عندما تكون قادراً على رؤية الأشياء كما هي، بوضوح شديد، وأنت تتجول في الوطن العربي الكبير؛ تكبر مأساتك، وتصبح معرّضاً أكثر من سواك للجنون.
البصيرة النافذة وبالٌ على صاحبها إذا كان من مواطني العالم الثالث، لأنه محاصر ويعرف أنه محكوم عليه داخل بلده بملايين العوائق التي تمنع ملكاته الفذّة من الانطلاق كي يتمكّن من إبداع العالم وفق رؤاه الشفيفة، وبخاصة أنه يقطن بلداً محاصراً بحيتان العالم الجديد. عندما تخرج إلى الشارع في الصباح، لاتنسَ أن تقفل على عقلك في أحد أدراج المكتب قبل أن تخرج، لأنك إذا خرجت به لابد أن تفقده من خلال احتكاكك بالعالم الخارجي الموحل.
تلال القمامة تنبئك عن كمية الطعام التي ظلّ أصحابها يُعلفون بها حتى آخر الليل، كي يتمكّنوا من نسيان واقعهم، وكي يسود نومهم الشخير خوفاً من أن يحلموا بالحرية، بعدما غدا ممكناً، بفضل التقنية الحديثة، كشف الأحلام.
تتجاوز فوضى القمامة، وتقفز في الشوارع قفزاً كالأرنب المذعور خوفاً من السقوط في إحدى الحفر التي ابتدعتها إحدى المؤسسات لإصلاحات أعطالها ثم نفدت ميزانية إعادة الردم بعدما سُرقت ثلاثة أرباع الأموال المخصصة للعمل. فُتح التحقيق لمعرفة السارق، ثم نسيت المحاكم إكماله أو إغلاقه بسبب تنقلات القضاة المستمرة حرصاً على النزاهة، بعدما اكتشف أولو الأمر أن خير مصلح للقضاء هو القضاء على المنصب الأبدي للقضاة.. إنهم ينقلونهم قبل أن يتعرّفوا إلى مفاصل الارتزاق في منصبهم الجديد.
تغضّ الطرف عن ذلك كله، وتتناسى فظائع السير الضائع بين سائقي السيارات وشرطة المرور.
تصل الدائرة التي تقصدها، تدوخ بين الموظفين، ترشّ الرشاوى كمن يعيّد أبناءه الكثيرين.
تعود إلى البيت لتأكل مااتّفق، فلا الدخل يعين على شراء الحاجيات، ولا الزوجة قادرة على الطبخ بعد عمل مضن تقضيه خارج البيت للمعونة في المصروفات الكثيرة.
تجلس إلى التلفزيون، تدير المؤشر إلى أي محطة عربية تسمع الأخبار، يطالعك المذيع بلهجته الصارمة: استلم الأمير عشرات برقيات التهنئة من دول العالم، تشيد بقيادته الحكيمة التي جعلت البلاد تضاهي أعظم الأمم في تطوّرها ونمائها، بفضل سهر صاحب الفضل على راحة مواطنيه وأمنهم ورخائهم.
لاتشتم المحطة … لاتشتم المذيع … راقب ضغطك … إذا كان مرتفعاً، فهذا يعني أنك أخطأت بإخراج عقلك من خزانته.
لاتجرّب محطة أجنبية، لأن الوضع سيغدو أكثر تفاقماً، سترى صورتك وقد كُتب تحتها: إرهابي، مطلوب القضاء عليه وعلى البلد الذي يؤويه.
سل مجرباً واستمع إلى نصحه، كي تحافظ على عقلك… ضع CD لفيروز واكتفِ بغزليات أبي ريشة ونزار.
اترك السياسة لأهلها، والثقافة لأهلها، والحرية لأهلها، والحياة لأهلها، واكتفِ بالعيش، ولا تنم إلاّ بعد عشاء ثقيل. ولا تنسَ … اخلع الوعي قبل النوم، وقبل أن تستيقظ أيضاً خشية أن تداهمك أحلام الحرية فتصبح في (خبر كان) منصوب على ماكان يُنصب عليه الأحرار في زمن خلفاء الدولة المريضة، الذين تركوا أحفادهم لك بالمرصاد.