قراءة في مجموعة «حورية بني كنعان» لعلي محمد الغريب
لا يزال تعريف أرسطو للمسرحية من التعريفات الدقيقة الموجزة، حيث يرى أن «المسرحية هي القصة الممسرحة ذات الهدف، أي القصة التي ترمي إلى تقديم الحدث عن طريق الحركة، والتي تقدم هذا الحدث تقديماً فنيا خاصا، يستوعبه القارئ أو المتفرج ثم يخرج منه وقد حدث في نفسه شيء ما، هو ما يرمي إليه مؤلف المسرحية وما يهدف إليه من وراء كتابته». وما يزال اتجاه شباب الأدباء إلى كتابة فن المسرحية نادراً إذا ما قسناه كميا باتجاههم إلى كتابة شعر الفصحى أو القصة القصيرة والرواية، ولعل السبب في ذلك أن المسرحية فن صعب الكتابة، بالإضافة إلى أن النص المسرحي ـ حتى يقوم بدوره الفني المطلوب، وحتى يُؤدي الغاية منه ـ لا بد أن يقدم مسرحيا على خشبة المسرح، وهذا ما لا يتحقق للنص الذي يكتبه شاب، ومن ثم نجد الشباب الأدباء يعرضون عن كتابة المسرحية.
ومن هنا تكون فرحتنا بمن يتوجه من الشباب إلى كتابة المسرحية، وبخاصة إذا كانت كتابته تُبشر بخير، وتعدنا أنه كاتب له رؤيته التي يطرحها من خلال الفن المسرحيِّ الجميل.
وقد سعدتُ خلال الأعوام العشرة الأخيرة بالتعرف على كاتبين مسرحيين هما عبد الله مهدي، وعلي محمد الغريب، اللذين قدّما عدداً من النصوص التي تبشرنا بمقدم مؤلفينْ مسرحييْن مقتدريْن.
وهاهو علي محمد الغريب في ثلاثة أعوام يصدر ثلاثة كتب تحمل أكثر من عشرين نصا مسرحيا، معظمها من مسرحيات الفصل الواحد، فقد أصدر «مسرحيات مدرسية» (بالاشتراك) عام 1999م، تضم عدداً من مسرحيات الفصل الواحد، و«محروس طالع القمر» (مسرحية طويلة) عام 2000م، و«حورية بني كنعان» عام 2001م، وتضم إحدى عشرة مسرحية من مسرحيات الفصل الواحد.
ومسرحيات «حورية بني كنعان» جميعاً من أدب المقاومة، حيث نرى العدو الشرس يحاول أن يسلب الأرض والعرض، فلا يكون أمام شخوص المسرحيات إلا المقاومة، بديلاً عن الخنوع الذليل، أمام عدو شرس لا يعرف إلا القوة سلاحاً.
وفي مسرحيات علي الغريب لا ينفصل المؤمن أو العابد عن هموم الشعب، فالعابد في مسرحية «حورية بني كنعان» هو من يقود مقاومة الكنعانيين ضد العبرانيين:
أحد الرجال: (يحدق في الأفق) أيها الناس .. إني أرى كبير اللصوص ورجاله مقبلين علينا .. هاهم يصارعون الريح والغبار .. إنهم أقوى من كل شيء .. أقوى من كل شيء!!
الناس: (تخاف وتهم بالهروب).
العابد: (يصرخ فيهم) إني أحذركم .. إياكم أن تُغادروا ظلال شجرة الزيتون هذه .. النار والسعير من خلف هذه الظلال .. انظروا .. ألا ترون الريح العاصف والغبار الهائج؟! .. لن يُفلح الأعداء في مُقاومتها .. إنها عاصفة الغضب .. أشهروا رماحكم. ( ).
وبعض مسرحياته تحمل قدراً من السخرية من أمور نعايشها في الواقع فلا نستطيع لها دفعاً، ومنها نص «مُفاوضة»، ففي هذه الكوميديا السوداء، نرى اللص وقد سرق البيت ومحتوياته ـ ومنها المجوهرات الثمينة ـ ويصر صاحب البيت على أن يعمل مع هذا اللص معاهدة، وتشير شخصية أبي عطية المتخاذلة إلى الواقع الذي نعيشه (حيث يريدون لنا أن نتصالح مع السارق) بينما ابنه عطية يريد المقاومة:
عطية: سأقتحم الحجرة، ولا عليكما (يهم بوضع يده على المزلاج فتمسكه أمه).
أم عطية: (في رجاء) أرجوك يا عطية .. اسمع كلام أبيك .. إنني أخشى عليك شر هذا المجرم يا بني!
عطية: (مغيظاً) أيُرضيك يا أمي أن نقف نتفرج عليه وهو يغط في نومه في فراشنا وقد سرق مالنا؟ .. لا .. لا يُمكن أبداً.
أبو عطية: (يعنفه وهو يخفض من صوته، لئلا يصحو اللص) دعك من هذه العنتريات .. بلا خيبة .. دعنا نفكر في حل عملي .. الوقت يمضي .. واللص إذا أخذ كفايته من النوم استيقظ وقتلنا، ثم أخذ مالنا ومجوهراتنا ورحل ( ) .
ويشرع أبو عطية في التفكير لعمل معاهدة مع اللص يتنازل بموجبها عن جزء من ماله مقابل السلام، ولكن اللص يأخذ المجوهرات والنقود ويرحل، وتنتهي المسرحية نهاية لافتة للنظر، حيث الأب والأم يتوسلان للص، وهاهو أبو عطية يُخاطب اللص:
أبو عطية: انتظر .. انتظر يا هذا .. لقد أوشكنا على الانتهاء من صياغة المعاهدة .. لا تتعجل يا رجل.
ولكن اللص لا يستجيب للنداء المتوسل، ويخرج آمناً من البيت!
وكان على الابن «عطية» ـ الذي طالب بوجوب المقاومة ـ أن يخرج وراء اللص، ليستنقذ منه ما سرقه من البيت.
وواضح أنه يُشير من خلال النص السابق إلى فلسطين التي اغتصبها اليهود المجرمون، ويُحاول البعض أن يستنقذ شيئاً منها بالسلام مع العدوِّ المعتصب، فلا يُفلح!!
وأما «حورية بني كنعان» فهي فلسطين التي يحاول العبرانيون أن يغتالوها، وتدور أحداثها قبل ثلاثة آلاف عام، وهم يذبحون الفتاة "فلسطين" في غفلة من أهلها وتخاذل من المسؤولين، ومن ثم يُلقي «يعرب» باللوم على المختار، الذي لم يستعد للأمر، وترك فلسطين تُذبح ـ من الوريد إلى الوريد ـ يقول في حوار مع أبيه:
يعرب: (ثائراً) قتلها المختار .. قتلها المختار!!
أبوه: (محذراً) اسكت .. اسكت!!
يعرب: لو أنه ترك شباب المدينة يُكافحون هؤلاء اللصوص لأهلكناهم، لكنه آثر مفاوضتهم فعلوا ظهورنا واستباحوا حرماتنا.
أبوه: (غاضباً) قلت لك اسكت .. وإلا سمعك رجال المختار، فنلنا ما لا نحب ( ).
ولا ينفصل المؤمنون العابدون عن المقاومة، أو ينعزلوا في صوامعهم، بل كانوا أصحاب الرأي والمشورة والقدوة، وهذا ما تمثله شخصية "العابد" في هذه المسرحية.
ويستدعي علي الغريب في نصوصه القصيرة بعض الأحداث والشخصيات التاريخية، ليواجه الواقع من خلال ما تطرحه هذه الشخصيات وتلك الأحداث من رؤى، يرى أنها لصيقة بعصرنا، مثلما فعل في مسرحيات «المنبر المخبوء»، ويتناول فيها المنبر الذي بناه نور الدين محموداً للمسجد الأقصى ببيت المقدس حين يتم تحريره من الصليبيين، و«حلم السلطان» التي تتناول طرد نور الدين محمود لرجلين من يهود أقاما بالمدينة تحت زعم أنهم مسلمون، وهم يضمرون الشر، ويريدون التخريب، و«مهر الصبية» التي يستدعي فيها شخصية الفارس «عنترة» لتواجه بعض قضايا الواقع المتخثر، و«عروس النيل» التي تبين موقف الحاكم المسلم من بعض العادات الجاهلية، و«المكافأة» التي تُطلعنا على صفحة بيضاء من الوفاء بالعهد أيام المأمون.
وقد حرص علي الغريب على أن يقدم شخصيات حية متطورة ـ رغم الحيز النصي القصير لمسرحيات الفصل الواحد عنده ـ والشخصية عنده تتسم بصفة الجاذبية، التي تجعل من النص حيويا جاذبا للانتباه في القراءة أو عند العرض، مع عدم إغفال «الصراع» الذي هو «العمود الفقري للبناء الدرامي، فبدونه لا قيمة للحدث أو لا وجود للحدث» ( ).
ومن الشخصيات الجيدة التي قدّمها شخصية "أبو عطية" في مسرحية "مفاوضة"، فهو شخصية ضعيفة، مُتخاذلة، سلبية، لا تقدر أن تفعل شيئاً.
ويُمكن أن نمثل لذلك بجزء من الحوار، حينما اكتشف ابنه أن اللص ينام هادئاً في حجرة من البيت:
عطية: (يُنادي بصوت خفيض، ويُشير لأبيه بيده، وعيناه مازالتا على الفرجة) أبي تعال .. إنه نائم ومستغرق .. تعال .. لا تخف.
أبو عطية: (يتقدم في خوف، بينما أم عطية قابعة في مقعدها تضرب كفا بكف، وهي خائفة، ويُحاول أبو عطية أن ينظر من الفُرجة) دع .. دعني أنظر إليه.
عطية: (يتنحى عن مكانه) لا تُحدث صوتاً لئلا يصحو.
أبو عطية: لا تخف (يضحك ضحكة مكتومة) صندوق مجوهرات أمك في حضنه (يشير بيده لأم عطية) .. تعاليْ لنرى مجوهراتك في حضن اللص .. لقد قرّر أن يأخذها( ).
وتُحاول أم عطية ـ بعد الحوار السابق ـ أن تستثيره، فلا يُستثار!!:
أم عطية: (تتقدم نحوهما وهي منزعجة) مجوهراتي!! .. أخذ مجوهراتي!! ..
أبو عطية: تعاليْ لتري بنفسك (يُخلي لها المكان)
أم عطية: تنظر من الفُرجة) مجوهراتي؟!! .. ربنا ينتقم من الظالم (لأبي عطية) هل رأيت "الرزم" التي بجواره؟!! .. لقد فتح الخزانة واستولى على ما فيها.
أبو عطية: (منزعجاً) لا .. لم يحصل إلا على مجوهراتك فقط( ).
ومن هذا الحوار نتعرف على شخصية أبي عطية الضعيفة المستسلمة، التي تنظر للص من فرجة بالباب، وترى أن اللص ينام وفي حضنه صندوق مجوهرات زوجته ولا تفعل شيئاً ألا أن تتفرّج في هدوء، ولا تعكِّر صفو نوم اللص حتى لا يثور ويعمل بهم ما لا تُحمد عاقبته!!
وحينما يقترح عليه ابنه "عطية" اقتحام الغرفة واسترداد الأموال منه، ثم تسليمه للشرطة، يكشف عن تهاونه وتخاذله وجبنه:
أبو عطية: هكذا ببساطة؟!! وماذا إذا استيقظ وقتلنا جميعاً؟!!( ).
وهو يُشير بذلك إلى بعض الحكام الذين لا يريدون تعكير مزاج إسرائيل بكلمة، حتى لا تفعل بهم ما لا يُحمَد عُقباه!!
والحوار عند علي الغريب ـ في هذه النصوص المسرحية القصيرة ـ سريع، معبر عن الشخصيات في تدافعها، وتأزمها، ويقدمه الكاتب في مهارة عالية، ليربط بين الأحداث، ويدفع بها نحو الذروة ثم يسير نحو الحل والانفراج، ويكشف عن الشخصيات ودوافعها، حتى في بعض نصوصه التي هي حواريات وليست مسرحاً، مثل «المنومون» (ويوازن فيها بين موقف المجتمع الدولي من قضيتي فلسطين وتيمور الشرقية)، و«حمحمة وخوار» وهي عن مأساة حصان عربي يعمل في خدمة جيش الاحتلال. وكل منهما في خمس صفحات من القطع الصغير، لا تستطيع أن تقدم رؤية مسرحية جيدة في أي من هذين الإطاريْن الموضوعيين الكبيرين.
ومن نماذج الحوار الجيد عنده ما قدمه في مسرحية «بائع الوهم»:
البائع: قرب .. قرب .. خصم خاص على جميع المعروضات، مع وجود هدايا فورية وقيمة .. شعارنا الأمانة .. هدفنا خدمة الإنسان .. لو أنفك مزكومة غيرها .. لو عينك «مدغششة» افقأها .. سوبر ماركت «كل الإنسان» يقدم لك ما تحتاجه، الأمس واليوم والغد بأرخص الأسعار وأحسن «الموديلات» .. اشتر يداً واحصل على الأخرى مجاناً.
(يدخل أحد الزبائن متوجهاً نحو البائع)
الزبون: أنت يا أخ .. أنت أيها النصّاب!
البائع: قرب قرّب .. نعم يا محترم .. أي خدمة؟
الزبون: اشتريت من عندكم يداً لكنها .. لكنها.
البائع: لكنها ماذا يا محترم؟ .. تفضّل.
الزبون: لكنها مجرمة .. تسرق يعني كلما أروح مكاناً .. تمتد رغما عني وتسرق .. وتسبب لي إحراجاً مع الناس.
البائع: يا سلام عليها!! الحمد لله بضاعتنا رافعة رأسنا في كل مكان .. إن شاء الله تكون مرتاحاً معها.
الزبون: من أين ستأتي الراحة مع مثلها؟!! .. أنا رجل محترم ولم يسبق لي أن مدت يدي لحرام قط .. أتصدق أنها سرقت مصاغ زوجتي .. أرجوك ساعدني في تعديلها ..
البائع: للأسف لا نستطيع (...) يا محترم البضاعة المباعة لا ترد ولا تُستبدل.
الزبون: وما العمل؟
البائع: اشتر واحدةً جديدة، واحصل على الأخرى مجانا.
الزبون: ترى أن ذلك أفضل؟
البائع: هذا هو الحل الوحيد.
الزبون (يشير إلى اليد الاصطناعية) وهذه المصيبة ماذا سنفعل بها؟
البائع: اتركها لنبيعها لك على أنها مستعملة.
الزبون: لكني أخاف أن تؤذي أحداً بأفعالها ( ).
وهكذا يسير الحوار حيويا في النص، في دقة وإيجاز، مشوقاً القارئ ـ أو المشاهد ـ لمتابعة الحدث في النص، وكاشفاً عن طبيعة الشخصيات.
إن مسرحيات «حورية بني كنعان» تقدم لنا كاتباً مسرحيا إسلامياً ملتزماً، يعرف دوره في الحياة والإبداع، يؤرقه ما يعيشه المسلمون من قضايا، فيُعمل مبضعه في جراح الأمة، ويُقدم فنا حقيقيا جديراً بأن يلتفت له المخرجون في وسائط المسرح والتلفزة، فهو يقدم فنا جديراً بالقراءة والفرجة.