تسمت الفترة الحالية بمساجلات وصراعات عديدة حول طبيعة المرحلة الأدبية التي يشهدها الأدب في المدى المنظور وطبيعة ما سوف يتلو ذلك في المستقبل القريب ويمكن القول أنه لم تخل مطبوعة أدبية ما أو حتى شبكية أدبية من إشارة فصيحة أو تلميح خفي إلى هذا الموضوع بعينه ، وقد شغل الأمر عددا من الأدباء والشعراء والنقاد فأدلى كلٌ منهم بدلوه ، ويمكننا القول أن جلهم قد اتفق على مصطلح الحداثة لوصف أدب المرحلة المنصرمة إلى عهد قريب واختلفوا حول ما سيتبع ذلك حتى توصل بعضهم إلى الصيغة السحرية القائلة بما بعد الحداثة وبدأ ت المحاولات النشطة من كل حدب وصوب نحو استقراء طبيعة وخواص هذه المرحلة أو لنكن أكثر دقة بالقول نحو محاولة استحضار سمات القوالب الصياغية لقواعد المرحلة المقبلة . وقبل أن يختلط الأمر على القارئ لا بد من التوضيح بأن الحداثة "Modernism” كما في المصطلح هي احتجاج أدبي غربي وبصوت عال ومنذ بداية القرن العشرين على المرحلة الأدبية السابقة لها وخاصة الفترة الممتدة خلال القرن التاسع عشر وان تعددت التوصيفات الجزئية لمركبات هذا الاحتجاج ودرجة عنفه وصخبه ثم أثره وفعله في الواقع حقا ورافعة التغيير الحقيقية التي خلقها تاليا ، وربما كانت الدادية والسريالية والرمزية هي تجسيد لهذا الرفض المطلق لمواصفات أدب التقليد الفني للقرن التاسع عشر كمدارس أدبية وفنية أيضا بكل سماتها وخواصها التخليقية والانعكاسية الشرطية الخاصة بها ومنهج روادها ومريديها من جهة أخرى ، وان كنا لن نعمد إلى تفصيل تام في خواص وسمات كل منها وما اشتركت فيه أو اختلفت حوله ألا أننا لا شك متيقنين من أن الحداثة ترجمة مكافئة تماما من حيث المؤشر إلى منهج متمايز في الحساسية والأسلوب المؤسس لإصدار أحكام قطعية على ما سبقهما من أدب تقويضا له وهدفا في الحلول مكانه وفق منطق جدلي وديناميكي أيضا ، ويسوق عدد من المراجع أمثلة على رواد هذه المدارس في الأدب الغربي الحديث وقد يشيرون بالبنان لرواد هذه المدارس من أمثال مالارميه وأندريه جيد وفاليري وكافكا واليوت وجويس وغيرهم .
وعلى أية حال فان هنالك جملة من الملاحظات لا بد من الإشارة إليها في هذا الموضع أما أولاها فهي أن الحداثة كمرحلة هي سمة للفترة التي حددت لها كما سبق الإشارة إليه في مقدمة حديثنا هذا وهي بالتالي جملة كاملة من التصورات حول الأدب والفن من حيث الأسلوب والقيمة المعرفية الخاصة بها "ابستمولوجيا" وفي نهاية الأمر كنقيض تام ومباشر لمرحلة معينة سبقت عليها وهذا لا يشير إلى أية مرحلة بل لمرحلة معينة مما لا يدع مجالا للخلط بين الحداثة والمعاصرة وذلك لأن المعاصرة تقترن بالزمن التام المطلق بين سابق ومسبوق وبالتالي يمكنها أن تصف اللاحق في أي فترة من الزمن المستمر ، وبالتطبيق البسيط يمكن اعتبار الأدب العباسي في وقته معاصرا والأدب الأموي قديما عليه ، ولكن الحداثة ليست صفة صحيحة بحكم المصطلح لكي تصف هذا الأدب العباسي وان في زمنه ، ومن هنا نصل إلى ملاحظتنا الثانية والتي يظهر معها استخدام المصطلح المقنن والمتفق عليه أي الحداثة والحداثية مكان اللفظ المختزن الدلالة ، بمعنى أن الكلمة حديث في لغتنا العربية وهي نعت بيّن إنما تشير إلى ضد القديم قطعا في دلالتها وتشير قطعا إلى الجِدَّة والى عبور الزمن قافزا ولكنها رغم ذلك لن تحمل قطعا دلالة المصطلح المشار إليه ، وبالتالي فان من يقصد الحداثة بمعنى المعاصرة وصل إلى ما يريد ولكنه قطعا قد أضاف شكا ما حول مؤدىً آخر يتم باستخدام نفس الكلمة حينما يراد وصف هذه المرحلة الأدبية بكل مدارسها أو حتى ببعضها إن شئت .
والملاحظة الثالثة هنا تتعلق بالمصطلح والمصطلح عليه من حيث المصدر ، فالمصطلح أساسا هو مصطلح غربي وتوصيف لمرحلة عاشاها الأدب الغربي بكل أبعادها الزمانية والمكانية ووجدت لها دلائل وتطبيقات وشواهد من واقع الموروث النصي الواصل إلينا من هذه الفترة غربيا خالصاً ، وأما نحن فما كان إنجازنا سوى استيراد هذا المصطلح كما استوردنا كثيرا مما هو نافع أو ضار وفق إطار العلاقة بين المنتصر والمنتظر حتى لا نستخدم لفظة المنكسر إيمانا بأن الحرب لم تنتهي بعد، وهكذا انطلقت ألسن مثقفي العربية في بداية الأمر فرحة بما أنجزته من توظيف بقصد الإشارة إلى الإنتاج الأدبي والفني المعاصر بقصد الجدة ، ولا يمكن لنا قطعا أن نعمم ذلك إذ أن فئة ما قد أدركت المعنى الحقيقي للمصطلح وسعت إلى إيجاد أدب ينطق بالعربية لغة وينزل عند شروط الحداثة بقوة قانون المصطلح ، ولذا انفجرت في ساحة الأدب العربي من واقع تراجم قد أنجزتها لتطرح متحدية بفرح كبير نتاج هذا الاستتباع التام وبأشكال متعددة ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما أبدعوه عندما أطلقوا عليه "قصيدة النثر". إذن فقد نشط بعضهم في محاكاة مرحلة مر بها أدب غير العربية وبكل ما اشترطته هذه الآداب الغربية أو أصرت عليه واستجلبوا بذلك شعورا غامرا بالفرح وطالبوا أدبهم والمتلقي بأن يصفق لهم باعتبارهم حداثيين وهنا نشأت أزمة الصدمة بينهم وبين المتلقي وبدأ الفراق وتكوين مركب الأزمة وانصراف المتلقي عما استجلبوه له.
وهنا ترد الملاحظة الرابعة تحصيلا واقعيا ، فإذا سلمنا أن الأدب هو مرآة صادقة لواقع معاش فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض هائل وتضاد كبير لا سبيل إلى حله بالوفاق أو بعبارة أقل دبلوماسية باللف والدوران ، فأدب اليوت هو مرآة حياة الإنجليز تماما وهم ينتقلون من مرحلة اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية فكرية إلى آخر ذلك إلى مرحلة أخرى جديدة تماما وما قد رآه اليوت مثلا وسيلة ومنهاجا في التعبير عن ذلك أو في التعامل مع طبيعة هذا الانتقال بكل الملامح الإنسانية متسلحا بمبدئه في توظيف خبرة الثقافة والحضارة يختلف قطعا عما خبره جويس مثلا المتسلح بالوجود "النقي" الأولي وكافكا في التوجه إلى الميتافيزيقية وغير العقلانية وهكذا دواليك تبعا لتعدد المدارس الحداثية ومحاولاتها الإحاطة بالاشتراطات الإنسانية أدبيا والإجابة على ما تحفزه ، وهذا قطعا سمة لمرحلة لم نمر بها كعرب وبذات المواصفات التاريخية والحدود الانتقالية وحتى ربما لم نقفز عليها أصلا وان كنا قد استوردنا لاحقا بعضا من ثمارها الميكانيكية والآلية كمستهلكين طبعا أو حتى كنا لها في الجانب الآخر وقودا نحن وثرواتنا الخام ومنطقتنا الجغرافية من الناحية الجيوسياسية، فكيف يصح حل هذا المشكل وتحميل التاريخ والأدب ما لا يحتمل إذ قطعا لا ينفع هنا الاستيراد الذي يستهوينا معظم الأحيان.
وكما أن الأدب من ناحية أخرى ليس فقط مرآة ووصفا تابعا للتغيير الاقتصادي الأساس والذي ينشأ عنه بقية الانتقالات فانه ومن ناحية مضادة تماما هو أداة حقيقية ورافعة مميزة نحو التحفييز على التغيير نفسه بل والتغيير بالمطلق ، ولا يمكن لنا أن ننكر ذلك قطعا فهو دور أصيل للأدب والفن في حياة الشعوب ، فإذا ذهبنا إلى هذا المنحى فهل كانت محاولة استجلاب الحداثة أداة للتغيير نحو الأرقى والأفضل والأجمل كما يقتضى الباعث إليه أملا ، هل كانت فعلا ناجحة بحكم الناتج وشواهد الحال الراهنة خاصة وأنها كانت فجة تماما ومن غير ركائز نهضوية أخرى لا بد من توافرها لنجاح التغيير ؟
إن العرب في عصر عروبتهم الفذة وحينما استيقنوا الأمر الرباني بالقراءة والنظر والعلم والحكمة وسيلة أخرى فاعلة نحو التغيير "عدا الانتقال الاقتصادي والذي يتم فيه الانتقالات الأخرى تالية أي كعامل سلبي تابع" وليس كما أراده الله هنا منهم بأن يجعلوا التغييرات منفعلة وتابعة لهم لا أن يكونوا تابعيين لها ، لجئوا إلى الترجمة واستخدام المستورد هذا أداة للتغيير ولكن ركائز أخرى كثيرة قامت بواجب الإسناد الرئيس في هذه المنظومة كما أن الوعي التام والحكمة المطلقة كانت سيد الأمور أثناء عملية النقل وبعدها وتم قطعا إجراء التمييز والإضافة لاحقا لهذا المميز الذي تم توظيفه ، بمعنى آخر انهم كانوا قادرين على صنع المزيج الفعال إن شئت كيماويا لصنع رافعة التغيير هذه ، وضمن منظومة متكاملة وأيضا تحت مظلة الغلبة والتفوق الذي أفضى إلى الإبداع الحقيقي، فهل ذلك ما تم فعلا في عصرنا الحالي منذ أمد ليس بالبعيد مع أحفاد هؤلاء المبدعين ؟!
وهنا نورد الملاحظة الخامسة وهي أننا كعرب ومسلمين أيضا قمنا بذلك يوما ما وكانت هذه الخطوة ركيزة أدت إلى ما تطورت إليه حضارتنا وأدبنا وفننا لاحقا وضمن رسالتنا الحضارية الإنسانية الفذة ، وهذا إنما يدلل قطعا على إنسانية وعالمية عقليتنا العروبية المسلمة المنفتحة ، أي أننا نرد بذلك على كل من قد يتهمنا بالانغلاقية والانعزالية أو الرجعية أو غير ذلك مما قد يتحفنا به مثقفو معجم مصطلحات الغرب مثلما هم يستخدمونها في غير مدلولاتها مع الحداثة مثلا كما سبقت الإشارة إليه . وهنا في الحقيقة يمكننا أن نفكر لماذا آل أمر الأدب العربي لما هو واقع فيه الآن من أزمات ولماذا فشلنا في مهمة قد أنجزها أجدادنا باقتدار كبير.
اذن فالحقيقة هنا لا تستجيب لا لمبررات الوصف ولا لتبريرات التطور والتغيير وكان أجدر لو أن تطور الأدب العربي تم ذاتيا وضمن منظومة متوازنة بين الحق والحقيقة والأمل والممكن والعوامل الذاتية الخلاقة والتي استهين بها والعوامل الخارجية الممكنة الاكتساب من دون آثارها السلبية ، الغريب أن كثيرا من المبررات قد سيقت للتغطية على هذا الفشل القائم ومن أخطرها إلصاق التهمة بالمتلقي واستخدام صيغة "لم لا يفهمون ما نقول "وهي صيغة ظالمة وجائرة في واقع الأمر ، وإذا اعتبرنا أن أعلام التجديد والتحديث الحقيقي في الأدب العربي والفن العربي من أمثال رب السيف والقلم محمود سامي البارودي وشوقي ومطران وحافظ وأبو ريشة وسيد درويش وغيرهم أدركوا قطعا هذا الفيصل بين ما هو ممكن وما هو مستحيل ونحن نتكلم عن ثلاثينات وأربعينات هذا القرن وبالتالي أنتجوا ركائز أصيلة غير ممسوخة ولا مشوهة لأدب وفن عربيين أصيلين لم تتخلق أزمة المتلقي أيامها ولا حدث الانشقاق العظيم هذا ، بينما حينما أسهم مبدعو الحداثة المسلطين على الأدب العربي وأدلوا بدلوهم وقع المحظور.
ومرة أخرى نؤكد لمن ألقى السمع وهو شهيد أننا لسنا ضد التحديث إطلاقا لا على مستوى الأدب ولا على مستوى الفن بل على العكس تماما وندرك أن المثقف الحقيقي هو ابن لعصره ومفردات هذا العصر بكل ما يقترحه من منظومة معرفية ومنظومة تجريبية ولكن بشرط أن تكون حركة تحديث عاقلة مدركة تعرف من أين تبدأ وماذا تريد وكيف تصل إليه بأكثر محصلة من النجاحات وبأقل سلبيات ممكنة ، إن التطور سمة الحياة والتحرر بؤرة حركتها لكن ليس إلى اتجاهات المنحدرات والانتحارات قطعا ، إن الإبداع الحقيقي هو ترجمة فورية واضحة مفهومة لا لبس فيها لأداء جسدي عقلي روحي في تناغم عظيم بين الوعي واللاوعي وهي فوضى النظام وليس نظام الفوضى .
وإذا كان لدى الغرب من اقتراحات محددة في هذا المستقبل المقبل كما هو الحال مع اقتراحات "العولمة" على الاقتصاد والسياسة والتي هي مكافئ واقعي لخبر ذهني وعقلي تام يرى في "الهيمنة" وليس فقط بفعل الدلالة فإننا نقترح على أدبائهم وشعرائهم من واقع قفزاتهم العلمية الخارقة ولا نشك بذلك قطعا أن يصار إلى استخدام مصطلح نقترحه عليهم وهو الروبوتية "Robotism”وهكذا يصير لنا أسبقية التدليل على المرحلة واختصار زمن السجال حولها إذ أن ما بعد الحداثة هو مصطلح خطر قليلا فهو لن يقبل تكرار ما بعد ما بعد ما بعد الحداثة وهكذا…. ونريحهم بذلك من التعب والمصطلح هنا متجانس مع عصر الرجل والقط الآليين القادمين طبعا، وربما فكرنا لهم بعد إنجاز استنساخ البشر بمصطلح جديد ربما يكون مثلا الاستنساخية "Clonism”وإذا كان ذلك حق لهم أن يبدءوا البحث فيه ، فلا أدري ما الذي سيعمد إليه مثقفونا وأدباؤنا في هذه المراحل وما سيكون عليه شأنهم .!