نشأ المسرح العربي بصيغته الراهنة (( العلبة الإيطالية )) على يد التاجر مارون نقاش المولود في صيدا عام 1817 م ، الذي كان كثير الأسفار ، فقد سافر إلى مصر أواخر أيام محمد علي ، ثم إلى ايطاليا و هناك شاهد العروض المسرحية فخطر له أن ينقل التجربة إلى بلده . يصف الرحالة الانكليزي ديفيد أوكيوهات العرض المسرحي الذي أنجزه مارون النقاش في بيته . يقول : ((......أما المسرح فقد أقيم أمام البيت ، و كان على سبيل المثال الذي نحرص عليه في قاعاتنا التمثيلية : باب ، في الوسط كوتان ، و على جانب منه نافذتان ، و كانت الكواليس في آخر الفناء و بالقرب منها تفتح الأبواب الجانبية . أما المنصة فقد أقيمت في الصدر و جلس النظارة أمامها ، و نشرت فوق القاعة ظلال من أشرعة السفن ، و كان هؤلاء قد شاهدوا في أوربا أن المسرح له أنوار أمامية ، و تقوم في مقدمته حفرة الملقن ، فتوهموها من لوازم المسرح فألصقوها حيث لا حاجة لها .....))
طبعاً لا داعي للقول أن نشوء المسرح الرسمي ليس مرتبطاً برغبة مارون النقاش الشخصية بل هو حاجة موضوعية مرتبطة بنشوء طبقة وسطى متغربة تريد بناء وطنها على شاكلة الغرب. و قد تكونت هذه الطبقة ليس بآليات داخلية بحتة و إنما بفعل الاجتياح الرأسمالي فاستمدت وعيها من الغرب إما عن طريق التعلم في مدارس الإرساليات التبشيرية أو ما نسج على منوالها ، أو من خلال الأسفار على غرار مارون النقاش .
لم تجد هذه الطبقة الناشئة وسيلة للنهوض بوطنها سوى تقليد الغرب ، فحاولت نسخ التجربة الغربية بكل تفاصيلها من الأزياء إلى طرق العيش و الثقافة و الفن . دون أن تتحول إلى منتجة حقيقية للحضارة لأن التقليد دائما يعبر عن حالة مرضية و أما الأمر الصحي في التواصل بين الشعوب فهو التمثل ، الذي يعني الاغتناء بتجربة شعب ما و هضمها بشكل صحي ثم إنتاج تجربة جديدة في الحياة و الفن و الإنتاج . و هذا الأمر لم يحدث عند امتنا حتى هذه الساعة مما أدى إلى حدوث هذه الكوارث و المهازل التي نعيشها،. مهازل نصفها شبيه بحكاية حفرة الملقن ، و النصف الآخر ينتمي لسياق معاكس للسياق السابق لكنه مساو له بالقيمة و النتيجة هو سياق نسخ الماضي و التوهم بإمكانية تكراره اليوم و لهذا حديث آخر .
ها نحن اليوم في بداية القرن الواحد و العشرون ندرك بجلاء أن طريق الغرب غير متاح لنا . لقد انهارت الطبقة الوسطى بفعل الأزمة الرأسمالية المتفاقمة و هذا ما يدفعها على مزيد من نهب شعوب العالم الثالث الأمر الذي لا يترك فتاتاً تنشأ عليه طبقة وسطى في العالم الثالث .
لقد انهارت الطبقة الوسطى و انهار معها مشروع النهوض بالمجتمع و تطويره عن طريق تقليد الغرب و المزيد من الاندماج بالنظام الرأسمالي القائم . و رغم أن المسرح ينتمي إلى البناء الثقافي الفوقي الذي يمتلك استقلالية نسبية عن التغيرات الاجتماعية إلا أنه كان شديد الحساسية لما جرى فانهار مع انهيار الطبقة الحاملة له . و هذا بداية حديث الأزمة و له تتمة .

تأثير هزيمة 1967 على المسرح العربي :
يمكن تقسيم تاريخ امتنا في القرن العشرين إلى ما قبل هزيمة 1967 و ما بعدها . لقد قصمت هذه الهزيمة ظهر المشروع النهضوي العربي الذي تبلور في بداية ذلك القرن .
و على هول الكارثة أحس المسرحيون العرب بأزمتهم المتمثلة بعدم قدرتهم على إنتاج إبداع يعبر عن كارثة الهزيمة . إن مبدعي ذلك الزمان كانوا يمورون حيوية و رغبة بتغيير الواقع للخروج من واقع الهزيمة ، حيث لم تكن تنظيرات ما بعد الحداثة ، التي تعزل المبدع عن الحياة و المجتمع و تحول الإبداع إلى عمل بذاته و لذاته ، دون أية علاقة بالواقع و دون أية أحلام بالتغيير أو بلعب دور ما في المجتمع . لم تكن هذه التنظيرات قد اخترقت عقول المثقفين كما هو حاصل اليوم !!
بدأت الدعوات للخروج من وضعية الأزمة ، التي أحس المبدعون أنهم واقعون بها ، و من أعراضها : انعدام التواصل مع الجمهور و فقدان الفعالية الاجتماعية . فنشأت دعوات لتغيير شكل العرض المسرحي من أجل الوصول إلى عرض جماهيري يعيد تواصل المبدع مع الجمهور . يقول الدكتور علي الراعي راصدا تلك الدعوات :
(( في مصر قام يوسف إدريس بالدعوة للإفادة من مسرح السامر ، ثم من بعده توفيق الحكيم الذي تجاوز مسرح السامر إلى ما هو أوسع منه ، مسرح الراوية و المقلد ، و في المغرب نبه عبد الله السنوفي إلى أهمية مسرح الحلقة في تراث المغرب الأدبي . و أيضا في المغرب دعا الطيب الصديقي إلى إنشاء مسرح وطني يعتمد على فنون العرض جميعاً ( المسرح الكامل ) كما دعا إلى نقل هذا الحدث من القاعات الضيقة إلى الشوارع و الميادين ، أو نقل تكنيك فن الشوارع إلى بنية المسارح التقليدية . كما نبه الطاهر فيقة ، المسرحي التونسي ، شباب الممثلين أن يلتفتوا إلى القص العربي و يستنبطوا منه أشكالاً تخدم المسرح )) .
أما في سوريا فقد كانت الدعوة الأبرز للراحل سعد الله ونوس ، حيث دعا لمسرح منغمس في السياسة ، كما دعا إلى كسر الحاجز بين الصالة و الجمهور ، و حاول تطبيق ذلك في بعض عروضه المسرحية كما في عرض (( سهرة مع أبي خليل القباني )) .
لكن ماذا نتج عن هذه الدعوات ؟
في أحسن الأحوال تم إدخال الزار و الحلقات الصوفية و الاحتفالات الشعبية إلى خشبة المسرح ، كما رأينا قصص مأخوذة من ألف ليلة و ليلة على الخشبة . و كل ما سبق لم يفلح بإخراج المسرح من أزمته .
بعد ذلك جاء جيل من المسرحيين العرب أقل أحلاماً و أدنى طموحاً ، فقد قرروا أنهم غير معنيين بأفكار تغيير الكون و أن مشاكل المجتمع لا تهمهم ، فانحدر النقاش حول أزمة المسرح إلى مستوى فكري أقل . صار النقاش ينحصر حول المسائل التقنية البحتة ، مثل إشكالية الفصحى و العامية ، و مسرح ملتزم أم تجاري ، أو نقاش حول تدريب الممثل ، حتى وصل الأمر إلى تحميل الجمهور الأمي بصرياً مسؤولية أزمة المسرح . و كان هذا الفصل الأخير في الأزمة التي فجرتها هزيمة حزيران ، أزمة علاقة النخب الجماهير . فقد استقرت النخب أخيرا على لعن الجماهير الجاهلة الأمية التي لا تقوم بما هو لازم من اجل تغيير الواقع !!
أما على الصعيد العالمي فقد كانت هناك أزمة أخرى انفجرت بشكل مواز و لأسباب أخرى . نزل الطلاب إلى الشوارع في فرنسا ثم تبعهم طلاب أوربا مفجرين ما اصطلح على تسميته بثورة الطلاب عام ،1968 و التي قامت في ذروة ازدهار أوربا الغربية الاقتصادي بعد مشروع إعادة الإعمار ( مارشال ) بعد الحرب العالمية الثانية . كان الرخاء الاقتصادي يمتد إلى كافة مناحي الحياة لكن على حساب العلاقات الإنسانية مؤديا إلى مزيد من الاستلاب و الاغتراب ، لهذا رفض الطلاب طريقة الحياة التي تسلع كل شيء و تجفف منابع الإنسانية في العلاقات بين البشر و بين الشعوب . لقد كانت ثورة الطلاب تعبيراً مبكرا عن إفلاس الرأسمالية العالمية إنسانياً وروحياً .
حاول الطلاب المنتفضون صياغة عالم جديد فامتدت آثار ثورتهم إلى كل الأشكال الفنية و منها المسرح . يقول جيم هند رائد إحدى محاولات التجديد بعد ثورة الطلاب :
(( إن فرقته تؤمن بالارتجال و الالتحام مع المتفرج و الناس و البيئة . إنه ينظر إلى عمله في المسرح على أنه تجربة عملية في المقام الأول ، ليس الهدف مجرد إنتاج أعمال مسرحية ، و لكنه تحقيق اتصال بين الناس ، بعد أن قطعت النظم الاقتصادية و الاجتماعية هذا الاتصال )) *
(( و كذا تحقق لهينز ما أراد من جعل الفن المسرحي أكبر من قاعة العرض ، و من ربط الفن بواقع الحياة ، بحيث يصبح الإيهام ملغياً أو لا دور له في الواقع ، و بحيث يدخل المتفرج من أبواب المسرح إلى أبواب الحياة ، و بالعكس ، فلا يجد غضاضة و لا يبذل جهدا ))
ربط هينز و أمثاله بين ما يدور في مسرح الارتجال من تجارب ، و بين تجارب الفنون الأخرى و خاصة في الموسيقا . حيث قام البيتلز بتجديد الموسيقى و ربطها بالناس من جديد بعد أن احتواها الفكر البرجوازي داخل حفلات في صالات متحجرة أو في اسطوانات . لقد حقق البيتلز ثورة بكل المعاني فقد استطاعوا تناول كل المواضيع اليومية و عبروا عن روح الشباب في ذلك الوقت .
و هكذا نرى أن انفجار أزمة المسرح العربي بسبب أزمة حزيران ترافق مع أزمة عالمية في أشكال التعبير الفنية و محاولة الخروج إلى أشكال تحقق تواصل أكبر بين المبدع و المتلقي . و هذا يعني في المسرح تمردا على الشكل الرسمي للمسرح (( العلبة الإيطالية )). و بالتالي فإن ازمة المسرح ليست خاصة بالواقع العربي إنما هي أزمة كونية غنما لها سياقات عربية خاصة
في الخاتمة ، إن لكل زمان شكله الإبداعي الخاص . و هذا لا يعني إلغاء الأشكال الأخرى للإبداع لكن كأشكال أقل جماهيرية و هذا لا ينتقص من قيمتها بل لعل التحرر من شرط الجماهيرية يفتح آفاقاً واسعة للتعبير و التجريب . و هذه نقطة هامة جدا يجب تذكرها أثناء الحديث عن أزمة المسرح العربي كي لا ننزلق إلى أفكار غير تاريخية .
إن جزءاً من أزمة المسرح هو موضوعي و يتصل بالحديث الذي ذكرناه ، فهناك استحالة لعودته كشكل جماهيري بوجود السينما و التلفزيون . على العاملين في مجال المسرح أن يضعوا هذه النقطة نصب أعينهم . لن يعود المسرح شكلاً جماهيريا كما كان أيام الثورة الفرنسية إلا إذا قمنا بإلغاء السينما و التلفزيون !!!
إن هذا الأمر يضع أزمة المسرح في سياقها التاريخي . فإذا أعدنا ترتيب النقط السابقة نجد أن المسرح العربي مأزوم و يتجلى ذلك بعزوف الجمهور و تراجع الفعالية الاجتماعية ، يترافق ذلك مع أزمة عالمية للمسرح و للإبداع بشكل عام . و بالتالي فإن أزمة المسرح العربي هي جزء من أزمة الفن الشاملة في عالم تحكمه الرأسمالية و لا تمجد سوى قيم الربح و المال . عالم يعاني من إفلاس روحي . يضاف إلى ذلك عوامل الأزمة المحلية من انهيار الطبقة الوسطى المتغربة و انكسار مشروعها الحضاري القائم على تقليد الغرب و الذي تم استيراد العلبة الإيطالية في سياقه .
كيف الخروج من هذه الأزمة ؟
يجب إعادة تعريف المسرح للخروج من التعريف الجامد الذي يحصره بالعلبة الإيطالية . يمكن الاستفادة من أشكال العرض الشعبية الأصيلة ، كالمرتجل و خيال الظل لا بتكرارها لأن التكرار مكانه المتاحف بل بإدراك الجوهري في هذه العروض ، و هو التواصل المباشر غير المقيد مع المتلقي و إمكانية التفاعل المستمر و المباشر بين الجمهور و المبدع مما يجعل الجمهور مبدعاً أيضاً . إن ما يميز المسرح عن بقية الأشكال الإبداعية هو هذا الأمر تحديداً لذلك يجب الاستفادة منه إلى الحدود القصوى . أما كيف يتم ذلك فتلك وظيفة المبدعين كتاباً و ممثلين . و هو أمر يحتمل ما لا يحصى من الإجابات . كما أن على العاملين في مجال المسرح الاستفادة من التطور التقني و عدم التردد بإدخاله إلى العرض المسرحي مثل استخدام الأفلام الوثائقية أو الشرائط السينمائية المسجلة أو السلايد داخل بنية العرض المسرحي . و من المفيد في هذا المجال التأمل العميق لتجربة الفن الروائي . لقد استطاع هذا الفن أن يحافظ على موقع له رغم التطورات التقنية العاصفة و ذلك من عبر استفادته منها ، مثلاً بإدخال تقنية المونتاج لكسر الزمن ، فاحتفظ بمساحة خاصة من الصعب على أي فن أن يزاحمه عليها .
كما أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا و لو للحظة أننا نعيش في عالم تحكمه علاقات رأسمالية متوحشة سلعت كل شيء و لا تكترث إلا بالربح و تعظيم الثروات دون أن تقيم وزنا للإنسان أو مشاعره أو إبداعاته . و بالتالي فإن كل محاولات تجديد الفنون و النهوض بها يجب أن تترافق مع مشروع علاقات إنسانية جديدة و السعي نحو إقامة عالم لا تحكمه الرأسمالية و لا علاقات الربح و الاستهلاك .
هذه هي بعض النقاط التي أجدها هامة عند الحديث عن أزمة المسرح العربي .


* لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور علي الراعي (( مسرح الشعب ))

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية