وميل جيبسون الكاثوليكي المتدين الذي أنفق خمسة وعشرين مليونا من الدولارات مساهمة في إنتاج الفيلم لا يقف وحده فهناك مؤسسات مسيحية أخرى تشاركه موقفه، فمثلا القس تيد هاغارد رئيس الجمعية الوطنية الإنجيلية يصف الفيلم بأنه "استثنائي"، مؤكدا أنه أول فيلم "يرسم حياة المسيح بهذه الأصالة" بينما اعتبر دين هادسون مدير مجلة "كريستو" الكاثوليكية أنه "سيصبح فيلما كلاسيكيا، مرجعا للمسيحيين وجميع المؤمنين"، وبطبيعة الحال هذا متغير جديد في النظرة للأعمال الفنية، ويمكن أن نضع في السياق نفسه فيلم مايكل مور "فهرنهايت 9 – 11".
وتشهد ألمانيا حاليا جدلا مماثلا أحدثه فيلم عن حياة الزعيم النازي يعرض قريبا، الفيلم الذي يعرض منتصف هذا الشهر اسمه "الأفول" ويتناول الأيام الأخيرة في حياة هتلر قبل انتحاره وهو مأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه للمؤرخ الألماني يواخيم فيست وكذلك عن مذكرات تروادل يونغه سكرتيرة هتلر.
وحسب تقرير لراديو ألمانيا فإن الفيلم الذي تكلف إنتاجه ثلاثة عشر مليونا ونصف المليون يورو، تدور أحداثه في برلين المدمرة بعد حسم المعركة بخسارة الألمان بينما هتلر يعيش أوهاما خرافية ويتصور نفسه ما زال زعيما فيضع خططا عسكرية لن يستطيع جنوده المثخنون ولا جنرالاته البائسون تنفيذها. وهو ينطق أوامره بلهجة لا تخلو من ارتباك ويرسل فرقا عسكرية كانت قد أبيدت بالفعل إلى مواقع من المستحيل أن يصلوا إليها. حتى إذا هزمته الحقيقة في الثلاثين من إبريل 1945 انتحر!!
ورغم أن أحداث الفيلم تغطي اثني عشر يوما سبقت الانتحار فإنه عبر أحداثه يستعيد اثني عشر عاما من الحكم النازي. وقد بدأت الضجة حول الفيلم بتصريح للنجم السويسري برونو غانتس الذي يجسد شخصية هتلر قال فيه إنه في أجزاء من الفيلم شعر بالإشفاق على هتلر.
من ناحية أخرى يأتي الفيلم في سياق جدل في ألماني حول مغزى بعض الوقائع في الحقبة النازية، ففي الذكرى الستين لأكبر محاولة لاغتيال هتلر (20 يوليو 1944) بقيادة العقيد كلاوس شتاوفينبرغ قامت الدولة لأول مرة بإحياء الذكرى رسميا، وهو الاحتفال الذي سبقه للمرة الأولى أيضا حضور المستشار الألماني جيرهارد شرودر مع الحلفاء بذكرى الإنزال في شاطئ نورماندي الذي كان بداية النهاية للنظام النازي. فالحكومات الألمانية السابقة وبخاصة حكومة هيلموت كول كانت تصر على اعتباره "يوما لهزيمة ألمانيا وسقوط آلاف الضحايا الألمان".
وفي إطار هذه التحولات تحدث الرئيس الألماني هورست كولر للمرة الأولى عن الضباط الذين اشتركوا في المحاولة وأعدموا بعد فشلها بأنهم: "أبطال مقاومة من الذين كرسوا حياتهم لخدمة مستقبل الوطن"، ووصف يوم محاولة اغتيال هتلر بأنه "يوم ساطع في تاريخ المقاومة الألمانية ضد الرايخ الثالث"، ولكي ندرك دلالة هذا التحول يكفي أن نعرف أن الألمان الذين هربوا من الخدمة في جيش النازي كانوا يعتبرون طوال الأعوام الستين الماضية "خونة".
وفي حقيقة الأمر فإن الضجة حول الفيلم سببها الحساسيات التاريخية المحيطة بقضية الهوية بالنسبة لأمة شكلت القومية رافدا من أهم روافد هويتها الوطنية، كما كتب التطرف القومي الصفحات الأسوأ في تاريخها، والفيلم على ما يبدو محاولة لرسم صورة إنسانية لهتلر، فرغم كل ما ارتكب من جرائم يظل إنسانا فيه الخير والشر، وقد كان ما سهل له ارتكاب أبشع الجرائم في حق مواطنيه والعالم أنه كان ينزع خصومه من سياقهم الإنساني ويعاملهم كشياطين ومن ثم يسهل عليه دون تأنيب ضمير أن يرتكب بحقهم أي جريمة. غير أن الصهيونية ارتكبت بحق النازي الجريمة نفسها وصورته شيطانا حتى تجعل تحميله المسئولية عن كل شرور العالم أمرا لا يقلق ضمير فاعليه، ومحاولة هذا الفيلم إلقاء شئ من الضوء على "هتلر الإنسان" هو سبب الضجة.
وتعيد هذه الضجة للذاكرة فصلا مماثلا من فصول الصراع على الهوية في ساحة الفن، فكما أن إنتاج فيلم سينمائي عن هتلر مأخوذ من كتاب منشور منذ فترة دون أن يكون الكتاب نفسه مثار ضجة كذلك كانت مسرحية مأخوذة عن رواية لجورج ستاينر، فالعمل الفني مقتبس عن رواية بالاسم نفسه لم يحدث صدورها ضجة كبيرة وأصبحت بتحولها إلى مسرحية تعرض على مسارح لندن حديث الناس.
الرواية كتبها الروائي اليهودي البريطانى جورج ستاينر الأستاذ بجامعتى كمبردج وجنيف, واسمها: (أ.هـ إلى كريستوبال) والحرفان : أ.هـ هما الحرفان الأولان من اسم أدولف هتلر, أما كريستوبال فهي مدينة برازيلية. وقد بنى ستاينر روايته على شائعة مفادها أن هتلر لم ينتحر بل هرب إلى أمريكا اللاتينية, وحسب خيال ستاينر فإن مجموعة من الصهاينة الإسرائيليين والأوروبيين وصلوا إلى مخبأ هتلر واختطفوه بعد قتل حارسيه ونقلوه إلى مدينة كريستوبال البرازيلية.
والمفاجأة ا لكبرى في الرواية ما أورده المؤلف على لسان هتلر في معرض دفاعه عن نفسه عند محاكمته, إذ قال ما نصه: "لم يكن الجنس المتفوق من بنات أحلام أدولف هتلر الذى كان يحلم باستعباد الشعوب الأدنى, أكاذيب.. أكاذيب.. لقد تعلمت قوتكم الخفية هناك.. تعاليمكم. أنت شعب مختار. شعب اختاره الله لنفسه".
ثم يقتبس هتلر من العهد القديم, ويشير خصوصا إلى بطولات يشوع بن نون, ويصف العهد القديم بأنه كتاب تفوح منه رائحة الدم, ثم يقول: "لقد تعلمت أن أى شعب يجب أن يكون مختارا حتى يحقق مصيره".
ثم بين هتلر أن ما فعله قوبل بترحيب أوروبي خفي ثم قال : "أنا لم أخلق القبح, ولم أكن أسوأ القبحاء.. كم عدد التعساء الذين قتلهم أصدقاؤكم البلجيك في الغابات؟.. عشرون مليونا, وهذه النزهة الخلوية كانت قد بدأت وأنا بعد صبي صغير. في لعبة الأرقام ليست أسوأ اللاعبين".
وأخطر ما أورده المؤلف على لسان هتلر حديثه عن كتاب "الدولة اليهودية" لتيودور هرتزل وعن الكيان الصهيونى إذ يقول: "هذا الكتاب الغريب المسمى (الدولة اليهودية) قرأته بعناية بالغة. إن كلماته جاءت من أعماق بسمارك.. إني أتفق معكم أنه كتاب ذكي صاغ الصهيونية على شاكلة الأمة الألمانية الجديدة. ولكن من خلق إسرائيل فى واقع الأمر: هرتزل أم أنا؟.. هل كان من الممكن أن تصبح فلسطين إسرائيل ودون مذبحة الإبادة التى قمت بها؟ إن مذبحتي هي التي أعطتكم شجاعة الظلم التي جعلتكم تطردون العربي من منزله وحقله, لأنه كان يقف فى طريقكم".
وفى ختام مرافعته يقول هتلر: "أيها السادة أعضاء المحكمة. لقد أخذت عقائدي منكم.. إن الرايخ الثالث هو الذى ولد اسرائيل.. هذه كلماتي الأخيرة".
وهكذا يثير الزعيم المهزوم المنتحر الجدل ميتا بعد أشعل حيا واحدة من أقسى الحروب في تاريخ البشرية!!