مفهوم الفن:

من الصعب أن نعرف الفن تعريفا واضحا ونهائيا طالما أنه يوجد مدارس فنية كثيرة كل منها تقدم لنا رؤيتها الخاصة للفن مثل الرومانتيكية والواقعية والطبيعية والتعبيرية والانطباعية والرمزية والواقعية الاشتراكية، فهناك وجهات نظر مختلفة تؤثر على تعريف الفن. الفنانون الذين ينهلون من الواقع يعتبرون الفن وسيلة للتعبير عن الواقع، والحلم بتغييره، بينما نجد آخرين مثل أصحاب نظرية الفن للفن يعتبرون الفن حالة إبداعية تتعلق بالفنان فقط، وبراعته في أدواته الفنية، ولا علاقة له بالواقع.
إن كلمة فن شاملة تعبر عن الحالة الإبداعية في كافة المجالات مثل الأدب والرسم والنحت والدراما والموسيقا والغناء والرقص ويشكل الفن حالة توازن للإنسان في عالمنا القلق المرعب، وهو يذكر الإنسان بهمومه من خلال بدائل أخرى، وينسيه همومه من خلال خلق عوالم جديدة غنية تضفي على حياته معنى، فحين نرى مثلا في أي عمل درامي شخصا يفشل في حياته نحس بالعزاء لأننا نرى غيرنا يفشل أيضا كما نفشل نحن، وحين نتعاطف معه أو نبكي لألمه نصل إلى حالة من الراحة النفسية والتطهير من آلامنا الخاصة، وحين نرى شخصا ينجح نتخيل أنفسنا في وضعه ونشعر بالفرح والغبطة، وحالات العنف تنفس عن العنف والتوتر في أعماقنا، حين يقتل بطل شرير نتخيل أنفسنا قد قتلنا كل الأشرار الذين ينغصون حياتنا في هذا العالم.


المبدع والفن:
الإنسان فضولي يحب الاكتشاف والمعرفة والفن يتيح له اكتشاف عوالم أخرى تختلف عن عالمه المحدود وتغنيه، وحين يكون مبدعا في مجال ما يبتكر عوالم أخرى من خلال الأداة الفنية التي يعبر بها، فالشاعر يخلق عوالم شعرية جديدة وصورا جديدة من خلال اللغة التي تمكنه من إعادة اكتشاف العالم برؤيا الفنان والتعبير عن هذه الرؤيا، والرسام يعبر عن عوالم جديدة من خلال فرشاته وألوانه، والموسيقي يخلق أجواء مختلفة من خلال السلم الموسيقي، والروائي يعيد بناء الواقع بطريقته الخاصة، وضمن وشائج جديدة، تنهل من الواقع، وتعبر عنه بالطريقة الفنية التي يختارها الكاتب، والكاتب الدرامي يبتكر شخصيات مختلفة تعبر بحوارياتها، ومشاهدها الدرامية عن صراع الإنسان مع الإنسان ومع الواقع، هذه المشاهد تظهر في السينما أوفي المسرح لتتفاعل مع المشاهدين الذين يتمثلونها ويتأثرون بها.
وحين يكون الإنسان متذوقا للفن يشعر أن الفن يجعله يندمج مع الواقع، ويتعرف على تجارب الآخرين، وبتمثلها، ويتخيل نفسه أحد أبطال رواية أو مسرحية، أو فيلم، وهذا يجعله يحس بأن لحياته معنى، وأنه يعيش حيوات كثيرة تضفي على عالمه المعنى، أو يستمتع بمراقبة شخصيات أخرى وتحليلها وتركيبها حتى لولم بتمثلها، ويرضي إحساسه الجمالي برؤية اللوحات الفنية والتماثيل، ويريح أعصابه، ويشعر بحالة من النشوة الروحية بسماع الموسيقا، أو يستمتع بإيقاع اللغة، أو الصور الفنية الجديدة في الشعر، وهكذا......


الفن والتاريخ:
ترتبط بعض العناصر في الفن بمرحلته التاريخية التي قدم فيها، لكن عناصر أخرى فيه تبقى جوهرية، وأساسية، ومرتبطة بأعماق الإنسان، وثوابته، وصراعا ته من أجل الحياة، وهذا يجعلنا حتى الآن نستمتع بقراءة الأعمال القديمة مثل إلياذة هوميروس، وإنيادة فرجيل، والمسرح الإغريقي، والروايات الواقعية لبلزاك، وروايات دستويفسكي، وتولوستوي، أو الحكايات الشعبية العربية، وألف ليلة وليلة الخ.....، هذه الأعمال عبرت عن عصرها، لكنها تناولت جوهر الإنسان الذي لا يتغير مع تغير العصور.


دور الفن في تغيير الواقع:
تختلف الآراء حول دور الفن في تغيير الواقع، وفي التطور الاجتماعي، فبينما ننجد البعض يعطونه دورا أساسيا وهاما، يقلل البعض من قيمته، ويجعلونه محصورا بنخبة معينة هي التي تهتم بالفن وتتابعه. إن الفن يعبر عن الواقع ويعكسه، ولا يمكنه أن يكون حياديا، حتى لو تبع نظرية الفن للفن، فهذا بحد ذاته موقف واضح. قد يكون الفن تبريريا يحافظ على القيم الموجودة والمتوارثة حتى لو كانت خاطئة، أوغيرعادلة، أو يطرح الواقع كما هو دون أي رؤيا للتغيير، أوقد يطمح للتغيير، وخلق وعي جديد، وثقافة جديدة. ففي الرواية مثلا يستلهم الكاتب شخصياته من الواقع، وعلاقاته المتشابكة، ومن التراث، ويقدمها بطريقة مختلفة ضمن بنية عمله الروائي، وضمن إسقاطاته الخاصة، وشخصيته الإبداعية، وبهذا تكون الرواية إعادة بناء للواقع من خلال رؤيته لهذا الواقع، وهو يتأثر أيضا بالأجناس الفنية الأخرى.
إن الفن يوضح العلاقات الاجتماعية المتشابكة، ويطمح من خلال تصويره لمتناقضات المجتمع إلى التغلب عليها للبحث عن مجتمع أفضل، وأي عمل إبداعي حصيلة تأثر وتأثير، ينطلق من الواقع ليؤثر في الواقع، وينشأ من التجاذب والتنابذ بين المبدع
وبيئته، ويتطلب ثقافة كبيرة من المبدع ووعيا عميقا كي يستطيع التقاط جوهر ما يدور حوله لتشكيل رؤيته الإبداعية، ويحقق الكشف والسبق في ارتياد عوالم مجهولة، وفي استشراف المستقبل، وفهم أعماق الإنسان، والقوانين المعقدة التي تؤثر في المجتمعات وتغيرها. وهذا ما نجده في أعمال كتاب مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وفتحي غانم، وجمال الغيطاني، وهاني الراهب، وخيري الذهبي، ووليد إخلاصي الخ......
حتى الكاتب الذي يكتب عن تجربته الذاتية فقط أوعن العوالم النفسية الداخلية لأبطاله، ولا يتحدث عن الواقع حولهم، يعبر عن كثير من مفردات الواقع دون أن يشعر، فالكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغا ن اهتمت بشخصياتها وعوا لمها الفردية والوجودية
لكنها استطاعت من خلال ذلك التعبير عن أزمة المجتمع الغربي في عصرها، وعن النزعة الفردية المتنامية في المجتمع، والكاتب الفرنسي ألان روب غرييه كتب بشكل حيادي عن الأشياء، وابتعد عن التفاعل بين الشخصيات، استطاع أن يعبر عن حالة الاغتراب التي يعاني منها الإنسان في عصره. المدارس الفنية التي تنشأ في مرحلة زمنية معينة، وفي مكان معين تعبر عن الواقع الاجتماعي
لاشك أن الفن بأنواعه يغير الواقع، لكن التغيير لا يحدث مباشرة، بل يتطلب مرحلة زمنية طويلة تختمر فيها الأفكار، وتنضج التغيرات، فالفن كان ومازال يهذب الإنسان، ويغني شخصيته، ويطور إحساسه الإنساني، وهو حالة مشاركة إنسانية وحضارية، حيث إن البشر متشابهون مهما اختلفت بيئتهم، وهذا ما يجعلنا نتذوق الفن في كل عصوره وبلدانه، فنحن نقرأ بلزاك وفلوبير وشكسبير وآرثر ميلر وفوكنر الخ، ونستمتع بالأعمال الفنية لليوناردو دافنشي، وبيكاسو، ونسمع موسيقا بيتهوفن وكورساكوف وديبوسي ونتذوقها رغم أن هذه الأعمال تعبر عن بيئات تختلف عنا لكنها تلامس جوهر الإنسان، وهي تهذب نفوسنا وطباعنا، وتفتح لنا آفاقا جديدة، وهنا يبرز دور الفن العظيم في التعبير عن الإنسان ومشاعره العميقة، وفتح آفاق جديدة أمامه وتطوير سلوكه كي ينتقل من مرحلة الهمجية إلى الحضارة، وهكذا يتغير المجتمع إلى الأفضل.
وفي مجتمعنا العربي نجد تأثير الفن لا يتجاوز النخب المثقفة والمهتمة بمتابعة التطورات الفنية، فرغم تراجع الأمية لانزال نعاني من الأمية الثقافية، فمعظم المتعلمين يكتفون بما تلقوه من تعليم رسمي، ولايتابعون الفن بأشكاله ولا يطورون ثقافتهم، ومعظم الناس يتابعون الأغاني والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وقسم كبير منها يفتقر إلى الفن الحقيقي مما يؤثر بشكل سلبي على ذوق الناس، ويجعلهم يعيشون حياة استهلاكية تافهة تفتقر إلى مقومات الحضارة والتطور، وهنا تبرز ضرورة الارتقاء بالفنون المرئية كي تأخذ دورها الحقيقي في تطوير المجتمع والإنسان العربي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية