(الموت) كلمة قليلة في حروفها ضئيلة في مبناها لكنها تنضح بدلالات موجعة تنفر منها النفوس والأرواح وتقشعر لها الجسوم والأبدان ولا تقوى على احتمالها شمّ الرواسي ,ولو أن صورة الموت المعنوية تشخصت على أرض الواقع لكانت صحراء قاحلة يسكنها الظمأ والجفاف ,ولا تسمع بها سوى عزيف الرياح الموحشة . وليست رزية الموت بقاصرة في فتكها على الراحل المفارق الذي حانت ساعة منيته واستوفى اجل كتابه ,لكنها تلقي بالعبء الأعظم من جراحاتها على كواهل محبي الفقيد المفجوعين برحيله المفاجئ,وليت شعري! أنى لتلك المضغة الواهنة المدعوة بالقلب أن تحتمل هذا كلّه ,إنها حين تودّع عزيزا أو حبيبا تودّع معه قطعة من لحمها وعصبها ,تلك القطعة التي تمثل ذلك الحيّز الذي كان يتربع عليه ذلك الراحل بلا استئذان, فلا غرو أن يغدو القلب كليما مفتّتا مع توالي قوافل المودّعين وتتابع جموع الراحلين تاركة لمن خلفها فسحة من أجل ينعمون فيها بمرارة الفقد و يحتسون بها كؤوس علاقم الاغتراب!.
في مساء الجمعة الماضية(2/4) رحل عن دنيانا البغيضة أخ عزيز وصديق كريم وهو الشيخ الدكتور/ عبدالسلام بن برجس العبدالكريم أستاذ الفقه بالمعهد العالي للقضاء بالمملكة العربية السعودية على إثر حادث مروري أليم وهو في طريقة عودته إلى الرياض من الإحساء بعد أن ألقى هناك محاضرة دعوية مؤذنة بفضل الله بخاتمة حسنة مبشّرة,وهو في عشر الثلاثين .وقد تعرّفت إليه –رحمه الله – قبل ما يربو من خمسة عشر حولا ,وحين رأيته للمرة الأولى رأيت فتي يتوقّد ذكاء وحماسة للدين والدعوة ,تلوح على محياه مخايل النجابة المؤذنة بمستقبل باهر ,فقد كان حريصا منذ حداثته على التعلم والتفقه إذ تخرّج على يدي جمهرة من علماء الرياض وعلى رأسهم الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز-رحمه الله -,وقد حصل على درجة الدكتوراه في الفقه بتحقيقه لكتاب شرح أخصر المختصرات للشيخ عثمان النجدي قبل عامين أويزيد,وكان خطيبا مفوّها لا يهاب رقي أعواد المنابر ,ومواجهة الجموع الحاشدة ,وكل من استمع إليه وقتها وعلم حداثة سنه تعجّب من ذلك اللسان الفصيح الذي أوتيه ,ولا عجب إذن أن يجمع إلى الفقه والخطابة موهبة الأدب والقريض,وقد دارت بيني وبينه مساجلات شعرية ,وله في جمع الأبيات الحاصرة كتاب تميز بالاستيعاب وشهد له بسعة الاطلاع في أدبنا العربي القديم .كما كان رحمه الله يولي كتب أئمة الدعوة النجدية حفاوة واهتماما بالغين ,حيث أشرف على نشر وتحقيق جملة طيبة منها حين كان طالبا بمرحلة البكالوريوس ,وأما الدعوة والتعليم فقد كان لها النصيب الأوفر من حياته تشهد بذلك محاضراته المتنوعة والدورات العلمية التي كان يسهم فيها بنشاط وفاعلية.
هكذا كان (عبدالسلام) العالم المتعلم والداعية المتكلم,وأما (عبدالسلام) الإنسان فلعل أبرز ما يميّز هويته النفسية ذلك الوجه المتهلل الذي تعلوه الابتسامة والبشارة ,فقد كان يضمّ بين جنبيه نفسا مرحة خفيفة الظل ,وإن خالفه أحد في شيء من آرائه واجتهادته فإن ذلك لم يكن ليضعف علائق الود أو يكدر صفو الإخاء. كان ,,,وكان!! ما كنت أحسب أنني سأقف هذا الموقف لأتكلم عنه-رحمه الله –بصيغة الكنكنة المريرة هذه,وهاقد اختطفه الموت في ريعان الشباب وعنفوان الحياة لكن ليس لنا إلا التسليم بقضاء الرب والرضا بالقدر,وحسبنا أن أعمار الرجال إنما تقاس بأعمالهم وفضائلهم لا بسنيهم وأيامهم ,وحسب عبدالسلام من ذلك عمرا ومجدا!رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلون :
والمرء ما دام حيّا يُستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية