلى أن أصبح الوضع في نهاية المطاف يحدده قانون و مؤسسة تراقبها السلطة السياسية (شهادة تمنحها و هي المؤسسة التي كانت سابقا تزود البلاد بأطر الوظائف العليا في القضاء و الوظائف المخزنية). و كان ذلك قبل إحداث دار الحديث الحسنية بالرباط سنة 1964 على إثر القطيعة بين القصر و الحركة الوطنية آنذاك. و هي مؤسسة ألحقت بإدارة تكوين الأطر. و بعد ذلك تم تأسيس المجلس الأعلى للعلماء الذي يترأسه الملك و المجالس العلمية الجهوية و يختص كذلك الملك بتعيين أعضائها، و لهذه المجالس دور في مراقبة و تعيين خطباء المساجد.

و هكذا ذهب المسار في اتجاه تضييق مجال العمل أمام العلماء بالمغرب بعد أن تأكدت مراقبتهم عبر تحديد اختصاصاتهم و التحكم في مؤسساتهم تحكما حديديا.

و مع حلول سبعينات القرن الماضي عرف المد اليساري بالمغرب تصاعدا غير مسبوق، و في إطار الاستراتيجية المبلورة لمواجهته و التصدي إليه تم خلق شعبة الدراسات الإسلامية بكليات الآداب و العلوم الانسانية. و هذا التعليم اختلف نهجه عن نهج المؤسسات الدينية التقليدية ، إلا أن مريديه لم يتمكنوا من الحصول على صفة عالم كما هي متعارف عليها بالمغرب. و لعل هذا التعليم ساهم في تكوين قاعدة من الشباب دعاة الإسلام عبر النضال الجمعوي و عبر تنشيط بعض المساجد، لاسيما تلك الممولة من طرف المحسنين. و هكذا عرفت الساحة أناسا أضحوا ينافسون العلماء الرسميين في مهمتهم الأساسية. و قد أدت هذه الصيرورة إلى بروز علماء مستقلين متحررين من هيمنة المخزن. و هكذا ظهرت بالمغرب بوادر نخبة دينية تسعى إلى تجديد وظيفة العالم و وضعه و موقعه داخل المجتمع المغربي.

و كانت هذه نتيجة طبيعية للسياسة الدينية للدولة بالمغرب، التي عملت بالأساس على تقليص دور و وظيفة العلماء و تدجينهم إلى أن أضحوا كليا على هامش الحركية التي يعرفها المجتمع المغربي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية