ـ 1 ـ
إذا حقق العمل الفني قصة قصيرة أو رواية أو غيرها من الأعمال شروط إبداعه الفني ، الذي يجعل منه عملا مؤثرا وأثرا خالدا ، فإنه يمكن الحديث عن شعرية بدايته أو استهلاله أو افتتاحيته ، فإذا بدأ الكاتب عمله ببداية صحيحة أو موفقة فيعني هذا أننا أمام عمل يستحق القراءة .
يرى صبري حافظ أن "البداية عادة ما تكون أصعب أجزاء العمل ، وأنها تستنفذ جهدا يفوق ما يبذل في أي جزء مساو لها من حيث الحجم ، وتستغرق أكثر من غيرها من حيث التفكير والتنفيذ على السواء " (1) ومع ذلك لابد من الحذر لأن البداية يمكن أن تكون " الباب الذي ندلف منه إلى عالم النص الرحب ولكن من الممكن في الوقت نفسه أن تصبح الجدار الذي يصرفنا عن الدخول إلى هذا العالم ويصدنا عن محاولة الولوج إلى ما وراء حائط البداية الأصم " (2) غير أن جذب القارئ إلى داخل العمل القصصي هو أهم وظائف لبداية ، أو على الأقل الوظيفة الأولى لها ، يقول الناقد ديفيد لودج : " مهما يكن التعريف الذي يضعه المرء لبداية رواية ما ، فإنها تمثل عتبة تفصل العالم الواقعي الذي نعيش فيه عن العالم الذي يصوره الروائي ، وعلى ذلك فإنها ينبغي ـ كما يجدر لبقول ـ أن تجذب القارئ إلى داخلها "(3) . وإذا كانت البداية في الرواية يمكن أن تأخذ مقطعا كبيرا أو فقرة طويلة ، بل ربما تأخذ فصلا كاملا ، فكيف يكون حجمها في قصة قصيرة لا تتجاوز صفحة واحدة أو عدة صفحات؟ إنها في حالة القصة القصيرة ستكون قصيرة بالطبع ، ربما لا تتجاوز جملة واحدة أو عدة جمل وبناء عليه يمكن تحديد لبداية في القصة القصيرة بأنها جملة أو عدة جمل . وقد رأى الناقد ياسين النصير أن الجملة الاستهلالية في القصة القصيرة "أشبه ما تكون بالبيضة المخصبة التي ستكون جنينا "(4) ففي جملة البداية يمكن استبصار مكونات القصة القصيرة وإدراك مغزاها . وقد أجمل الناقد الوظائف الأساسية لجملة البداية أو ما أسماه بالجملة الاستهلالية في النقاط التالية:
" 1 ـ ثمة وضع موشك على الانهيار يراد صياغته .
2 ـ استحضار بطل كفء .
3 ـ صياغة أسلوبية مبهمة غامضة إحالية منفتحة .
4 ـ الجملة الخبرية متعدية وغير لازمة .
5 ـ كل المفردات الواردة ستولد مفردات ومشتقات جديدة داخل النص .
6 ـ لها علاقة بنائية بالمتن من خلال حسن التخلص والانسياب .
7 ـ لها علاقة ممهدة بالنهاية حيث اختتام الخلق التكويني " (5) .
وفي معرض التمييز بين بداية القصيرة وبداية الرواية ، رأى صبري حافظ أن لبداية القصة القصيرة " طبيعة حاكمة من حيث علاقتها العضوية بالعمل ككل ولديها وسائلها الخاصة في التغلغل في ثنايا نسيجه الدقيق "(6) ويفق صدوق نور الدين مع صبري حافظ وياسين النصير في أن للقصة القصيرة بداية واحدة " منها يتسنى الدخول إلى فحوى النص لإدراك طريقة بنائه ومعناه الكامن فيه "(7) إذن يمكن القول أن البداية في القصة القصيرة جملة استهلالية أو عدة جمل يمكن من خلالها الدخول إلى فحوى النص وإدراك طريقة بنائه وكذلك معناه الكامن فيه .
وجملة البداية بوصفها جزءا أساسيا في بناء القصة القصيرة ومكونا بنائيا في تركيب العمل ، يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة عبر علاقتها بأجزاء العمل ومكوناته ، فمن حيث اللغة يمكن أن تكون جملة البداية اسمية أو فعلية ، لازمة أو متعدية ، ومن حيث طبيعة السرد يمكن أن تكون جملة سردية أو جملة وصفية , ومن حيث علاقتها ببناء الحدث في القصة يمكن أن تكون البداية قبلية أو بعدية أو وسطية .
وسنحاول في الجدول التالي حصر نماذج البدايات في القصة القصيرة ، وهي محاولة أولية قابلة للتطوير تعتمد على استقراء البدايات في نماذج القصة القصيرة في الأدب العربي عامة .
بداية اسمية
بداية وصفية
بداية قبلية
بداية تعتمد ضمير المتكلم بداية تعتمد السرد الذاتي بداية فعلية
بداية سردية
بداية بعدية
بداية تعتمد ضمير الغائب
بداية تعتمد السرد الموضوعي
بداية وسطية
بداية تعتمد ضمير المخاطب




ـ 2 ـ

عندما قرأت قصص كل من الأستاذين محمد كمال محمد وفكري داود لاحظت مدى التشابه بين الكاتبين ، حيث تكثر أوجه التشابه بينهما بالرغم من اختلاف التجربة والخبرة الفنية والسن ، وبقطع النظر عن هذه الاختلافات ، فإن ما يجمع بين الكاتبين في قصصهما (قصص هاتين المجموعتين موضوع الدراسة عصف الرياح وصغير في شبك الغنم) الاحتفاء بعالم المهمشين من الشخصيات وسيطرة تيمة الغربة والاغتراب على معظم القصص ، والميل إلى التكثيف والإيجاز على مستوى اللغة والأحداث والشخصيات ، ثم أخيرا اشتراك الكاتبين ـ ولعله الأبرز في أوجه التشابه بينهما ـ فيما يسمى بالقصة / اللوحة ، فيندرج تحت هذا النوع من القصة معظم قصص مجموعة "صغير في شبك الغنم" لفكري داود فيما عدا (نبات الإفك ـ أولياء ومريدون ـ من حكايات العم زيدان ـ تنويع على ما حدث ) أما عند الأستاذ محمد كمال محمد فكل قصص المجموعة عدا القصص الطويلة التي نلمح فيها نفسه الروائي المتميز مثل ( الصغيران والسرداب ـ عصف الرياح ـ حجرة قديمة في فندق حديث ـ الزمن الآخر ) فالقصة اللوحة نوع قار في أدب محمد كمال محمد عامة وفي هذه المجموعة خاصة وهو قار أيضا في مجموعة فكري داود وسنقف في هذه الدراسة عند نماذج من هذه القصص لدى الكاتبين من خلال الوقوف عند تقنية البداية القصصية ، غير أنه لابد قبل التحليل من توضيح المقصود بالقصة / اللوحة .
لا نقصد بالقصة / اللوحة ذلك الشكل البدائي للقصة القصيرة الذي يقوم على وصف مكان أو مشهد أو شخص أو شيء من هذا القبيل كما كنا نقرأ في بعض أعمال يحي حقي والمازني قديما ، إنما المقصود بالقصة / اللوحة هنا تلك القصة القصيرة المكتملة العناصر ، بيد أن ما يميزها هو تجميد الزمن عند لحظة مهمة ثم تعميق هذه اللحظة من خلال رسم في المكان وشحن الكلمات بطاقة مضيئة تسمح برؤية الأبعاد الزمنية السابقة واللاحقة . وكان الدكتور خيري دومة في دراسته "تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960 ـ 1990 " قد أشار إلى وجود هذا النوع من القص لدى محمد كمال محمد في مجموعاته القصصية : البحيرة الوردية وحصان في نهر وسقوط لحظة من الزمان ، دون أن يتوقف بالتحليل عند أية قصة منها ، غير أن ما يهمنا هنا تحديده الدقيق لشكل القصة / اللوحة ، إذ يقول :" ليست القصة / اللوحة بهذا المعنى مجرد وصف أو تصوير ثابت بل إن الحدث والصراع الدرامي جزء جوهري كامن وفعال في هذا الوصف ؛ ومن ثم فإن الزمن جزء لا يتجزأ منه ، مع أن النص يتخلص من الحبكة الزمنية التقليدية ، إنها الدرامية التي تزيد في صفاء القصة القصيرة وتجعلها مضادة للأحدوثة والزمن الخطي "(8)
في قصة "انسحاب" لمحمد كمال محمد يعتمد الكاتب ضمير الغائب من خلال رؤية سردية ذاتية ، فيكاد يتوحد الراوي والبطل معا ، حيث يصحو البطل عند الفجر متعجبا كيف صحا في هذا الوقت ، حيث العادة أن يكون نائما إلى وقت الضحى ، ومن مكانه في الفراش وعبر النظر إلى الشرفة يراقب البطل العالم الداخلي والعالم الخارجي معا ، فيتداخل الماضي مع الحاضر لرجل عجوز فقد زوجته وانعزل عن الأصدقاء والأصحاب ، يجلس وحيدا في بيته ، والآن يشعر أنه على وشك الانسحاب من هذا العالم الذي لم يعد يريده ، فهل يكون هذا نهاره الأخير ؟ لذلك لم يستجب لطرقات صبي المشتل الذي تعود أن يأتي له بالجريدة كل صباح " حاول النهوض خائفا أن تأتي النهاية جالسا على المقعد هكذا .. لابد أن ينهض .. ارتمى في فراشه ، ينتظر .. تلاشى طرق الصبي .. عزيزة الدنيا .. غالية .ز. هل يستطيع أن يمتلك لحظة من الزمن . ليذرف دمعة "(9)
في هذه القصة / اللوحة يرسم لنا الكاتب بريشته القلمية في مشهد محدد محصور بمكان هو غرفة النوم وزمان من مطلع الفجر إلى الضحى اللحظات الأخيرة لشخص على وشك الموت ، ولأن الرسم فن حكائي سنجد هنا تجاور الحدث مع الوصف ، وقد أشارت البداية القصصية لهذا البناء المعتمد على التجاور ، فتبدأ بالسرد يتبعها الوصف ، تبدأ القصة على النحو التالي :" صحا عند الفجر المنسرب واهنا ، من خصاص الشرفة الواهنة .. تعجب كيف صحا "(10)
تبدأ البداية بالفعل (صحا) ويحدد الزمن بوقت الفجر ثم نجد وصفا للفجر هو "المنسرب" أما وصف الشخصية فنجده في كلمة "واهنا " وإن كان الوصفين في رأيي ينطبقان على الشخصية أيضا ، وفي الجملة الثانية يتقدم الوصف على السرد " من خصاص الشرفة تعجب كيف صحا " حيث يصف الشرفة بأنها واهنة ، وهو وصف يمكن أن ينطبق أيضا على الشخصية كما تشير الأحداث أو قل كما تشير النهاية ، نهاية القصة .
إذن تجاور السرد مع الوصف في جملة البداية سيفرض بنية القصة إذ تسير الأحداث فيما بعد إلى نهاية القصة هذه الوتيرة جملة سردية تتبعها جملة وصفية وهكذا حيث يبرز فحوى النص الذي جاء ملائما للأحداث . وأقف عند نموذج آخر لمحمد كمال محمد وهو قصة "انتظار" ونظرا لصغر حجم هذه القصة أوردها هنا كاملة :
" كنت أرقب العجوز يقف محني الظهر ، مستندا إلى القائم الحديدي جوار مقاعد الانتظار في محطة الأتوبيس .. نحيلا .. يخفض رأسه بنظرة منطفئة ، خلا مقعد بجواري فناديته ليجلس .. وكان يرفع رأسه متجها بنظرته القاصرة ، نحو أتوبيس قادم ويسأل :
ـ كم الرقم ؟
أجبته فقال :
ـ هذا هو
نهض متهافت الجسد .. قلت :
ـ لقد امتلأ بالركاب .. انتظر .. سيجيء غيره
عاد يجلس مهمهما يشكو تزاحم الناس !
قلت له :
ـ أنا أيضا سأركب نفس الأتوبيس
تعلقت نظرته بوجهي في ارتياح تقول " ستساعدني إذن"
أكدت له :
ـ سنركب معا ..
هز رأسه راضيا
قدم أتوبيس آخر وتوقف بعيدا ..
لم يسألني الرجل هذه المرة ، كان مطمئنا إلى مساعدتي ..
نهضت في عجلة :
ـ أنه هو !
هرولت نحو الأتوبيس ، وانزلقت بين الصاعدين لألحق مقعدا .. وكان الرجل يقف على الرصيف منحنيا .. يلاحق الأتوبيس المغادر بنظرة أوجعتني "(11)
في هذه القصة القصيرة جدا ، يضع الكاتب بين أيدينا لوحة مشهدية يتوازن فيها الوصف والسرد ، حيث يتم الحدث في دقائق معدودة ، الراوي يراقب عجوزا ينظر أتوبيسا في المحطة ، يدعوه إلى الجلوس في المقعد الخالي المجاور له ، ومن خلال حوار موجز مكثف يتم الاتفاق ضمنا على مساعدة الراوي للعجوز على ركوب الأتوبيس وعندما يأتي ينسى الراوي العجوز ليعود العجوز ينتظر من جديد فإذا نظرنا إلى البداية التي يمكن تحديدها بالفقرة الأولى في القصة فنجدها تبدأ بفعل الكينونة وخبرها الفعل أرقب ، ثم الفعل "أقف" فالراوي يرقب والعجوز يقف ، أي أنها تبدأ بداية سردية ، يلي هذا السرد مباشرة وصف العجوز : محني الظهر مستندا إلى القائم الحديدي جوار مقاعد الانتظار في محطة الأتوبيس نحيلا كالعصا، يخفض رأسه بنظرة منطفئة "
إن التركيز الوصفي هنا يركز على العجوز ، فهو محني الظهر ، يقف مستندا نحيل مثل عصا ، خافض الرأس ، نظرة عينيه منطفئة ، إنها رؤية السارد للعجوز ، وهو وصف حيادي لا نجد فيه تعاطفا من الراوي نحو العجوز ، إن هذا الوصف الحيادي يتفق ونهاية القصة عندما ينسى الراوي مساعدة العجوز ليتركه يعاني الانتظار من جديد ، إن بداية القصة هنا متسقة تماما مع النهاية ، فهي تبدأ بالانتظار وتنتهي به أيضا دون افتعال .فانطفاء نظرة العجوز واقتصار فعل الراوي عند حد المراقبة فقط في بداية القصة يشيران إلى هذه النهاية ، فهذا المراقب لن يقوم بفعل إيجابي نحو العجوز ، وهذه النظرة المنطفئة تشي بالفشل وعدم القدرة على الإنجاز ، لذلك كان الانتظار .
سأكتفي بهذين النموذجين للأديب محمد كمال محمد وانتقل الآن إلى نموذجين للأديب فكري داود .
يمكن أن نميز شيئا أخر في قصص فكري داود في تلك المجموعة إلى جانب قصة اللوحة ، ألا وهو وحدة الراوي في معظم قصص المجموعة ، خاصة القسم الأول ، بل أن الشخصيات تتكرر أيضا ويسمي النقاد هذا النوع من القصص بقصص الحلقات القصصية ، فكل قصة تمثل حلقة متداخلة مع القصة التي تليها ، فثمة ترابط بين هذه القصص ، لكن في الوقت ذاته لا يمنع ذلك من تكون كل قصة منفصلة وذات بناء محدد قد يختلف أو يتفق مع القصص الأخرى .
في قصة " صغير في شبك الغنم " نجد لوحة قصصية يغلب عليها الوصف المشهدي الثابت لحدث محدد هو ما حدث لقرد صغير محبوس في قفص حديدي تراه جماعة القرود وهو ينتحر داخل القفص بعد أن يأس من الانطلاق ، ولم ينتبه لذلك الراوي ورفاقه إلا متأخرا لأنه كان مشغولا بذكر ما قبل الحدث الرئيسي وهو صراع سعود الذي قام بحبس القرد مع جماعة القرود ، كيف أراد أن ينتقم منهم ، لأنهم سبق أن خطفوا خروفا منه منذ أسبوع مضى إن الراوي في هذه القصة يقف خارج المشهد ويصف لنا كل شيء بدقة ، فالوصف هو الأسلوب المهيمن على القصة ، على حين يتراجع الحدث إلى الخلفية ، ثم يكون التعليق الأخير للراوي من خلال ضمير المتكلم الجمع :
"اقتربت أقدامنا
غرزنا نظراتنا في عينيه الجاحظتين ، أبصرنا بداخلهما حلما ساكنا ، وقمما عالية تسكنها العشيرة وأرضا مفتوحة خلف جبال ممتدة " (12)
في هذا التعليق من الراوي إشارة واضحة إلى بداية القصة ، إنها الحرية الموعودة ، الحلم الساكن في العينين الجاحظتين والتوق إلى الانطلاق في الأرض المفتوحة خلف الجبل والاتصال قبل ذلك بالأهل والعشيرة
لقد بدأت القصة بما يؤدي إلى وأد هذا الحلم ، إنه الوصف الدقيق لشبك الغنم ، الذي يمثل الشيء ونقيضه ، إنه مكان الحفاظ على الغنم ومكان السجن والموت للقرد الصغير .
يميل فكري داود على عكس الأستاذ محمد كمال محمد إلى البدايات الطويلة بعض الشيء فالبداية عنده قد تمتد إلى أكثر من فقرة ، وليس جملة واحدة أو جملتين فالبداية في القصة تأخذ السطور الخمسة الأولى منها :
ـ " قفصان متسعان اتساع حجرتين كبيرتين في ارتفاع قامة رجل طويل ، ظهريهما الجدار الجانبي لدار مسعود .. تصنع جدرانها والسقف أعمدة حديدية رئيسية ، تتقاطع فيما بينها أسياخ رفيعة رأسيا وأفقيا ، فتصنع عددا هائلا من مربعات صغيرة لا تحرر يد طفل صغير "(13)
في هذه البداية وصف للقفص أو الشبك الذي يحبس فيه القرد الصغير وإشارة واضحة لمن يقوم بهذا الفعل وهو مسعود ، وإشارة أيضا وإن كانت من بعيد لمن بقع عليه الفعل أي القرد الصغير من خلال جملة " لا تمرر يد طفل صغير " كما أن هناك إشارة لقسوة هذا الفعل تتمثل كلمات الجدار وأعمدة حديدية وأسياخ رفيعة رأسيا وأفقيا ، فالجدار رمز العزلة والحديد رمز القوة والبأس والأسياخ الرقيقة للنخس أو الضرب أو غيرها من مظاهر العقاب والشدة . إذن في مفردات هذا الوصف كل ما يشير إلى ما يقع على القرد الصغير "وإذا بجثة صغيرة معلقة من العنق في حبل كان متدليا من سقف الشبك "(14)
هل كان يجب على الكاتب أن يشير في وصفه الدقيق إلى هذا الحبل المتدلي من السقف ؟ نعم وإلا كان الأوفق أن نجد جثة الفرد محشورة بين أسياخ الحديد مثلا . على أية حال لقد جاءت النهاية متفقة ـ على الرغم من ذلك ـ مع بداية القصة أيا كانت طريقة موت القرد الصغير ، إذ جاءت الأسياخ القاسية والجدران العازلة والسقف الحديدي لتئد حرية كائن حي ـ يعادل الكائن البشري ـ ورغبته في الحياة والعيش في سلام مع أهله وعشيرته .
وتكاد البداية الوصفية تستأثر بمعظم قصص فكري داود كما في قصص ( في حضن جبل متعدد الرؤوس ـ عرس ـ طلعة برية ـ رحيل ) وغيرها ،غير أن هناك بعض القصص تبدأ بداية سردية حيث يقوم فيها الوصف بدور محدد ، نرى ذلك في قصص ( صالحة وابن القرود ـ من أحاديث البر ـ طعم الفستق ـ مناوشات على وجه الصباح ) ومعظم قصص القسم الثاني وسنتوقف الآن عند بداية قصة " مناوشات على وجه الصباح "
تبدأ القصة على النحو التالي :
" كولمن يا حسين كولمن
الحق يا ولد الحق
ناولني طوب ناول " (15)
ثلاث جمل متوالية ، كلها جمل إنشائية ، الأولى خبرية غير أن معناها إنشائي فالمتحدث وهو صلاح يتعجب ويدهش لرؤية "الكولمن" الذي سنعرف بعد قليل أنه مع القرد يحمله على ظهره ، أما الجملتين التاليتين فهما طلبيتين يتكرر في كل منهما فعل الأمر غير الصريح ، حيث يحث ويحض المتكلم المخاطب على العقل . إن هذه البداية الصاخبة الدالة على الحركة والنشاط ستنعكس على أحداث القصة فيما بعد ، فنجد الراوي يشترك مع حسين وصلاح في مطاردة القرد للحصول على الكولمن المليء بالمياه ، فبعد مناوشات مع القرد ورميه بالحجارة دون جدوى ، يقترح حسين أن يلقوا رغيفا للقرد لصرفه عن المياه وإلهائه بالطعام ، فتنجح الحيلة ويتخلى عن الكولمن مستبدلا به الرغيف .
" تلقفت أصابعه الرغيف ، ثم راحت تقذف إلى أعلى وتعود لتتلقفه مرة بعد مرة ، وعينا القرد تتابعانه متعلقا به في ارتفاعه وفي هبوطه ، ثم وبأقصى قوة ليده قذف بالرغيف بعيدا كطبق طائر ، دارت دوراته سريعة سريعة . وفي مداره دارت كل العيون ، وعندما حط هناك على مرمى النظر ، تسابقت قفزات فردية نحوه بينما تخلت الذراعان عن الذي كانت تحتضن " (16) .
والمتأمل في هذه البداية يلاحظ سرعة الإيقاع السردي وقلة الوصف ، مما يتناسب والبداية السردية المتحركة التي أشرنا إليها في البدء .
وبعد فلا أعتقد أننا بهذه العجالة حول شعرية البداية في بعض نماذج الكاتبين محمد كمال محمد وفكري داود قد وفيناهما حقهما من الدرس النقدي ، كل ما نرجوه أن نكون قد وفقنا في إلقاء بعض الضوء حول أعمالهما ، ليكون ذلك بداية لدراسات أخرى يستحقها الكاتبان عن جدارة ، والله الموفق .



الهوامش : ـ

1_ صبري حافظ : البداية ووظيفتها في النص القصصي ، مجلة الكرمل ع 21 ، 22 ، الاتحاد العام للكتاب الصحفيين الفلسطينين ، نوقيسيا 1986 ، ص 141 …
2 _ صبري حافظ : المرجع نفسه ، ص 141 .
3 _ ديفيد لودج : الفن الروائي ، ترجمة ماهر البطوطي ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2002 ، ص9 .
4 _ ياسين النصير : الاستهلال، فن البدايات في النص الأدبي ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 1998 ، ص 230 .
5 _ ياسين النصير : المرجع نفسه ، ص231 .
6 _ صبري حافظ : مرجع سابق ، ص 146 ..
7 _ صدوق نور الدين : البداية في النص الأدبي ، دار الحوار ، سوريا 1994 ، ص 17 .
8 _ خيري دومة : "تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960 ـ 1990 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1998 ، ص 213 .
9 _ محمد كمال محمد : عصف الرياح ، مكتبة النيل للطبع والنشر ، القاهرة 2003 ، ص13 .
10 _ محمد كمال محمد : المصدر نفسه ، ص 12 .
11 _ محمد كمال محمد : المصدر نفسه ، ص 61 .
12 _ فكـرى داود : صغير في شبك الغنم ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، إصدارات الرواد العدد 71 ، دمياط 2001 ، ص 23 .
13 _ فكري داود : المصدر نفسه ، ص 20 .
14 _ فكري داود : المصدر نفسه ، ص 23 .
15 _فكري داود : المصدر نفسه ، ص 37 .
16 _ فكري داود : المصدر نفسه ، ص 41 .
كاتب مصري
ليسانس آداب – قسم اللغة العربية- كلية الآداب /جامعة الزقازيق/مايو 1985م. ماجستير في الآداب كلية الآداب - لغة عربية - /جامعة الزقازيق/مايو 1991م. دكتوراه في الآداب – تخصص الأدب الحديث - كلية الآداب / جامعة المنصورة 2001م. له مجموعة من المؤلفات الأدبية والأكاديمية منها: لن أقلع عن هذه العادة (مجموعة قصصية)، شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم (دراسة أدبية)، الفن القصصي عند فاروق خورشيد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية