هل فكّرت يوماً في رفع دعوى قضائية ضد ذاك الذي اخترع الكتابة؟
منذ نشأنا تلقّينا كثيراً من المسلّمات، وصرنا نردّدها في الصباح وفي المساء، في السر وفي العلن، معلنين ، بفخر، أنّ العلم نور والجهل ظلام. ولكن، ماذا لو أننا فكّرنا مرّة في الكف عن الببغائية ورحنا نعكس ماتعلّمناه لنمتحن مصداقيّة مانؤمن به ؟
جرّبوا أن تسايروني اليوم، وتعالوا نفكّر معاً في المآسي التي جعلنا نتحمّل أوزارها ذلك العبقري الذي اخترع الكتابة ؟ عندما تكون طفلاً، يجبرك أبواك على الكف عن اللعب، وعلى النوم باكراً، لتستيقظ في الصباح على عجل حاملاً على ظهرك شيئاً ثقيلاً مملوءاً بالكتب المدرسية التي تحتوي آلاف الكلمات المكتوبة.
وفي المدرسة يجبرك المعلم على الانتباه لكل مايتفوّه به طوال نصف النهار، وعندما تعود إلى البيت تكون محمّلاً بكثير من (الوظائف) التي تقضي النصف الثاني من النهار في إنجازها.
وفي عيد المعلم تردّد مع رفاقك:
قم للمعلّم وفّـه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا
فما الذي علّمك إياه المعلم ؟
احترمْ الكبير واعطفْ على الصغير… حافظ على النظافة واحترم جارك ، وارع حقوقه… لاتكذب… لاتسرق… ثم يلقّنك وذووك التعاليم الدينية التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ولكن، ماالذي يحدث بعد ذلك؟
تكبر وتلاحظ أن كل مايجري حولك يخالف كل ماتعلّمته في المدرسة وفي الجامعة.
فالمنهي عنه يُعمل به، والمأمور به يُتجنّب وكأنه رجس من عمل الشيطان.
تكبر وتكتشف أن الكتابة شيء مصنوع خصيصاً لقهرك.
يجلدك الوقت لتحصل على الشهادات، ويجلدك العسكر لتحصل على جواز سفر ثم على تأشيرة خروج ثم على (فيزا) لتنتقل من شارع إلى شارع في مايسمى الوطن العربي الكبير.
زوجتك تكتب لائحة طويلة بمتطلّبات البيت. الدوائر الرسمية تشهر في وجهك (فواتير) الاستهلاك الباهظة. النادل في المطعم يشهر في وجهك (الحساب).
تصلك الانذارات عبرالبريد. ينشب الفقر أنيابه في رئتيك لتدفع ضرائب (الكتابة) التي حفظتها أيّها المتعلّم الفذّ.
في عملك تحيط بك الأوراق من كل جانب لتذكّرك بإثمك الكبير الذي بدأت بتعميقه يوم قررت أن تغدو متعلماً أيها المتنوّر الشقيّ الذي رآك المتنبي ليقول فيك:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ
والمشكلة أن العلم أنواع، مما يجعل الكتابة أنواعاً تتوارثها فئة عن فئة. فالملك يلقّن الملك، والوزير يلقّن الوزير، والكاتب يلقّن الكاتب.
وهكذا تُكرَّس الكتابة، فيبقى (الملك هو الملك).. والشحاذ هو الشحاذ، وقد لاحظ غسان كنفاني أن (خيمةً عن خيمةٍ تَفرق)، فكيف يمكننا أن نتجنّب الكتابة وآثارها التي تتبعنا ولو كنا في بروج مشيّدة.
وحتى إذا خلوت إلى نفسك، تجد على كتفيك ملاكين يكتبان حركاتك وسكناتك ليقدّما تقريراً حتى عمّا تفكّر فيه .
ولكن، هل يمكن أن تكون الكتابة، أصلاً، فعلاً آثماً، أم أن البشر هم الذين حرّفوها لتقتصر على التسبيح بحق المستبد، وقهر الأحرار؟
الديانات على مر التاريخ أرادت أن تقوّم الوضع الذي يزداد اعوجاجاً باستعمال الكتابة في غير مواضعها ولغير غاياتها.
جاء في الكتاب المقدس : (( في البدء كان الكلمة.. والكلمة كان مع الله.. وكان الكلمة هو الله)).
وأول مانزل من القرآن الكريم كلمة " اقرأ " وهي فعل غدا ممكناً بعد فعل سابق هو (الكتابة).
ولكنّ القراءة والكتابة معاً، فعلان مؤقّتان، أريد لهما أن يقوّما مااعوجّ من تفكيرنا، لنعود بعد ذلك إلى عالم نظيف من إثم الكتابة " رُفعت الأقلام وجفّت الصحف".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية