الغناء وأزمة التنظير الغنائي:

منذ البدايات الأولى، شعر الإنسان بضعفه وضآلته في هذا الكون اللامتناهي. وأدرك ضرورة تملك القوة كأداة تضمن له البقاء أولا ثم الباقي بعد ذلك. وأول أدوات القوة التي ابتكرها: السحر كسلاح يستمد فعاليته من العالم الخفي، من العالم الآخر. ولعل الأمر انتهى به إلى اكتشاف الغناء كشكل من أشكال السحر: سحر الطفل الباكي، سحر الحبيب اللامبالي، سحر القبيلة وتوحيدها على إيقاع أغنية واحدة أو نشيد واحد... ولأن الغناء له مفعول السحر على عواطف الناس واتجاه تفكيرهم، فقد كان تاريخ الغناء صارما في تحديد مقاييس جمال الصوت المنفرد. ولكن هذا التاريخ، تاريخ الغناء، لم يخض في باقي مكونات الأغنية مما ترك الوعي الناقص بالشكل والوظيفة الغنائيتين ممتدا عبر الزمن. هذا الوعي الناقص الذي يمكن نعته بأزمة التنظير الغنائي كان أبرز ضحاياه: المغني.

مراتب المغنين:


المغني هو حلقة من الحلقات الأربع الضرورية لكل أغنية:
1. الشاعر: كاتب كلمات الأغنية.
2. الملحن: كاتب ألحانها.
3. الموزع: مؤلف الموسيقى المصاحبة للأغنية .
4. المغني: مؤدي النص الغنائي.

لكن صفة المغني داخل هذه الحلقات المتشابكة هي مراتب ثلاث ترتقي وتتدنى حسب الموهبة والتأطير وروح الإبداع. وهذه المراتب هي:
1. المغني: إنسان له طاقة صوتية تمكنه من محاكاة أغنية.
2. المطرب: مغني موهوب له القدرة على الإبداع داخل الأغنية ذاتها.
3. المبدع: منتج الأغنية ومؤ طرها فكريا وجماليا وإيديولوجيا أحيانا.

فالمبدع، مبدع الأغنية، يتربع على هرم المثلث لكونه يجمع بين القدرة على الغناء أحيانا وبين الإلمام بالإطار النظري والجمالي وحتى الإيديولوجي للأغنية. فرؤيته للأغنية شاملة (omniscient point-of-view ). لكن قلة هم المبدعون الذين يؤدون نصوصهم الغنائية بأنفسهم مثل: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، سيد درويش، سيد مكاوي، عبد الوهاب الدكالي، مارسيل خليفة...فالأغنية تفضل الانسحاب لفائدة صوت غنائي أفضل من صوتها كما كان يفعل: عبد السلام عامر، رياض السنباطي، زياد الرحباني، محمد الموجي، كمال الطويل، بليغ حمدي...

أما المغني فدون المبدع بكثير كون كل رأسماله هو طاقته الصوتية. إنه " حكاء" Imitator ، محض حكاء تعوزه القدرة على الارتجال الناجح داخل النص والتجارب مع حالة الجمهور...إنه مجرد صوت يحفظ أغنية عن ظهر قلب...

أما المطرب فيبقى أرفع مرتبة من المغني وأقدر على الأداء الغنائي الخلاق لجمعه بين الطاقة الصوتية والقدرة على الإبداع داخل النص ( ارتجال مواويل مثلا ).إنه فنان ينقش خصوصيته على فن المبدع وعلى الذوق العام للعصر...

وظيفة المطرب:


الطرب، كنشاط أرقى من الغناء، هو شكل من اشكال التعبير والجهر بالرأي وروحنته لدرجة يصبح فيها الرأي رأي الجميع، والإحساس إحساس الجميع. إن وظيفة المطرب هي إلقاء النص الغنائي مع إبداء الموقف من هذا النص من خلال الإيماءات الجسدية المعبرة والوضعيات الجسدية الوظيفية لاشيء يفسد النص الغنائي أكثر من سكونية المغني أو تحفظه أو لامبالاته أو جهله بأساليب التعبير الجسدي. إنها دليل شيخوخة أو كسل، وهي في الحالتين ليست من شيم المطرب الواعي برسالته الفنية المشترطة لتوحد المطرب مع أغنيته، أو ما يمكن تسميته " بالصدق الفني " فالمطرب إما أن يكون صادقا يغني تجربته وإحساسه وقدره أو اختياره، وإما أن يكون زائفا يغني عن مشاعر وأحاسيس واختيارات منسوبة إليه قسرا...لكن الصدق يقتضي جسدا رديفا للنص يرتجف لارتجافه وينقبض لانقباضه وينشرح لانشراحه:
‘’لن يستطيع مغني الأوبرا مهما أجهد نفسه في محاولات صوتية أن يصل إلى المتفرج محدثا عنده هزة من الدهشة، أي لن يجعل المتفرج يرى أعماق آلام الإنسان أو سعادته إذا كان مجرد مقلد، إذا لم يصنع لنفسه مجموعة مصورة من الصور المرئية داخله.’’
فريد يريك نيتشه
" إنسان مفرط في إنسانيته "
الجزء 1: كتاب العقول الحرة
( الترجمة العربية )
ص.117

لعل خير نموذج يمكنه أن ينير هذه النقطة هو أغنية’’ ياك اجرحي ‘’ للمطربة المغربية القديرة نعيمة سميح: هذه الأغنية التي كتبت ولحنت خصيصا لامرأة خارجة " للتو" من المستشفى لتغني عن جرح...كل هذه المعطيات ساهمت في توحد المطربة لاحقا مع أغنيتها حتى صارت أغنية’’ ياك اجرحي ‘’ عند نهاية السبعينات، أغنية جرح كل النساء اللواتي اقبلن عليها حفظا وتقليدا بشكل منقطع النظير. ولا أدل على هذا الصدق الفني النادر في تاريخ الأغنية المغربية من كون هذه الأغنية، بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن على تسجيلها، لم يجرؤ ولو مطرب واحد ذكر على إعادة أدائها repris فقط المطربات الإناث ، المبتدئات والمتمرسات على السواء، هن من تقدمن في الماضي ولا زلن يتقدمن لأدائها بكل ثقل الصدق الفني الموروث عن مطربته الأصلية، نعيمة سميح.

تركيب:


الغناء نافذة للتعبير عن مكنونات الذات.لذلك فهو لا يمكن أن يكون معبرا إلا بواسطة ذات مغنية تستحضر التجربة المتغنى بها وتتوحد معها بحثا عن الصدق الفني الذي يرفعنا للأعالي وعن الصدق الوجودي الذي يعلمنا كيف نمارس تنظيراتنا وكيف نكون نحن، كيف نكون أنفسنا.
كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية