تموج مدينة الإسكندرية ببعض التجارب والإبداعات الشبابية التي تجدِّد شباب الأدب فيها، وتثري الحياة الثقافية بها، وتفتح ذراعيها للحياة بطريقة قد يعترض عليها التقليديون أو المحافظون، أو الأجيال القديمة التي توقفت عن المتابعة والرصد والتحليل.
ولكن في الوقت نفسه لا ينبغي أن يأخذنا التجريب إلى منطقة القطيعة الكاملة مع التراث والمجتمع واللغة، فمهما كان المنطلق التجريبي أو التجديدي أو التحديثي (ولا أقول الحداثي) فهناك ثوابت لابد أن ننطلق منها، وهناك أرضية مشتركة يجب ألا تكون زلقة، حتى لا يغرق الجميع في بحار التجريب المفتوحة على مصراعيها في إطار حرية التعبير، وخاصة إذا كان مَنْ يجرب لا يعرف شيئا عن بعض أساسيات الكتابة، ويدعي التجريب.

[IMG]http://www.nashiri.net/aimages/alkul.jpg[/IMG]
وتأتي بعض التجارب الشبابية في الإسكندرية من خلال مفهوم حقيقي لوظيفة الأدب والكتابة، ورغبة حقيقة في التجاوز من خلال الإبداع الحقيقي، وليس من خلال الادعاء.
وقد سبق أن رأينا جماعة فاروس للآداب والفنون، وجماعة الأربعائيون، وجماعة الخماسين، وأدباء ندوة أصيل، وغيرها منذ بداية الثمانينيات (أي منذ حوالي خمسة وعشرين عاما) وقد أصدرت كل جماعة من هذه الجماعات، مجلة أو مجموعة من الكتب الأدبية من شعر وقصة ورواية. ثم توقف نشاط بعض هذه الجماعات (مثل فاروس، والأربعائيون) والبعض الآخر يجاهد من أجل البقاء والاستمرار.
وقد ظهر مؤخرا مجموعة من الأصدقاء الأدباء أطلقوا على أنفسهم اسم "الكل" وهم امتداد لجماعة الخماسين التي أصدرت مجلة "الخماسين" من قبل، أو هم لا ينفون توقف الخماسين، ويأكدون عودتها بعد توقف قصير لالتقاط الأنفاس، غير أن بعض الخماسينيين، دخل تجربة "الكل"، ورفض هذا البعض إطلاق مسمى جماعة أو جمعية على أنفسهم أو على نشاطهم الأدبي والثقافي.
أحمد عبد الجبار، وأميمة عبد الشافي، وإيمان عبد الحميد، وحمدي زيدان، وشهدان الغرباوي، وعبد الرحيم يوسف، وماهر شريف، ومحمد عبد الرحيم، هم أعضاء، أو أصدقاء "الكل". وقد أصدروا مجموعة من الكتب في تجربة جديدة في الطباعة، حيث أودعوا هذه الكتب في علبة كرتونية تحمل اسم "نصوص الكل"، وبداخلها إصداراتهم التي كانت أغلبها لماهر شريف وإيمان عبد الحميد، يصاحبها كراسات ذات ورقات قليلة أطلقوا عليها "نصوص مصاحبة" لكل من: حمدي زيدان، وعبد الرحيم يوسف، وأحمد عبد الجبار، وشهدان الغرباوي، ومحمد عبد الرحيم. وقدموا أنفسهم للحياة الأدبية والثقافية في مصر من خلال تجربة "الكل" المطبوعة.
ولعلنا من خلال قراءة أعمال "الكل" التي تمركزت حول نصوص ماهر شريف، قبو الاشتهاء (حكي متوال) و"يا حواديت إيمان" (عشر نصوص بالعامية) و"حكايات" لكل من ماهر شريف وإيمان عبد الحميد معًا في كتاب واحد، نستطيع أن نقول إن الغوص في قاع المجتمع المديني من خلال الغوص داخل الذات وانفتاحها على هذا القاع، أو ما أسماه ماهر شريف "قبو الاشتهاء" هو أهم ما يميز إصدارات "الكل".
أيضا هناك ملامح الواقعية السحرية، وأسطرة الواقع، أو خلق أساطير جديدة، مع الاستفادة أو الاستعانة بالتراث الشعبي (ألف ليلة وليلة على سبيل المثال) وتشعير القصة القصيرة، بمعنى إضفاء الشعرية على عباراتها، وخاصة في القصص المكتوبة بالعامية المصرية.
أيضا هناك الخلط المتعمَّد بين العامية والفصحى من خلال السرد، وليس من خلال الحوار فحسب، بل إن "يا حواديت إيمان" كُتبت كلها بالعامية المصرية، وهو ما يذكِّرنا بتجارب علي مبارك، ود. لويس عوض، ويوسف القعيد، وغيرهم، عندما لجأوا للكتابة بالعامية من خلال تجريب طاقاتها في الحكي المكتوب، وليس الحكي الشفاهي.
أيضا نلاحظ الاحتفال الصاخب بالحياة، أو الاشتهاء الصاخب للحياة (قبو الاشتهاء كعنوان على سبيل المثال) رغم الحب المحبط أو غير المتحقق في معظم القصص والحكايات، لذا كان التوقف الطويل عند مفردات الجسد أو التشكيل بالجسد الحي، والتغني بأحواله ومقاماته وتحولاته المختلفة، هو البديل لهذا الحب المحبط.
أيضا هناك اللجوء إلى تجسيد غير المرئي أو الأثيري مثل الجن والملائكة والعفاريت التي تتحول إلى كائنات نراها تتحرك في النصوص وفي الحياة حركة دائبة.
إنها تجربة تستحق الرصد والمتابعة، لأنها تلخص تجربة جيل نضج خلال سنوات التسعينيات التي بدأت بزلزال الاحتلال الصدامي للكويت، وما حدث للأمة أو الوطن العربي بعد ذلك، من احتلال أمريكي للعراق، وغيره من توابع عسكرية وسياسية، فانهارت أمام أعينهم وذواتهم، بعض قيم العروبة التي نتشدق بها، فتقوقعوا حول هذه الذات، ربما تعصمهم من خطر الزلزال النفسي، فكانت الكتابة هي البديل للحياة، أو هي الحياة نفسها، لذا فإننا لا نلمح هما قوميا أو وطنيا مباشرا في تلك الأعمال. قد يكون هناك ذكر للأماكن والشوارع والأزقة التي تعيش فيها شخوص النصوص، ولكن الأماكن نفسها لا تتحول إلى شخوص أو أبطال مثلما رأينا عند نجيب محفوظ (زقاق المدق، قصر الشوق، بين القصرين، السكرية، وغيرها) أو عند محمد جبريل (رباعية بحري: أبو العباس، وعلي تمراز، وياقوت العرش، والبوصيري).
هم يعيشون الأماكن ويتنفسونها، ليس من أجل جعلها أبطالا في نصوصهم، ولكن لأنه لابد من وجود مكان تتحرك فيه، أو تغوص فيه، الشخوص والنصوص، الأمر الذي جعل ماهر شريف يلجأ إلى عمل فهرس للأعلام، وفهرس للأماكن والبلدان في نهاية مجموعته القصصية المتميزة "قبو الاشتهاء".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية