معذرة يا أولادي …لقد حرمتكم من الوطن …ولست أدري أين سترسو سفينتكم في نهاية المطاف …لا تحلموا بالعودة رجاءا , إلى أين نعود ! شوارع الجزائر لم تعد كما كانت ..أصبحت حمراء حزينة و في كل بيت يوجد شهيد أو مقتول , وعلى جدران السجون كتبت ألاف المذكرات بأقلام ناس لا يعرفون لماذا مروا من هنا .. وكل رصيف فيه ذكرى لمثقف قتل غدرا أو كاتب طعن بخنجر .
إلى أين نعود يا أولادي…إلى وطن يبكي بدل الدمع دما..إلى وطن مزقته الصراعات ..إلى وطن هجرته الطيور التي كانت تملأ فضاءه بكل تغاريد الحب و الأمل ..إلى وطن تنكر للمثقفين والمبدعين.
يا أولادي إنني أفضل أن أبقى غريبا دائما …مسافرا بلا أوراق بلا بطاقة هوية تثبت إنتمائي لهذا الوطن الجريح . ماذا كان ذنبنا الوحيد في الجزائر …الذنب الوحيد الذي إقترفناه أننا حاولنا أن نغني أغنية مغايرة و بعيدة عن إيقاعات القتل والقتل المضاد…كنا ندعو إلى الإحتكام إلى العقل حفاظا على الجزائر و حتى لا يكون الكرسي فوق مصلحة الجزائر وسمعتها …فرفضنا الجميع وعاملونا بقسوة.
وحتى عندما لجأنا إلى التعبير عن رؤانا هذه خارج الجزائر , عوملنا كمرتزقة و عملاء …
فإلى أين المفر يا أولادي !
لا الجزائر عادت تطيق وجودنا …والغربة هي الأخرى ملتنا حتى أضحينا غرباء أكثر من
الغربة نفسها …
عندما حلّ الإستقلال في جزائرنا فرحنا و غنينا للحرية ورددنا مع الشاعر الجزائري مفدي زكريا ؛ أقسمنا بالدماء أن تحيا الجزائر …و لكن الجزائر ذبحت من الوريد إلى الوريد بعد الإستقلال , والثوار تنكروا لثورتهم و كل شيء تغير في الجزائر …
حاولنا كمثقفين أن نعيد الجزائر إلى الجزائر وإلى نفسها …ثلاثون سنة من حكم الأحادية كان فيها التفكير ممنوعا والإبداع محظورا و الخروج عن الديماغوجية الرسمية يؤدي إلى الإعدام أو النفي في صحاري الجزائر .
ثلاثون سنة و العقل في الجزائر معطل , مشلول أحادي التوجه !!
و أنقضت هذه الحقبة وجاء زمن التعددية فأستبشرنا خيرا وأخذنا نعبر عن أفكارنا ومنطلقاتنا و عروبتنا ولم نكن نعلم أن هناك أمرا دبر بليل وأن المراصد كانت تجمع كل صغيرة وكبيرة عنا وعن أفكارنا ليضيفوها إلى ملفات الإدانة عندما نحاكم بأثر رجعي,
ولعن الذين جاءوا بالديموقراطية مشروعهم التعددي , وألغوا منابرنا ومنعونا من التفكير والكتابة و حاكمونا , فلم نجد ملجأ وملاذا غير الغربة نتحمل مشنقتها على مشنقة السلطة ومحاكم التفتيش.
وأصبحت الغربة لنا وطنا … والوطن غربة. أحاول أن أقنع أولادي بهذه المعادلة …لا تفكروا في الجزائر , فالجزائر التي ضحى من أجلها جدكم الذي هو أبي ليست لكم ربما هي لأبناء فرنسا ينعمون بخيراتها مجددا .
إن الوطن الذي لا يحمي أباكم ولا يوفر لكم مسافة طمأنينة و آمان ليس وطنا ,فيا أولادي لا تبحثوا عن الوطن الأحمر الغارق في الدماء والدموع.
مساكين أنتم يا أولادي , لقد كانت فرنسا تسلخ جلد جدكم –والدي- و تضع بين جراحه ملحا زيادة في التعذيب و قد كان صامدا يردد مع مفدي زكريا تحيا الجزائر . فعل ذلك من أجلي ,من أجلكم ومن أجل أبناء الجزائر وفي نهاية المطاف لم نجد حتى لحدا في هذا الوطن يأوي جثتنا المشتعلة بوقود الغربة!!!!
تعتبر السويد من أجمل بلاد العالم , فقد حباها الله بطبيعة هي ذروة الحسن والبهاء إلى درجة تشعرك الطبيعة السويدية أنك أمام لوحة فنيّة فريدة من نوعها , فكل زهرة في مكانها وكل شجرة في موقعها وكل نهر ينساب وفق إيقاع موسيقي عذب .
وأحلى ما في السويد تلك الطيور المخلصة لفضاءات السويد وغاباتها البديعة من أقصى الجنوب و إلى أقصى الشمال , فهذه الطيور وبحلول فصل الشتاء القارس والذي يتحوّل إلى فصل أبيض نظرا لكثرة الثلوج فيه , تهجر السويد إلى مناطق الدفئ وصولا إلى إفريقيا وتمكث هناك في صحبة الشمس شهورا إلى أن تبدأ الشمس بردف شمال العالم ببعض حنانها فيبدأ الثلج في الذوبان و عندئذ تعود هذه الطيور إلى فضاءات السويد مثقلة إياها بكل الأغاني الجميلة التي صادفتها في رحلاتها النائيّة .و لهذه الطيور مطلق الحرية في العودة إلى جنة الحريّة في السويد , فلا تخضع لتحقيق رجال الأمن والمخابرات ولا تتعرض لمضايقات رجال الجمارك .بل إن الناس في السويد يستأنسون بعودة هذه الطيور لأن في ذلك إيذانا بقرب خروج الشمس من عزلتها لتطرد عن الفضاء السويدي ما تحوّل بفعل البرودة المدهشة إلى جليد إلتصق بالأرض إلتصاقا وأبى أن يفارقها أو يتخلى عنها .
وفي الوقت الذي أتأمل فيه هذه الأسراب العائدة إلى وطنها أعيد بصري إلى مستوى الأرض لأرى عشرات الآلاف من اللاجئين العرب في السويد وفي شمال العالم لا يقدرون على الطيران إلى أوطانهم لأن كل واحد منهم فرّ من وطنه كما يفرّ العارفون بالله من معصية الله .
عشرات الآلاف ينتظرون متى تستقيم الأمور في بلادهم ومتى تدخل الرحمة قلوب حكامهم , ومتى تتحول الزنزانات إلى متاحف للعن الماضي الديكتاتوري ومتى تلغي السلطات مبدأ معاقبة أصحاب الرأى …أسئلة بالجملة يرددها هؤلاء اللاجئون وهم يتفرجون على هذه الطيور العائدة إلى موطنها السويدي و لسان حال هؤلاء اللاجئين هنيئا للسويد بحرية الأرض والسماء .
أما نحن في بلادنا فمن يناقش في الأرض تنقله السلطات إلى السماء .!!!!