في فيلم انجمار برجمان الذي بات علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية : " الختم السابع " عندما يواجه البطل نهايته ، يدعو ملك الموت إلى مباراة شطرنج بلا أمل ..
أترى هل نحن نلعب الشطرنج في الرابع أم الخامس أم السادس .!؟ ومتى ستنتهي لعبة الشطرنج ونصل الاستواء السابع وتنتهي مسرحية الأسئلة العبثية !؟ " أنا أريد من الله أن يمد يده نحوي ، ويكشف وجهه لي ، وأن يتحدث إلى" هذه صرخة من إحدى شخصيات الفيلم ذاته " الختم السابع" فقد كان الإنسان دوما يحدوه الأمل في أصعب منحنياته .
الأدب و النتاجات الإبداعية الإنسانية عموما مليئة بمثل هذه التعبيرات التي توضح يأس الإنسان وإحساسه بالوحدة في الكون المترامي الأطراف الذي يزداد قسوة وعنفا وتجاهلا لأبسط بتلات الروح الحالمة بالخلاص لهذه النفس التي تُعدُّ مركز كل التاريخ البشري ومعياره ...
وربما كانت أعظم صرخة في المجال الإبداعي المعبرة عن الوجع تلك الآتية من قلم شكسبير حيث وضع كلمات " وليس ماء " على فم ما كبث في لحظات الفقد و اليأس الشديد:
خارجا ، خارجا ، أيتها الشمعة المضيئة
فما الحياة إلا خيال سائر ، عابث مسكيـــن
إنسان ساذج ، أحمق ، مملوء ضوضاء وهياج
إننا نخاطب أنفسنا بمثل هذا الشعور اليائس الذي بها كتبت هذه العبارات منذ قرون ، بل ربما ازدادت أكثر قسوة اليوم فاقدين توازننا وثقتنا بأنفسنا . ولكن أليس ضرباً من الجنون أن نجعل هذه النفس المتمثلة والرمز لكل الذوات والكائنات الرائعة فينا ، هذا الإنسان الفريد في كل شئ ( ميلاده ، حياته ، موته ، قيامته ) منزوية حقيقته في ركن مهمل من أفكارنا ، ويروح النهم والاشتهاء للتمثل بما سمعناه عنه من نظريات عقلانية ونقدية فكرية ماديّة بحتة ، بلا فحص وتدبر وبلا تشغيل وتفعيل للنزعة النقدية الفطرية فينا لمنح ثمة تقدير للطاقات الأخرى الساكنه في أماكن قصيّة فينا بعد لم تثكتشف ، سواء في داخل الدماغ أو مناطق أخرى مؤثرة وفاعلة في دورة دائرة الحيوات تم اقصاؤها عبر مدنية وحضارة ماديّة لا تستخدم من طاقاتها سوى الثمانية بالمائة من النشاط الدماغي في أعلى عبقرياته مهملة مع سبق الإصرار والترصد الطاقات الخفية في الذوات الانسانية تحت مسميات الشعوذة لعدم وجود دراسات بحثية تتوافق والرؤيوية البراغماتية للمصالح والعقلية المادية بل تصل لمرحلة السخرية اللاذعة والإهانة لها .!؟ ..
هـ. جـ. ويلز الذي ولد عام (1866) وتوفي عام (1946) بعد حياة حافلة بالفكر الحر الصادق مع نفسه، عميد أدب الخيال العلمي في العالم، بصعوبة بالغة تمكن من إقناع أهل العقل المادي في عام 1934م، من ضرورة إنشاء كليات متخصصة في علم البيئة البشرية. و صار بعد مدٍ وجزر ونقاشات تهكمية ونقد لاذع من أهل الفكر والعلم المادي صار علماً أساسياً في عالمنا اليوم، على الأقل لدى الثقافات التي باتت تشعر بقيمته الروحية الإنسانية في الزمن العقلاني المدمر جدا والقائم على فكر ونظريات تمتلك آلية مدهشة في نسف ما قبلها من أفكار عقلانية أمام كل ظاهرة علمية مُستجدّة ، أجزم أن اليوتوبيا التي سكنت روح هـ. جـ. ويلز كانت وراء ذلك ..
في عالم يجوز تسميته بالخيال أو صورة ما وراء بؤبؤ العين أروح لظاهرة النسبية للزمن، ذلك الاكتشاف الهائل الذي حققه إينشتاين في القرن العشرين عبر أحلام داعبته كإنسان .. والسؤال يصير : هل يستطيع تمدد الزمن أن يساعد الحب ، والحب أهم ركيزة في اكتشاف الإنسان حقيقته والحقيقة المطلقة في الكون .!؟
أتوقف أمام رسالة بعثت بها إحدى شخصيات رواية خيال علمي للكاتب هو (جو هالدمان)، بعنوان (الحرب الأبدية)، يقول نص الخطاب الموجه من الحبيبة إلى حبيبها:
" … عزيزي وليام:
كل هذا في ملفك الشخصي. ولكني أعرف طباعك جيداً، ولن يدهشني أن تكون قد ألقيت به جانباً. لذا حرصت على أن تتلقى هذه الرسالة.
من الواضح أنني بقيت على قيد الحياة، وربما ستستطيع أنت أيضاً ذلك. فلتلحق بي. أنا أعرف من السجلات أنك في الكوكب Sad-138 ولن تعود قبل مرور قرنين من الزمن. لا بأس في ذلك، إذ إنني ذاهبة إلى كوكب يطلقون عليه اسم (الإصبع الوسطى)، وهو الكوكب الخامس انطلاقاً من ميزار. لقد اشترينا مركبة من قوات الطوارىء التابعة للأمم المتحدة، استنفدت كل نقودي وخمسة من الأصدقاء القدامى، ونحن نستعملها كآلة زمنية. إنني أعيش الآن على مركبة مكوكية نسبية، وأنا بانتظارك. وكل ما تفعله هذه المركبة هي أن تسافر مدة خمس سنوات ضوئية، ثم تعود بسرعة فائقة إلى الإصبع الوسطى. أما أنا فيرتفع عمري قرابة شهر واحد كل عشر سنوات. فإذا لم تتخلف عن موعدك وبقيت حياً، فسيكون عمري حين تصل إلى هنا 28 سنة، فلتسارع بالمجيء. إنني لم أعثر على أحد غيرك، ولا أود أن أعثر على أحد غيرك. ولا يهمني إن كان عمرك تسعين أو 30 عاماً، فإن أنا لم أستطع أن أكون حبيبتك، فسأكون ممرضتك التي تتولى رعايتك.
ماري جيى..»
..
من سوء حظ أينشتاين صاحب العقل المدهش الذي يعده العلماء واحدا من القلائل في العالم الذي تمكن من استخدام أعلى طاقات وقدراته العقلية البشرية المعروفة ، مات هذا العبقري وهو يشارك في المظاهرت ضد بلاده ساخطا على آليات الحرب التي استفادت من نظرياته في أغراض لم تكن ضمن حسابات أحلامه الجميلة التي كرّس لها كل طاقاته العقلية المبدعة ، ربما لو قرأ هذه الرواية لشعر بشيء من الجدوى لحلم بات يداعب الملايين في خلق الحب بين ثقافات وشعوب العالم المختلفة عرقيا وإثنيا ، مات قبل أن يرى كيف تتحول معادلاته الجافة إلى سيل متدفق من المشاعر الإنسانية الرقيقة.تروح لكتابات تداعب أرواح آلاف مؤلفة من القراء لاحول لهم ولا قوة سوى بعث بتلة يتوبيا من جديد ، وتروح في ذات الوقت لتجارب مذهلة مخيفة في عالم النانوتكنولوجيا التي سوف يتم الكشف عنها خلال السنوات القليلة المقبلة في التحكم بالروح والمادة بعد فك شيفرات المادة تماما كشيفرات الإنسان الجينية ..
فأي يتوبيا سكنت هذا العبقري وأي زهور أنبتت وستنبت ؟؟ وهل هو مسؤول عن تحكم نتائج نظرياته في آليات القتل بأبعادها المتمثلة اليوم ..!؟
أي ألوان برّاقة وأي أشواك سامة حملتها الأفكار العقلانية جدا ونثرتها للريح لتدخل رئات العالم التي هي أصلا معطوبة .!؟
أي بتلة يتوبيا سنحتاج نحن الحالمون اليوم وغدا أمام هذا النهش لبعضنا البعض ، وجزّ الرؤوس في غمضة عين .!؟
أي بتلة يتوبيا نحتاج لاستعادة ضخ الدم النقي للدماغ السعيد بالاغتصاب والقتل والتدمير تحت شرف الواجب والأمانة المهنية .!؟
أي يتوبيا نحتاج أمام لعبة الإقصاء والتهميش والتكفير والدوس على أغلى وأقدس معانينا ومعاني الاخر منا وفينا .!؟
أي فعل نحتاج لاحتواء ألم احتضار اليتوبيا في بعض الصدور ..!؟
وربما اجتياح الاحتياج لبتلة يتوبيا هو وراء من يطرق بوابة الدروب والمعابر مشاكسا متقنعا بالكلمات أو الفعل العنيف ، ففي مشاكسته وعنفه وشاية بالأعاصير المجتاحة أعماقه والتائقة لومضة نور تنساب خلاياه ....
والنور لايظهر للأعماق مالم نعترف بتوقنا وتوق الآخر له ، ونفعل فعلا يقينيا لتنبتَّ للمفعول به أجنحة ..
لكن الواقع يقول : بعد مازلنا نلعب الشطرنج مع ملاك الموت يأسا ، وبعد لم نصل الاستواء السابع والرحلة مضنية للروح ليس فقط عبر أبعاد الزمن الاينشتايني بل عبر الزمن الكوني ..
كل شيء يشحذ المشاعر
تماماً مثلما تشحذ الحروب الكثيرة شيفرة السيف فيصير رهيفاً.
ويمكن أن يصير هذا السيف قاتلا
ويمكن أن يصير وتراً..
فيبكي..
وَ
يغني...
ولكم كل الصباحات والمساءات التي يجب أن تكون جميلة رغم أنف كل شيء ..