من شرفة الغرفة رقم 306 أستطيع أن أطل على مدينة فارنا وبحرها الأسود الساحر، وجبالها الخضراء المعشوشبة، وأن أتلصص على جيراني اليابانيين والصينيين والكوريين والهنود والروس والأتراك والألمان، وغيرهم من الجنسيات المختلفة التي تشغى بها شوارع وفنادق مدينة فارنا في هذا التوقيت من العام.
من الشرفة أيضا أطل على أحد المطاعم الأمريكية المنتشرة في أنحاء العالم الآن.
فالبلغار وهم في طريقهم إلى التخلص من الشيوعية، أدخلوا سلسلة هذه المطاعم في بلادهم، لإثبات حسن نيتهم مع الأمريكان.
صوت الختم البلغاري

في مطار فارنا الصغير فوجئنا بتعقيد إجراءات الدخول أو المرور من الجوازات البلغارية، ومكث كل واحد منا أكثر من ثلث ساعة أمام ضابط الجوازات، فقال أحدنا: إنها بقايا الشيوعية، لا تزال تتحكم في درجة إيقاع ورائحة موظفي الجوازات والجنسية.
فقلت له: يبدو إنها إجراءات عادية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
بعد انتهاء مراسم الدخول، وسماع صوت الختم البلغاري على أوراق جواز مرور كل منا، سألتنا إحدى الموظفات البيضاوات المتوسطات القامة، عن كمّ العملة التي نحملها.
أخرجتُ لها من جيبي بضع مئات من الدولارات، بينما قال لها صديق الرحلة حسن الأشقر إنه يحمل في جيبه 850 يورو فابتسمتْ، ولم تطلب منه أن يُخرج المبلغ لتراه.
***
تتمتع مدينة فارنا (التي أُسست باسم أوديسيس بصفتها مستعمرة يونانية، في القرن السادس قبل الميلاد) بجمال طبيعي أخَّاذ، فهي تقع على البحر الأسود مباشرة، وتحيط بها الجبال الخضراء من نواح كثيرة، وجوها معتدل صيفا، لا يحتاج المرء فيه إلى أجهزة تبريد أو تكييف. ولكن بالتأكيد في الشتاء يحتاج أهلها إلى أجهزة تدفئة، حيث تحوم درجة الحرارة حول الصفر صعودا وهبوطا.
عندما سألت عن صلاحية المياه للشرب، قيل لنا إن مياه الصنبور بالفندق صالحة تماما للشرب، والسبب أنه يوجد أنهار كبيرة وصغيرة تجري في بلغاريا (مثل الدانوب، ومارتيزا، وستورما) فضلا عن مياه الأمطار الكثيفة التي تُستغل في زراعة الحبوب والطباق والورد، وفي مياه الشرب، وعلى الرغم من ذلك فقد كان بعضنا يحمل زجاجات مياه معدنية في غدوه ورواحه.


عاصفتان رعديتان وسط الشمس البلغارية

هبت عاصفتان رعديتان ممطرتان أثناء وجودنا هناك.
الأولى كانت في حوالي الساعة الثالثة عصرا، حيث أظلمت السماء فجأة، وانفجر المطر، وأبرق الرعد، وجرت سيول المياه في الشوارع، ودخلت المحلات والشرفات، وتوقفت عند الأعتاب المرتفعة، وتعطلت بعض السيارات عن السير. وهرب الناس من الشواطئ، واستخدموا شماسي البحر، مظلات للوقاية من المطر المنهمر بعنف. وعلى الرغم من ذلك ظلت الفتيات بملابسهن شبه العارية يجرين من أمام الشاطئ، وظل الشباب على حاله يدخن بشراهة.
يبعث هذا المطر في النفس نوعا من التأمل في أحوال الطبيعة التي تكشِّر عن أنيابها فجأة، لترهب الإنسان، كما تبعث كثافة الغيوم وسوادها في السماء نوعا من الاكتئاب والانقلاب النفسي، خاصة للمصيفين الذي كانوا يقضون أوقاتا من اللهو والمتعة على شواطئ البحار.
بعد حوالي ثلاث ساعات هدأت العاصفة الرعدية، وبدأ الطقس يعود تدريجيا إلى سابق عهده، غير أن الشوارع كانت قد امتلأت بأغصان الأشجار وفروعها وأوراقها، وتشققت بعض الطبقات الإسفلتية، وسقطت بعض الأكشاك الخشبية، وجرت المياه إلى مخابئها، وعادت السيارات المعطلة إلى العمل، وأخيرا سطعت الشمس البلغارية مرة أخرى.
العاصفة الثانية قرأتُ خبرا عنها صباحا في شريط الأخبار بمحطة سي إن إن التلفازية.
كان الخبر يقول: عواصف رعدية تعبر (أو تجتاح) أوربا الشرقية.
قلت لصديق الرحلة حسن الأشقر اليوم ستهب عاصفة أخرى على فارنا، وبالفعل بعد ساعات قليلة جاءت العاصفة، ولكنها كانت أقل عنفا من سابقتها. فلم تدم طويلا، وأمطارها لم تكن غزيرة. فحمدنا الله وخرجنا إلى شوارع فارنا، وجلسنا على المقهى المفضل لنا بجوار الفندق.


الكِتَاب والنقاب

إلى جوار المقهى توجد بائعة كتب تفرش كتبها القديمة ـ بعد تغليفها بأكياس البلاستيك ـ على الرصيف. لم أجد عندها أي كتاب باللغة العربية، وكل الكتب كانت إما باللغة البلغارية أو الروسية، وقليلة هي الكتب الإنجليزية أو الفرنسية.
أخذت أتأمل العلاقة بين اللغتين البلغارية والروسية عن طريق تقارب أشكال حروفهما، فالأصل واحد، هو السلافية، ولكن أرجعت ذلك أيضا إلى العلاقة السابقة بين الاتحاد السوفيتي وبلغاريا الشيوعية، لدرجة أن تحول اسم فارنا إلى ستالين، بمناسبة عيد ستالين السبعين في عام 1949، ولكن سرعان ما زال اسم ستالين من على وجه المدينة، وظل اسم فارنا على الألسنة.
ولعل أكثر الزوار والسياح في تلك المدينة كانوا من الروس، وخاصة اليهود الروس الذين قابلنا أفواجا كثيرة منهم في الفندق وفي الشوارع والشواطئ والمقاهي القريبة منه.
أما العرب، وخاصة عرب الخليج، فعددهم قليل جدا، لا يقارن بعددهم في مدينة استانبول على سبيل المثال.
كانت هناك امرأة منقبة تسكن مع عائلتها في الفندق نفسه، كانت محط أنظار جميع النساء والرجال والأطفال، في الفندق والشارع، وكأنهم لم يروا امرأة ذات نقاب أسود من قبل. ونظراتهم كانت تجمع بين الاستياء والدهشة والغضب.
ومثلما ينظر المرء إلى امرأة عارية في مدينة محافظة، فيستنكر عُريها، ويدهش من جرأتها على التعري أمام الغرباء، ويغضب لذلك، كانوا ينظرون إلى المرأة المنقبة بالنظرات نفسها، وكأن العري هو القاعدة، والنقاب هو الشذوذ عن تلك القاعدة. أو هو كذلك بالفعل في مدينة أوربية مثل فارنا.


هاري بوتر في بلغاريا

وأنا في طريقي للبحث عن كتب عربية لدى بائعي وبائعات الكتب القديمة، وجدت مكتبة تبيع الكتب الجديدة وأشرطة الفيديو والكاسيت والأسطوانات المدمجة C.D واللوحات التشكيلية وغيرها. دخلت المكتبة وسألت البائعة عن أي كتاب باللغة العربية، فلم تفهم شيئا من كلامي الذي حاولتُ تبسيطه باللغة الإنجليزية التي أجيدها أحيانا، ثم أشارت إلى زميل لها، ففهم ما أقول: وجاءني بكتاب مجلد ومصوَّر يجمع بين اللغتين العربية والبلغارية عنوانه "العرب والبلغار"، فرحتُ بالكتاب، وسألته عن ثمنه فقال لي: "خمسة وأربعون ليفا" (أي ما يعادل خمسة وعشرين يورو، أو ثمانية وعشرين دولارا أمريكيا تقريبا) وجدت المبلغ كبيرا، فحاولت شراءه بسعر أقل (ثلاثين ليفا مثلا) فلم يوافق البائع، وقال إن الأسعار محددة.
أخذت جولة في المكتبة، فرأيت ترجمة الجزء الأول "حجر الفيلسوف" من سلسلة روايات "هاري بوتر" إلى البلغارية، ومعه الشريط السينمائي الخاص به. ووجدت الجزء الأول من شريط "الرجل العنكبوت" الذي كان يُعرض الجزء الثاني منه في إحدى دور السينما القريبة من شاطئ البحر بنهاية الشارع الذي يقع به الفندق، وقد شاهدت هذا الجزء مع الأشقر، وكان سعر التذكرة (خمسة ليفات، أي ما يعادل حوالي ثلاثة دولارات).


لغتكم غير منتشرة في أوربا

سألت بائع الكتب عن كتب عربية أخرى فقال لي إنه لا يوجد سوى هذا الكتاب. فقلت له ولماذا الكتب الإنجليزية والفرنسية قليلة؟ فأجاب إن تعليم تلك اللغات بالمدارس والمعاهد هنا، ليس على المستوى المطلوب، على العكس من تعليم اللغة الروسية التي تعتبر اللغة الثانية ـ بعد البلغارية ـ في البلاد، ومن أراد أن يتعلم لغة أخرى، فليعتمد على نفسه في هذا الخصوص.
قلت له: ولكن محاولة دخولكم الاتحاد الأوربي، والاندماج مع الدول الأوربية الأخرى، خاصة دول غرب أوربا، ألا يشجع حكومتكم على محاولة الترويج للغات الأوربية المنتشرة عالميا، مثل الإنجليزية والفرنسية، ليتعلمها أفراد الشعب البلغاري، فأنا أرى أن لغتكم غير منتشرة في أوربا، ولن أقول البلاد الأخرى في آسيا وأفريقيا والأمريكتين وأستراليا. بل إن وجود كثير من السياح من أماكن كثيرة من العالم في فارنا، كما أرى الآن، يحتم على المتعاملين معهم معرفة أكثر من لغة للتفاهم مع هؤلاء الضيوف الذين يفيدون الاقتصاد البلغاري في المقام الأول.
لم يجبني بشيء.
فهل هو الخوف من التحدث مع الآخرين عن أمور تخص السياسة العامة للبلد؟
أم أنه لم يفهم حديثي؟
نقلت الحديث إلى وجهة أخرى، وسألته عن مدى انتشار شبكة الإنترنت، فأجاب إنها موجودة في كل مكان، وأشار إلى مقهى إنترنت قريبا من المكتبة. (يبدو أنه أراد أن يتخلص مني).


في نادي الإنترنت

ذهبت إلى مقهى الإنترنت، أو نادي الإنترنت، كما هو مكتوب على اللوحة الكبيرة المعلقة على المدخل، وسألت عن أسعار الخدمة، فقيل لي أقل من ليف برتغالي في الساعة، فوجدت أنه سعر رخيص نسبيا، فكنت أتردد يوميا على ذلك النادي أمكث فيه ساعتين في المتوسط، ومن حسن الحظ أنني وجدت كل المواقع العربية تفتح أبوابها في فارنا، ولكن العيب الوحيد هو عدم القدرة على الكتابة باللغة العربية إلى تلك المواقع، ذلك أن لوحة المفاتيح (كيب وورد) غير معدة للحروف العربية، وإنما للحروف اللاتينية والحروف البلغارية، فكنت أكتب خطابات سريعة بالإنجليزية إلى بعض الأصدقاء، وأجلت كتابة أو قراءة الرسائل العربية لحين عودتي إلى مصر.

الموسيقى والفن التشكيلي

من خلال جولاتي بعد الخروج من السيبر سبيس (أو مقهى الإنترنت)، وجدت أن هناك اهتماما بالفنون التشكيلية، حيث يوجد صالات عرض كثيرة، كما تعرض اللوحات على أرصفة الشوارع، وإلى جوار الكنائس، وفي الحدائق العامة، وفي الأسواق الكبيرة. ومعظمها من اللوحات التي تهتم برسم الطبيعة: الورود أو الأزهار والبحار ـ في حالاتها المختلفة ـ إلى جانب رسم الكنائس والجبال والغابات والأشجار والنساء ـ في أوضاع مختلفة ـ فضلا عن البورتريهات.
أيضا وجدت اهتماما بالموسيقى الشعبية، حيث تقدم الفرق الموسيقية والغنائية ـ ذات الزي المتميز ـ عروضها في الميادين العامة. وأثناء سماعي لإحدى المقطوعات وجدت موسيقاها قريبة جدا من إحدى مقطوعات سيد درويش الموسيقية. وأرجعت ذلك إلى تأثر سيد درويش بموسيقى الجاليات الأجنبية في الإسكندرية، ومنها الجاليات اليونانية والتركية والإيطالية. فضلا عن سفره إلى الشام وتعلمه الموسيقى هناك.
وأعتقد أن الموسيقى التراثية البلغارية قد تأثرت بدورها بالموسيقي التركية، أو فلنقل العثمانية، حيث كانت بلغاريا إحدى مناطق النفوذ والحكم العثماني لفترات طويلة، فهي إحدى بلدان شبه جزيرة البلقان (يحدها شرقا البحر الأسود، وشمالا رومانيا، وغربا البوسنة والصرب (أو يوجوسلافيا القديمة) وجنوبا اليونان، وفي الجنوب الشرقي تركيا الأوربية).
حبات الخوخ والعجوز اليوناني أبسترو كريانز
من ثمرات الرحلة أيضا، لقاءاتنا اليومية مع العجوز اليوناني المقيم في فارنا، أبسترو كريانز، الذي كنا نقابله كل مساء على أحد المقاعد الخشبية الموجودة بالشارع الرئيسي أمام الفندق، وهو شارع مخصص للمشاة فقط، ويشبه إلى حد كبير شارع الاستقلال بمدينة استانبول، مع ملاحظة أن شارع الاستقلال تسير فيه عربات الترام العتيقة، بينما لا تسير مثل هذه الترام في شوارع فارنا، وإنما هناك التروللي باص، والأتوبيسات العامة.
عندما عرف أبسترو كريانز أننا من الإسكندرية، تحدث بحب عنها، وذكر لنا أن أباه عمل في الإسكندرية لمدة سبع سنوات قبل الحرب العالمية الثانية، وأنه كان يحدث أولاده عنها بحب شديد، وكان دائما يحن إلى زيارتها، فهو يعتقد أن الإسكندرية مدينة يونانية، يجب على كل يوناني أن يزورها، إن لم يعش بها.
وعندما سألتُ كريانز: هل زرت الإسكندرية؟ أجاب أنه لم يزرها، وأنه يتمنى ذلك.
يسكن العجوز اليوناني كريانز في شارع جانبي أمام الفندق، وفهمت أنه يقيم في دار للمسنين مع عجائز من الجنسين، من البلغار وجنسيات أخرى مثل الروس والأتراك. وأنه يتعاطف مع القضية الفلسطينية، ولم يحب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، لأنه شنَّ حربا على العراق دون سند قوي.
ويرى كريانز أن العرب لو اجتمعوا على كلمة واحدة لتمكنوا من السيطرة على إسرائيل، ويتعجب كيف أن الدول العربية المحيطة بإسرائيل: سوريا ولبنان والأردن والسعودية ومصر، لم تستطع أن تتحد للقضاء على المظالم أو المزاعم الإسرائيلية في المنطقة، وأنه يبكي عندما يرى على شاشات التلفزيون مقتل النساء والأطفال والشيوخ من الفلسطينيين يوميا.
عندما عرف كريانز أننا سنغادر فارنا بعد عدة ساعات، حزن كثيرا، وذهب إلى داره، وأحضر لكل واحد منا أربع خوخات كبيرات، وقال إنه لا يملك سوى حبات الخوخ تحية لنا. وقال: أرجو ألا تنسوني. وسلم علينا بحرارة شديدة، وكأنه أحد أفراد عائلتنا. وقتها أحسست أني أحب هذا الرجل العجوز (الذي أطلق عليه الأشقر لقب زوربا اليوناني) والذي لم أعرف لماذا هو موجود في بلغاريا، ولماذا لم يعد إلى وطنه الأصلي اليونان وهو في مثل هذه السن المتقدمة التي تحتاج إلى الرعاية والمساندة.
لم أشأ أن أمد يدي إلى ثمرات الخوخ، إلا وأنا في طريقي إلى مطار فارنا للعودة إلى مصر، وكان أجمل خوخ ذقته في حياتي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية