لقد كان الإبداع عبر تاريخ البشرية مبادرات لانهائية لمقاومة الواقع أو السمو عليه أو الرقي به أو الدفاع عنه. وهكذا تجدرت في السلوك الفردي والتاريخ الإنساني هذه الثنائية السحرية: الواقع والمثال The established order & the ideal order. قد تتعدد التعيينات على" الواقع والمثال" : الكائن والممكن، الحاضر والرهان،الواقع والآفاق، الإشكالات والبدائل... لكن الدلالة تبقى واحدة وهي أن كل مناحي النشاط الإنساني تحركها هاتين القوتين: قوة الواقع بسلطه وإكراهاته وقوة الحلم بالتغيير والارتقاء. وعلى خلفية هاتين القوتين تتحدد غايات كل الإبداعات الإنسانية من معمار ومسرح وشعر وموسيقى...
كل الإبداعات الإنسانية تتضمن في نصوصها ولوحاتها ومعزوفاتها هاتين الثنائيتين ( الواقع والمثال ) ثم تنتصر لأحدهما على حساب الآخر لتفصح بذلك عن الخلفية التي تحركهما: خلفية سلطة (=الواقع ) أو خلفية حرية (=المثال ). ولعل أخلد الإبداعات الإنسانية هي تلك التي كانت تنتصر دوما لقيم الحرية والتغيير والحلم بغد أفضل وأزهر وأشع. ولائحة الإبداع والمبدعين التي تحتفظ بها ذاكرة الإنسانية لا تضم غير الإبداع الحر والمبدعين الأحرار.
إذا كان الإبداع الحر هو الإنتاج الإبداعي المنتصر لقيم الحرية والغدوية والتغيير، فإن المبدع الحر هو حامل مشعل هذه القيم وباعثها من تحت رماد النسيان والطمأنينة الزائفة دون مطامع ولا مصالح شخصية:
‘’إنه سيلغي نفسه، دون أن يشاء ذلك، مكلفا برد الإنسانية إلى طفولتها، ثمة مجده، ثمة أقصى مداه كذلك.’’
فريد يريك نيتشه
إنسان مفرط في إنسانيته
الجزء الأول: كتاب العقول الحرة
( الترجمة العربية )
ص.96
في هذا الاقتباس، يحدد نيتشه للمبدع خاصيتين اثنتين:
1)- الصوفية ونكران الذات.
2)- تحديد الأهداف والغايات الإنسانية النبيلة للعمل على تحقيقها.
صوفية المبدع الحر تكمن في إيمانه العميق بكونه " معبرا " تمر عبره الإنسانية من الظلام إلى النور، من الأمية إلى الوعي، من الخضوع إلى الحرية، ومن التيه إلى القصدية. إنه محض وسيلة...
أما الخاصية الثانية، فهي تحديد الأهداف والغايات والمرامي النبيلة بغية العمل على تحقيقها: التحرر من الذل والمهانة والإقصاء...
‘’البشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفا، ولكن إذا كانت
الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟’’
فريد يريك نيتشه
هكذا تكلم زارادشت
( الترجمة العربية )ص.86
إذا كانت أهداف الإبداع الحر هي إنتاج عالم جديد وثقافة جديدة. فما هي السبل إلى ذلك؟
الوسائل الثلاثة لتجديد الرؤية والوجود:
في كتاب " أفول الأصنام "، جدد فريديريك نيتشه الوسائل الثلاثة الضرورية لكل مشروع تجديدي:
1)- تعليم الناس كيفية الرؤية.
2)- تدريب الناس على طرق التفكير.
3)- تعليم الناس أساليب التعبير الكتابي والشفهي والجسدي...
بالنسبة للتربية على تجديد الرؤية:
‘’أن نتعلم أن نرى: أن نعود العين على الهدوء، على الصبر، على ترك الأشياء تأتي إليها، على تعليق الحكم، أن يتعلم الإحاطة بالجزء ونفهمه في إطاره الكلي...’’
( الترجمة العربية )ص.72
أما بالنسبة لتجديد الفكر:
‘’أن نتعلم أن نفكر: (...) لكي يتم التفكير فلابد من تقنية، من برنامج، من إرادة التحكم، إنه لابد من تعلم التفكير مثلما يعلم الرقص، كنوع خاص من الرقص...’’
( الترجمة العربية )ص.73
أما بالنسبة للتدرب على التعبير:
‘’لا يمكن أن نستبعد الرقص، بكل أشكاله، من تربية رقيقة: أن يعرف المرء كيف يرقص برجليه، بالأفكار وبالكلمات. ألا يزال هناك داع لأن نقول بأنه على المرء أيضا أن يعرف كيف يرقص بقلمه- بأنه عليه أن يتعلم أن يكتب؟ ‘’
الترجمة العربية ص.73
الإبداع تواصل راق يطلق العنان للمشاعر الإنسانية النبيلة ويحسس الناس بحريتهم ويستدرجهم للاستمتاع بها. ولذلك لا يمكنه تمجيد العبودية أو الاستغلال أو تسخير الإنسان .الإبداع مطلب وجودي يتمظهر في شكل واجب ينتظر من المتلقي القيام به من خلال الوعي بحريته واستثمارها.
إن لجوء المبدع إلى الملتقى كي يساهم في تحقيق المشروع الإبداعي، هو اعتراف منه بحرية المتلقي. بل إن المجهود الكبير الذي يبدله كل مبدع قبل إخراج عمله للوجود لأكبر دليل على هذا الاعتراف بحرية المتلقي الذي قد يلقي العمل الإبداعي في وجه مبدعه إن أظهر هذا الأخير نفاقا أوتزلفا أو تحايلا علىحريته.
حرية المتلقي معطى وحرية المبدع معطى مواز. وكل مشروع يجمعهما هو مشروع يستند على خلفية احترام حرية الآخر واستحضار كرامته. إنه تعاقد بين طرفين متكاملين لا غنى لأحدهما عن الآخر، ولا سلطة لهذا على ذاك.
هذا التعاقد بين الأحرار في العمل الإبداعي يمكن فهمه على خلفية التعاقد بين الأحرار في العمل السياسي كما في هذه المقارنة:
هذا التعاقد بين المبدع الحر وبين المتلقي الحر تعاقد أساسه الثقة المتبادلة والحرية كصفة وجود لكل منهما والعمل على إعلاء راية القيم الإنسانية النبيلة.
الإبداع لا يمكن أن يكون إلا حرا وغدويا حالما لأنه مشروع تحرير للعالم وتجديد له من خلال تحرير العين ( سينيما، تصوير ) والفكر ( فلسفة،...) والسمع ( موسيقى، غناء ) والجسد( رقص، مسرح) على خلفية مرجعية تحيل على تعاقد بين المبدع والمتلقي أساسه الاحترام المتبادل والاعتراف بحرية الآخر والإيمان بالتكامل.