التاريخ هو.. الوعى بالذات الجمعى, من خلال التعرف على أحداث الأيام وردود أفعال الأجداد حيالها.. هو اذن الأحوال المادية المتحققة للكلمة المعنوية /الوطن.
ولأنه يضم البعد الزمانى المكانى فى التجربة الانسانة, كما يضم فكرة الفعل ورد الفعل وفكرة الصراع, بات التاريخ نبعا من منابع الالهام للفن والابداع.. وكل أشكال التعبير عن علاقة الفرد والجماعة مع بعضهم البعض , فى اطار من الأوشاج السببية.
ظلت المعرفة التاريخية هى ملاحقة الملوك والسلاطين والأباطرة والقياصرة, حتى كانت فى القرن التاسع عشر (فى أوربا) الدراسات التاريخية للشعوب فى حياتها الاجتماعية والاقتصادية.. بعد الثورة الصناعية هناك. وقد بدت فى الوقت نفسخ الدراسات التاريخية من هلال المأثورات الشعبية عن تنوعها..وهى التى أفرزت وبرزت فيها روح الشعوب, بينما بقيت الوثائق الرسمية للتاريخ من كتب وآثار ومخطوطات , مصادر باهتة.
وقد أكد البعض على اهمية الأعمال الفنية التاريخية, كما فى يؤكد "جورج لوكاتش" على أهمية الرواية التاريخية تحديدا..لأنها تفى بتوفير وجهة النظر التى تحسم القضايا العقائدية والسياسية. وهو قى ذلك يؤكد على معنى توظيف العمل الفنى التاريخى الى جانب "أدب المقاومة" , الذى هو أدب ترسيخ قواعد الوجود الانسانى الخير, أدب المدينة الفاضلة بمعنى ما, أدب الأنا الجمعية فى سعيها الى لتقوية ذاتها فى مواجهة الآخر العدوانى.

يخطىء من يعتقد أن التاريخى هو الفنى المشاهد أو المقرؤ, فالمبدع يلتزم بروح التاريخ لتوظيفه, ولا يصنع تاريخا أو اعادة لصياغته.
المؤكد الآن أن "التاريخ" أصبح مادة لصناعة تاريخ الأمم وتشكيل مستقبلها, والعمل الابداعى يوثق علاقتنا بالماضى من أجل المستقبل, وهو بالضبط هدف أدب المقاومة, وجوهر رؤيته الموضوعية .
ويمكن أن نخلص مما سبق بالآتى:
.. الأعمال الفنية (وخصوصا الرواية) التى تحاكى التاريخ واحداثه فحسب, تعد ضعيفة من الجانب الفنى.
.. الأعمال الفنية التى تستفيد من "روح التاريخ" هى التى تعنينا , والتى تعد جيدة موضوعيا وفنيا من الجانب النقدى.. حيث يعمل "الخيال " ويعيد نسيح الحياة والأحداث بفعل الرؤية الفنية وسحر الفن.

يدخل مصطلح "التراث" فى اطار فهم الوطن التاريخ, ترجع أهمية التراث الى عرف توظيف المصطلح, طالما مازلنا نبحث عن جوهر "الهوية". ولم تتشكل رؤية فكرية حاسمة للفصل بين التاريخى والتراثى.
بداية يرى د.زكى نجيب محمود : "لم تكن اللغة فى ثقافة العرب "أداة" للثقافة, بل كانت هى الثقافة نفسها"
ويقول "هربرت ريد": "اننى لعلى هلم بأن هنالك شيئا اسمه "التراث", ولكن قيمته عندى هى فى كونه مجموعة من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة الى ما استحدثناه من طرائق جديدة؟"
وتتعدد الآراء حول التراث , وهو ما وضح فى أشكال التناول الفنى والتقنى للأعمال الابداعية, كما فى جنس الرواية. وقد حدد د.حسام الخطيب جملة ملامح مفهوم الحداثة فى الأدب العالمى بعدد محدد , وقد سردها وهو بصدد تصنيف المنتج الابداعى (هصوصا الرواية) من حيث علاقتها بالتراث, وهى: الصدق الفنى فى نقل مشاعر المبدع وتصوير تجربته- خاصية الرفض أو وضوح النزعات الوجودية – التركيز على العالم الداخلى وكشف أسرار النفس – الشعور باشكالية المصير الانسانى والعجز فى تفسير القضايا الكبرى – الشعور بالاغتراب الروحى – مع خاصية النسبية والتحرر من القواعد وما على الأديب الا أن يستعمل طريقته الأدبية ولغته.

فى المقابل هناك من الآراء من يرفض توصيف بعض الروايات بالروايات التراثية.. لأن الروايات التى قامت على التراث ليست الا الشكل الناضج للرواية التاريخية, أو لعلها نسقا من نسقين فى الرواية التاريخية:
النسق الأول هو أن ينتقل الروائى بكل أدواته للعمل فى الزمن الماضى وبعث عذا الماضى من جديد, كما فى أعمال "جمال الغيطانى" و"خيرى عبدالجواد".
النسق الثانى فى تلك الأعمال التى تبدو وكأن الروائى عفوا استلهم من التاريخ "واقعة" أو "شخصية" وغير ذلك. وهو ما وضح فى رواية "حدث أبوهريرة قال" للروائى محمود المسعدى.

ما يعنينا فيما سبق من اختلافات فى الآراء ووجهات النظر فيما هو تراثى أو تاريخى, أن كليهما يعبر عن تفاعل الانسان الفرد فى جماعته, وتفاعل الجماعات فيما بينها, بحيث تتشكل الأحداث والأفعال التى هى افراز "الوطن" الجامع /المظلة.

.. وقد أورد د.طه وادى تصنيفا للكتابة التاريخية (فى الرواية) , فى مقدمة أوضح فيها أن النصف الأول من القرن العشرين, كان امتدادا فكريا للقرن ال19 من زاوية "الهوية".. فنشطت الكتابة الابداعية التاريخية للدفاع عن الحاضر المستباح وصورة الماضى والوضيئة.وهو ما برز فى عدد من الملامح:
: الاهتمام بالكتابة العلمية للتاريخ.. من حيث هو علما له مباحثه وتفسيراته. ممن كتب فيها "عبدالرحمن الرافعى- محمد شفيق غربال – محمد عبدالله عنان – سيدة اسماعيل الكاشف.."
: ازدهار كتابة فن السيرة .. والسيرة نوع أدبى بين التاريخى والأدبى, من كتابه "محمد حسين هيكل – طه حسين – عبدالقادر المازنى .."
: كتابة الروايات التاريخية.. وقد وضح اتجاهان , الأول استلهم من التاريخ الفرعونى أو المصرى القديم "محمد عوض محمد – عادل كامل – محمود تيمور – نجيب محفوظ".. اما الاتجاه الثانى استلهم من التاريخ العربى الاسلامى "ابراهيم رمزى – محمد فريد أبوالحديد – على أحمد باكثير – طه حسين – محمد سعيد العريان – عبدالحميد جودة السحار – على الجارم" .


وقفة مع بعض كتاب الرواية التاريخية:

"جرجى زيدان" .. أول من صاغ وأسس للرواية التاريخية. بدأ محاولاته منذ سنة 1894م . اعتمد على تيمة وحيدة فى صياغة أعماله.. تناول مراحل التاريخ العربى , مستعينا فى ذلك بكتب التاريخ , مع الالتزام بوقائهخ الأساسية, كما يبدو اطلاعه على السير وكتب الرحلات, مع مزج قصة عاطفية مفتعلة .
يؤجذ عليه الجانب التعليمى والاهتمام بالتفاصيل التاريخية وكأنه يسجل لكتاب مدرسى, وكذا اقحام القصة العاطفية بغرض جذب القارىء. ومع ذلك يذكر لخ ريادته , حيث ترجع أهميته الى أنه رصد للقريحة العربية خصائص وملامح فترة تحول هامة فى الوطن, وحاجة العامة والخاصة الى كل ما يعضد الذات.
"محمد فريد أبو حديد".. تعد أعماله أكثر اخلاصا لفن الرواية التاريخية, ويعتبر هو نفسه من أهم من كتبها بعد "جرجى زيدان".
كانت روايته الأولى "ابنة المملوك" عام 1926م, أما روايته "زنوبيا" عام 1941م, فهى تعد أكثر أعماله نضجا فنيا. تبدو أدبية أكثر منها سردا تاريخيا, وأقل قدرية , وتقل فيها الصدفة غير المبررة.
تدور احداث الرواية حول حياة ملكة تدمر- زنوبيا, وهى المرأة التى قادت شئون دولتها, لما تتمتع به من حكمة وقوة شخصية. تزداد قوة بعد موت زوجها , حتى أنها قررت أن تحارب الروم انتقاما له. وان هزمت , الا أنها بدت على جانب من الثقافة العامة والفكرية, حتى أنها تناقش معلمها فى أفكار افلاطون..وتبدو فى النهاية شهصية متعددة الجوانب , على العكس من الشخصيات التاريهية الأحادية عادة.

"ابراهيم رمزى" .. أول رواية تاريخية له "باب القمر" عام 1936م. لمقدمة الكتاب أهمية خاصة, حيث عرض ونشر رأى الشيخ "محمد عبده" بضرورة كتابة الرواية التاريخية. وهو ما ينقل الينا المناخ الثقافى والفكرى خلال تلك الفترة, والنزعة المقاومية فى الرواية التاريخية عموما .. حيث يقول عن الرواية التاريخية : "انها وسيلة لمعرفة التاريخ الاسلامى ومطالعته, لأن المعرفة تلك سوف تجعل الأفراد على أهبة الاستعداد لنداء الوطن.."
تدور احداث الرواية حول شخصية عربية قبل الاسلام "ورقة", ولد عن ام عربية وأب مصرى. يبدو بطلا أكثر من أبوزيد الهلالى , ولد بمكة , واحب "لمياء" المصرية الأصل. وعندما ظهر الاسلام أعلن اسلامه, كما أسلمت لمياء عن غير رغبة أهلها بمصر.. تزوجا.
انها فكرة لمزاوجة العربية/ المصرية.. حتى أنه قالها صريحة ص275 يقول:
" نعم, ان المصريين كلهم عرب قدامى جاءوا فى اثر عرب أقدم , ولكن قطعت صلتهم بأورومتهم حتى جهلوها" .

"على أحمد باكثير".. لعله أكثر الكتاب استلهاما للتاريخ, لعل أهم أعماله الروائية, هى رواية "وا اسلاماه". وان كتب فى المسرح باستلهام التاريخ الاسلامى أيضا.
تناول الفترة الزمنية التى تعرض فيها الشرق العربى الغزو, المغول من الشرق والصليبيين من الغرب. وتابع العمل من خلال قصر الحكم فى مصر, حيث مات الخليفة الصالح أيوب وخكمت شجرة الدر سرا. كما تتبع العلاقة الغامضة بين "قطز" و"الظاهر بيبرس", وكيف أن الأخير قتل الأول.. بعد أن انتصرا فى معركة خاسمة مع الأعداء.
وبحنكة فنية, تابع علاقة قطز بحبيبته أو زوجته, التى بدت ايجابية وناضجة, حتى أنها شاركته المعارك فى علاح الجنود, الا أنها اصيبت فى المعركة , جرى قطز نحوها ملهوفا يقول: "وا حبيبتاه", فقالت له: بل قل وا اسلاماه" ص171

..كما كتب "محمد سعيد العريان", و"على الجارم " الرواية التاريخية. اهتم الأول بالفترة التاريخية للعصور الوسطى, بينما تنوع الأخير الذى يعد آخر من كتب ورصد من كتاب النصف الأول من القرن العشرين. وتتصف أعماله بالفنية , حيث مزج بين العام والخاص فى ملامح شخصياته.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية