التجارب الجديدة هشمت الشكل التقليدي
منذ أن نقل نجيب محفوظ الرواية العربية والنثر القصصي العربي من حيز "التاريخي" على حيز "الواقع" الاجتماعي والنقاش تصاعدت حدته حول طبيعة هذا الفن. فكيف يمكن فهم الخطاب الروائي العربي دون العودة على جذوره وبداياته؟ ويكاد الحديث عن الخطاب الروائي العربي ينطلق اليوم من مفهومين ثابتين:
الأول يرجع أصول الرواية العربية إلى أنماط نثرية قريبة من التراث الأدبي العربي مثل (ألف ليلة وليلة) (مقامات الحريري) (مقامات الهمذاني) (قصص القرآن) (الحكايات الشعبية.. الخ). أما المفهوم الثاني فينطلق من أن الرواية، كجنس أجبي قد تم "استيراده" من الغرب.
ويذهب معظم الروائيين والنقاد العرب والأجانب، السواء، إلى أن الفن الروائي كشكل من أشكال التعبير عن الحياة، هو فن أوروبي، نشا قبل نحو مئتي عام. لكن بعض المؤرخين يذهب على أن فن الرواية نشأ وترعرع، أولا في اسبانيا، حيث كانت البدايات الأولى علي يد هوان مانويل (1282-1349) الذي كتب (الكونت لوكانور) أو كتاب بترونيوس إلى أن تاسس الفن الروائي الأسباني وتأصل عام 1499 عندما صدرت رواية "تلستينة" تأليف فرناندو روخاس.
تاريخ الرواية
أما عربياً فإن المر مختلف، حيث أرخ البعض لظهور الفن الروائي، على أبعد تقدير، في الربع الثالث من القرن الماضي، مع رفاعة الطهطاوي الذي ترجم رواية "مغامرة تليماك" بعنوان: "وقائع الإخلال في أخبار تليماك" (1867)، وبعض آخر كان أكثر تشاؤماً، فأرخ لظهور الفن الروائي في فترة تمتد منذ نهاية القرن الماضي، ومطلع هذا القرن،÷ فمنهم من ذهب إلى اعتبار الشكل الروائي العربي الأول كان مع روايات جورجي زيدان (1861-1914) وفرح أنطون (1861-1922) تلك الروايات التي وضعت التراث التاريخي، والإسلامي كموضوع روَي
ومنهم أيضا من اعتبر أن البداية الرسمية للإبداع الروائي كانت مع الطليعة الأولى برواية "زينب" لمحمد حسنين هيكل عام 1914 بعد محاولات تمهيدية سبقتها.. في حين اعتبر بعض آخر أن نجيب محفوظ هو الروائي العربي الذي أوصل الشكل الروائي العربي إلى قمة بحثه الاجتماعي.
وهكذا تتعقد تناقضات التاريخ للرواية العربية، وتتنوع الالتباسات وسط هذه المعطيات التاريخية غي المستقرة.
هذه المقدمة ضرورية لمحولة فهم الأسس البنيوية للخطاب الروائي العربي وبنياته ودلالاته، على اعتبار أنه يتحدد أساساً في لغة الروي، وحوارياته، ويتعدد غي مستويات الحكي، التي تعكس صورة "الأنا" و "الآخر" ضمت المعطى الاجتماعي، وما ينداح فيه، من وقائع وأحداث تصنع شكل الحياة ومضمونها المعاش في الإطار الواقعي العام.
فالروائي، عن طريق لغة الآخرين وداخلها، يقول ما يخصه شخصياً، وينبت خطاب عمله الفني داخل الحوار المسكون بذوات الآخرين تماما، مثلما تنبت الإجابات الحيوية لهذا الخطاب وتتكون داخل فعل حواري في الموضوع.
لا يمكن فهم الخطاب الروائي ما لم يتم فهم تطلعاته الخارجية ومراميها وسيل تثبيت المعاش فيها.
وتبدو عملية لرصد الخطاب الروائي العربي عملية جد معقدة ومتشعبة الاختصاصات وتتطلب جهودا كبيرة، لأن الخطاب بحد ذاته ينطوي على معطى نفسي واجتماعي وسياسي في آن.
وايا يكن الأمر فإنه يمكن ملاحظة عدة نماذج واتجاهات وسمت الخطاب الروائي بكليته وطبعته بصيغها المعددة والمتشعبة.
فمنذ البدايات الأولى للرواية العربية كان الحوار هو الذي يستنهض الخطاب المباشر الموجه إلى موضوعه، حوار مسطح، مستلب، غير قادر على تلمس رؤاه في بنيات السرد التخييلي، مكررا مقولات وحكما وأمثالا سياسية واجتماعية ونفسية استعارها من الواقع بكل جاهزيتها، لذلك جاء خطاب البدايات مباشرا تحكمه أطر وقوالب جاهزة، وهي تلك القوالب التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع، وهذا الأمر لم يقف عند حد على رغم تطور الرواية العربية، بل انسحب داخل الخطاب ليعكس نفسه في روايات الجيل الأول ولفترة غير بعيدة.
والملاحظ أن الخطاب الروائي العربي، وفي فترات عصيبة من التاريخ، كان يبتعد عن الولوج في القضايا الكبيرة، كقضية فلسطين مثلا ونكبة العام 1948.
أما في الخمسينات من القرن الذي ودعنا حديثا فقد أخذ الخطاب يحدد مجراه، ويتحدد في نوازعه وتجلياته الرحبة التي طاولت السياسة كموضوع يومي وحتمي وفعال، وكذلك طاولت السمات الاجتماعية بكل أمراضها وفروعها وتناقضاتها، حيث انتقلت بنبرة الخطاب من التاريخية، إلى الكلاسيكية وبرز فيها عدد لا يستهان به من جيل الرواد، كان نجيب محفوظ بينهم الأكثر نضجاً.
مستويات الخطاب الروائي
لكن الروائي توفيق يوسف عواد كان السباق لصياغة خطاب روائي مليء بدلالات الواقع ومفاهيمه ومشاكله في رواية "الرغيف" عام 1963، التي كانت بمثابة فجر للرواية العربية، لا لجهة البناء الغني، فحسب، وإنما أيضاً لجهة القول الذي تفصح عنه في إطار النضال التحرري.
ومنذ الخمسينات حتى 1967 بدأ تعدد المستويات في الخطاب الروائي يتجسد أكثر فأكثر ويتموضع في أطر مواضيعها الاجتماعية والسياسية المختلفة، إذ نضجت تحولات مهمة في الرؤية الفكرية والجمالية للرواية عند جيل الستينات.
والملاحظ أنمه بقدر التطور النوعي للرواية العربية، كشكل ومضمون واختلاف هذا التطور من بلد عربي إلى آخر، كان الاختلاف ماثلا من حيث التطور النوعي للخطاب الروائي وتعدد مستوياته وطروحاته السياسية والاجتماعية المختلفة.
إلا أن فترة الستينات التي ظهرت فيها بعض الأصوات التي تنادي بعدم جدارة للرواية، كمرجعية تاريخية سرعان ما شهدت تراجع هذه المقولات واخلاء مكانها لخطاب روائي سياسي أكثر تجذرا والتحاما في الواقع.
فالخطاب الروائي عند الطيب صالح، مثلا تميز في أنه استثمر حالة الصدام مع الغرب، وكان حنا مينة الأقدر في التعامل مع الوعي الاجتماعي، في حين استمر نجيب محفوظ بإنجاز التراكم الكبير لرواياته الكثيرة، الأمر الذي عكس (كل شيء) تفريبا فيها، حتى ظلت أنفاسه ولفترة طويلة تنبض في رئة الرواية العربية وفي مختلف مراحلها.
إلى جانب ذلك ساهم روائيون عرب كثر في تقديم نماذج روائية جسدت الواقع وحفرت في مساربه، ونقلت عبر "الحوار" فيها ما يحسه أبناء المجتمع من مشاكل وصراعات، مثل الطيب صالح وهاني الراهب ووليد إخلاصي وحنا مينة وسهيل أدريس وحليم بركات.. وآخرين.
إن الرواية هي أكثر الأجناس الأدبية قدرة، لا على تقديم الملامح الأساسية للحياة المعاصرة، وأنما أيضا عبر محاورة هذه الملامح وتشريحها ونقدها في كثير من الأحيان، أي عبر لغة الخطاب الروائي المتعددة والمتنوع في آن.
ويمكن القول أن السمة المميزة التي قدمتها تجربة الخطاب الروائي العربي كانت تتمثل في صياغة معادل للوعي في الواقع، حيث يلعب المثقف دوره في علاقات اجتماعية محكومة من خارجها.
واستطاعت الرواية العربية الجديدة في نهاية الستينات، وما بعدها أن تكسر الأطر والقوالب المحددة للشكل الروائي، رؤيا كلية للعالم، بأشكال وأساليب جديدة، وبنبض جديد، يتحسس الواقع ومشاكله للدخول فيه، والخروج منه، وتحليله وتركيبه.
وتلدو التجارب الجديدة وكأنها خارج الرواية بمفهومها الكلاسيكي... وفي الكتابة الجديدة يكتشف النثر أبعاده، كرؤيا متعددة، وكقبول بالتفاصيل ورفض لسحق التجربة التجربة أمام الشكل الجاهز.. هذا الشكل الجديد للرواية العربية أدخل الفن الروائي العربي عموما في التجريب، وكأنه لم يخضع بعد لمرجعية نموذجية يمكن الاستناد إليها.
رواية التجريب... الرواية الحديثة
ومع ظهور هذه التجريبية، برزت تعددات في مستويات بناء الخطاب الروائي، وتخلخل الزمان والمكان، وأصبح الفضاء الروائي يتسع لكل معطيات النثر ومقدراته واختلافات أشكاله ونماذجه، فوجدت الشعرية ميتقرا، وبوحا لها في فضاء الرواية، والتداعي، وحوار الذات، واحتدام الأصوات، والماجاة من خارج الطقس. وثمة عدد من الروائيين العرب اسهموا بشكل فعال في إيصال الخطاب الروائي إلى فضائه الإبداعي ضمن نفس خاص أمثال إلياس خوري، سليم بركات، فاضل الربيعي، إبراهيم الكوني، إبراهيم عبد المجيد، إبراهيم أصلان، ويوسف القصير... الخ.
وباستطاعتنا أن نكشف ما تقدر الرواية وحدها على اكتشافه.. هذا هو جوهر الرواية، وكما يقول هرمان بروش: "المعرفة هي الأخلاق الوحيدة للرواية".