اهتمت الرواية المصرية التي اتخذت من القرية فضاءً لأحداثها وشخصياتها بتصوير شخصية "العمدة"، فهو ممثل السلطة التنفيذية، والنائب عنها في إدارة القرية، والعمدة ـ في الواقع ـ "شخصية لها حضور مؤثر وفعّال بالنسبة للإدارة والناس على السواء، فالإدارة تلجأ إليه لتلبية إرادتها، وهو يلجأ إليها لتلبية رغباته، والعلاقة بينهما علاقة سُرِّية، فوجوده مرتبط بوجودها، ولذا فإنه لا يستطيع الانفصال عنها أو التمرد عليها، إلا إذا أوتي خصائص معينة"(1).
ولقد قدّم ثروت أباظة صورة نموذجية للعمدة في روايته "هارب من الأيام"، كاشفاً عن شخصية حاكمة، متسلِّطة، مرتشية، تحكم بالهوى، وتأخذ من الدين قشوره وظاهره، ورسمها في هذه الصورة المعبرة: "في فرحة غامرة واستبشار بيوم جديد، وفي تكاسل رخي وبطء هادئ تحرك الشيخ زيدان أبو راجح عمدة قرية "السلام"، ونزل عن سريره لينادي الخادمة:

ـ يا فاطمة.

وسرعان ما رجع النداء بصوت الخادمة:

ـ نعم يا سيدي.



وصاح الشيخ في تظاهر بالغضب يصحبه هدوء مستريح:



ـ يا بنت هاتي ماء الوضوء، الفجر سيفوتني!



وفي هذه المرة رجع النداء بالخادمة نفسها تحمل إبريقاً وطستاً، وأخذ العمدة يتوضأ والخادمة تصب الماء، ولكن العمدة لم يطق أن يتوضأ فقط، وإنما هو ـ على عادته ـ يسأل الخادمة عن أفراد البيت فرداً فرداً، فتختلط ألفاظ الوضوء بألفاظ الأسئلة:



ـ بسم الله الرحمن الرحيم، نويت فرض الوضوء.. أين ستك؟



فتجيب الخادمة وهي تصب الماء:



ـ نزلت عند الفرن.



ـ اللهم اجعلني أمسك كتابي بيميني.. وأين ستك درية؟



ـ تُعدُّ لك الفطور.



ـ اللهم ولا تجعلني من أهل اليسار، وماذا عندكم اليوم في الفطور؟



ـ عندنا يا سيدي ما يُرضيك إن شاء الله، عندنا فول وقشدة وعسل، الخير كثير والحمد لله.

ـ اللهم ثبِّت قدمي اليُمنى على الصراط المستقيم، الحمد لله، هذا شيء عظيم، أسأل عني أحد اليوم؟



المستقيم، الحمد لله، هذا شيء عظيم، أسأل عني أحد اليوم؟



ـ لا.



ـ ألم يُحضر صالح أبو سعد الله فراخاً؟



ـ يا سيدي إننا مازلنا في الفجر.



فيُجيب العمدة في شبه غيظ:



ـ ولكنه مدين يا فاطمة.. الدين يا بنتي.. أينسى أحد دينه؟



وتسأل فاطمة ذاهلة:



ـ وهل اقترض صالح منك يا سيدي؟



فيجيب العمدة وهو يُنزل أكمام جلبابه بعد أن أتم الوضوء:



ـ نعم.



وتسأل فاطمة وهي لا تزال في ذهولها:



ـ هل اقترض منك فراخاً يا سيدي؟



ويُطلق العمدة ضحكة صغيرة ساخرة من غفلة خادمته، ثم يقول وهو يُثبت قلنسوته على رأسه:



ـ يا مغفلة! أرأيت أحداً يقترض فراخاً من العمدة؟!



ـ أنا الأخرى أتعجب يا سيدي!!



ـ لقد حكمت له في قضية أمس فأقسم أن يُحضر لي فراخاً اليوم، اليوم فجراً، وهاهو ذا الفجر يولي، وهو لم يجئني. كم أنت ثرثارة يا فاطمة! الفجر سيفوتني.. الله أكبر.. الله أكبر.. أصلي الصبح ركعتيْن فرضاً حاضراً لله العلي العظيم.. الله أكبر"(2).



إن شخصية العمدة هنا نموذج لشخصية العمدة في الأدب الروائي المصري، فهذه الشخصية المتسلطة التي تسير في ركاب السلطة، تعمل لمصلحتها، وتحكم لصالح من يرشوها، والحوار السابق "يُظهر ضعف التدين عند الشخصية، وجشعها، وقبولها الرشوة، وهي تمثل نموذجاً عاما ينطبق على كثير من الناس الذين يتخذون من الدين قشوره ومظاهره التي أصبحت تقليداً يُؤدونه بحكم العادة، دون أن يدخل الإيمان في قلوبهم" (3 ).



ومن ثم جاءت صورة العمدة في رواية "هارب من الأيام" صورة نمطية مسطحة"(4 ).



وعلى عكس هذه الصورة جاءت صورة العمدة في رواية "ملكة العنب" لنجيب الكيلاني. ورغم أن دور العمدة في رواية "ملكة العنب" دور ثانوي، فقد اهتم الروائي برسم صورة كاملة له:

"كان الشيخ محمد يعرف أن حضرة العمدة "عبد الشافي وهدان" من أسرة طيبة، يسَّر الله له الحج سبع مرات، وله من الأراضي الزراعية والأموال و المواشي ما يكفيه، وأولاده يتولون في الدولة مناصب مرموقة، وأخوه الكبير ـ رحمه الله ـ كان من ضباط الثورة، وهكذا عاش آمناً عادلاً، محترماً من الجميع، لا يتردد في اتخاذ الإجراءات المناسبة ـ مهما كانت قاسية ـ عند اللزوم، ولا بأس أن يقسو أحياناً حتى لا يفلت الزمام، لكنه يتحرى الحقيقة تحت أي ظرف من الظروف"(5 ).



المواشي ما يكفيه، وأولاده يتولون في الدولة مناصب مرموقة، وأخوه الكبير ـ رحمه الله ـ كان من ضباط الثورة، وهكذا عاش آمناً عادلاً، محترماً من الجميع، لا يتردد في اتخاذ الإجراءات المناسبة ـ مهما كانت قاسية ـ عند اللزوم، ولا بأس أن يقسو أحياناً حتى لا يفلت الزمام، لكنه يتحرى الحقيقة تحت أي ظرف من الظروف"(5 ).



وتتضح طيبة هذه الشخصية، وعدلها، واحترامها، في مناقشته لمحمد أحمد حسب الله (المدرس، والذي يخطب في الناس يوم الجمعة) حينما يستدعيه ليتحدث معه فيما جرى في القرية بعد خطبته الماضية، والتي طالب فيها بوجوب إخراج "زكاة العنب"، فتأثر الفقراء والمعوزون، حتى إن "أحد مشاهير الفقراء والمشاغبين.. قال:



ـ إذا لم نأخذ حقنا بالشرع، فسوف نأخذه بالقوة"(6 ).



إن العمدة يستدعي محمد أحمد حسب الله، ويحدثه باللين والحكمة، ويبلغه رأيه الذي لا تحس فيه استعلاءً، أو هيمنةً، أو فرض رأي. ويتآزر الوصف مع الحوار ليُبرز لنا هذه الشخصية النقية المضيئة:



"… حضرة العمدة الذي تخطى السبعين… استقبل الشيخ محمد أحمد حسب الله بالترحاب والتقدير، والبسمة تعلو وجهه الأشيب الطيب، وقال:



ـ أهلا بالرجل الصالح الجليل.



شعر الشيخ محمد بالارتياح، وتمتم:



ـ لم تسنح الفرصة لزيارتك هذا العام.



ـ أعرف مسؤولياتك، وأنا كثير التوعُّك هذه الأيام.



ـ وإنك والد.



ـ ولهذا استدعيتُك.



لم يُعقب الشيخ محمد بكلمة، فكلاهما يعرف موضوع اللقاء، لكن العمدة تنهّد، وقال:



ـ هذه القرية الظالم أهلها حكمتها أربعين عاماً.. عاصرت أحداثها، وجرائمها، وأفراحها وأحزانها.. حاولت قدر جهدي أن أعدل بينهم.. لكن للأسف إرضاء جميع الناس غاية لا تُدرك.. هل فهمت يا شيخ محمد؟؟



ـ بالطبع يا والدنا.

ـ لقد قدّموا شكوى في حقك، واعتبروك المحرض على السرقات التي جرت في الأيام الأخيرة.. واللصوص يا بني ـ وما أكثرهم ـ يعتق دون أنهم يؤدبون الظلمة والبخلاء بسرقتهم. إنهم يُحاولون ـ حسب زعمهم ـ تطبيق الشريعة بطريقة فجة. منع الزكاة عنهم يُعالج بالسرقة.



دون أنهم يؤدبون الظلمة والبخلاء بسرقتهم. إنهم يُحاولون ـ حسب زعمهم ـ تطبيق الشريعة بطريقة فجة. منع الزكاة عنهم يُعالج بالسرقة.



قال الشيخ محمد أحمد حسب الله:



ـ لكني أبرأ من ذلك وأُدينه.



ـ هذا ما أريدك أن تفعله في الجمعة القادمة.



ـ لقد كنت أُفكر في السفر.



ـ إذا سافرت على هذا النحو فستترك الفرصة للقيل والقال"(7 ).



*****



إنه عمدة آخر ـ غير صورة العمدة النمطية ـ في القرية التي تُقدمها الرواية المصرية:



1-إنه يعرف أقدار الناس:"استقبل الشيخ محمد أحمد حسب الله بالترحاب والتقدير، والبسمة تعلو وجهه الأشيب الطيب، وقال: ـ أهلا بالرجل الصالح الجليل".



2- ويريد أن يستمع إلى المتهم قبل أن يُلقي حُكما عليه.



3- وهو بمثابة الأب للناس، الرحيم بهم، لا الحاكم الظالم.



4- وهو ذو خبرة طويلة بالناس ومشكلاتهم، وقضاياهم: " هذه القرية الظالم أهلها حكمتها أربعين عاماً ".



5- وحينما يطلب من الشيخ محمد حسب الله شيئا، فإنه لا يأمره، وإنما يُقدِّم ما يُريده في صورة الناصح الأمين:



"ـ لكني أبرأ من ذلك وأُدينه.



ـ هذا ما أريدك أن تفعله في الجمعة القادمة.



ـ لقد كنت أُفكر في السفر.



ـ إذا سافرت على هذا النحو فستترك الفرصة للقيل والقال".



6- وهو ذو وعي وفكر، يرى أن الناس ـ في مصر ـ قد جُنُّوا في مطلع التسعينيات بحب المال، ويرى أن قرية "الربايعة" جزء من هذا العالم، وأن قريته تحوّلت إلى الأسوأ بعد أربعين سنة من إدارته دفة الأمور فيها:



"الناس في هذا الزمان قد جُنُّوا بحب المال، وهم على استعداد لأن يُلوِّثوا الشرفاء، ويسفكوا الدماء للحفاظ على مكتسباتهم.. العالم كله هكذا.. أتدري يا بني ما الذي أفسد هذه القرية التي كانت آمنة؟



ـ ماذا؟

ـ عد على أصابعك: التليفزيون، والسفر للعمل بالخارج، وفساد الإدارة، والبضائع المستوردة، وانهي ار التعليم، والبعد عن شرع الله، والرشوة. تلك هي الأوبئة السبعة"(8)



ار التعليم، والبعد عن شرع الله، والرشوة. تلك هي الأوبئة السبعة"(8)



7- وحينما يُقتل "مصطفى السلاموني"، فإنه لا يتصرّف كأي عمدة آخر، بأن يُحضر المشبوهين في قريته للحجز عنده، ويتناولهم زبانيته بالتعذيب حتى يظفر بالاعتراف، وإنما يسأل أهل الرأي في القرية عن رأيهم في الجريمة(9 )، ولا يملك إلا أن يشكو كما يشكو غيره ـ من غموض الجريمة، ويقول لزوجه حين يأوي إلى فراشه:



"الحقيقة أننا لا نعرف شيئا على الإطلاق. ألم أقل لكم إنه ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؟"( 10).



وحين يرى كثرة الجرائم وغموضها، ينفخ في غيظ، ويُحدِّث زوجته:



"كثيراً ما تُحدِّثني نفسي بأني غير قادر على حمل المسؤولية، ويبدو أني لم أُخلق لهذا الزمان. في الماضي كان كل شيء يسير على ما يُرام، لم تُحيِّرني جريمة، ولم يستعص عليَّ لغز، أما اليوم فقد تحوّل الناس إلى شياطين.. يحبكون جرائمهم ويُزوّرون كل شيء، ويبرعون في تضليل العدالة"(11 ).



وبعد عودة ابن القرية القتيل من العراق وجد القرية تلتهب "وخرج الشباب في مظاهرة غاضبة يلعنون "صدام حسين" رئيس العراق ونظامه القمعي، وهتف المتظاهرون أيضا ضد الإدارة المصرية التي تُفرِّط في حق أبنائها، وتُجامل بدمائهم من أجل الحفاظ على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين" (12 ).



ولقد قُبِض على أكثر من أربعين شابا، بعد أن حضر رجال الأمن المركزي، وهم يحملون أسلحتهم وهراواتهم وقنابلهم المسيلة للدموع.



ويدور حوار بين قائد الحملة التأديبية والعمدة، نرى فيه سعة أفق العمدة، ودفاعه عن أبناء قريته، وعدم انحيازه إلى السلطة ظالمةً أو مظلومةً، كما يفعل غيره من أصحاب السلطة التنفيذية:



"قال حضرة العمدة لقائد الحملة التأديبية:



ـ إنكم يا باشا تُسيئون إلى أنفسكم وإلينا.



قال الضابط في عنجهية:

ـ أنت يا عمدة لا تعرف الأبعاد الحقيقية لما جرى.



رى.



ـ بل أعرف.



ـ ماذا؟



ـ أهل القرية شعروا بالحزن والغضب من أجل ولدهم الضحية، وهذا أمر طبيعي جدا..



ـ الحزن في القلب يا عمدة وليس بالمظاهرات.



ـ إنهم يُعبرون عن أحزانهم بطريقتهم.



ـ قانون الطوارئ يمنع المظاهرات



ـ لم تحدث مظاهرة بالمعنى الصحيح.



ـ فماذا تُسمِّي ما جرى؟؟



ـ جنازة.. جنازة حارة لا أكثر.. الناس في القرية يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، ويُلطِّخون وجوههم بالطين.. لكن ما حدث اليوم كان جنازة متحضرة ..



ـ لقد هتفوا ضد الحكومة يا عمدة .. "(13).



لقد جعلت الحكومة من مظاهرة بريئة مؤامرة لقلب نظام الحكم، فمنعت التجول، ولم تضع اعتباراً لرأي العمدة الذي يحكم قرية "الربايعة" من أربعين سنة، ومن ثم فقد "ركب العمدة جواده، وأخذ يشهد ما يجري في ذهول، وتمتم:



ـ آه يا حكومة..



وكزَّ على أسنانه في غيظ، وصاح:



ـ يا أهالي البلد!.. استمعوا إليَّ جيداً. أُشهدُكم أنني أُقدِّم استقالتي منذ الآن، وأنني أخلع عني "العمدية" كما أخلع حذائي هذا"(14 ). ويستقيل العمدة من منصبه.



إن استقالة العمدة كانت كُرهاً لهذا الواقع المليء بالظلم، بقدر ما كانت استجابة لنداء عالم خفي هو عالم الروح:



"قال الناس إن حضرة العمدة رأى في منامه أنه ذهب إلى ميضأة المسجد، فسمع من يقول له: "يا عبد الشافي اخلع عنك ملابسك النجسة، واغتسل هنا وتطهّر، والبس ثياباً طاهرةً ثم اذهب إلى بيتك، ولتبك على خطيئتكم" وحينما أفاق العمدة من نومه، استغفر الله وبسمل وحوقل، ثم أيقظ زوجته، وروى لها الرؤيا، وكان تفسيره لها أن منصب العمودية وبال وشر، وأنه لا بد أن يخلع عنه هذه الشبهة، ولذلك استقال في اليوم التالي بعد أن جرى ما جرى" (15).

--------------------------------

1 د. حلمي محمد القاعود: الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني، ط1، منشورات رابطة الأدب الإسلامي العالمية (3)، دار البشير، عمّان 1416هـ ـ 1996م، ص71.

2 ثروت أباظة: هارب من الأيام، ط2، مكتبة مصر، القاهرة 1971م، د. ت، ص 19-21.

3 د. عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية، ط1، مكتبة الشباب،، القاهرة 1982م، ص134.

4 الشخصية المسطحة هي "التي تلزم جانباً واحداً من جوانب الحياة، وتثبت على صفة واحدة لا تُفارقها سواء أكانت خيراً أم شرا، ولا تحفل بالمفاجأة والإثارة والنمو، ولا تركب مراكب التغيير" المرجع السابق، ص144.

5 الرواية، ص17.

6 الرواية، ص6.

7 الرواية، ص15، 16.

8 الرواية، ص16، 17.

9 انظر الرواية، ص27.

10 الرواية، ص32.

11 الرواية، ص33.

12 الرواية، ص39.

13 الرواية، ص43.

14 الرواية، ص47.

15 الرواية، ص49.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية