هناك ثلاث اتجاهات في تصنيف الأغنية العربية:

1)- تصنيف الأغنية انطلاقا من الغرض الشعري لموضوعها: وهو تصنيف شائع لدى متلقي الأغنية الذي يميز أغنية عن أخرى على خلفية الأغراض الشعرية المعروفة ( فخر، رثاء، مدح، غزل، حكم، ابتهال...) وبذلك تصبح الأغنية إما أغنية عاطفية أو وطنية أو دينية أو غير ذالك. وهذا التصنيف تصنيف موضوعاتي . 2)- تصنيف الأغنية انطلاقا من الإيقاع الموسيقي: وهو تصنيف إيقاعي يتقصد التمييز بين القطع الغنائية انطلاقا من إيقاعها المهيمن ( المقام،... ).وبذالك تصنف الأغنية في إيقاعها الحضاري ( عربية / غربية )، أو مدرستها الفنية ( كلاسيكية / شبابية )، أو انتمائها القطري أو الجهوي ( مغربية / شامية )، أو انتمائها الإثني ( أندلسية / كناوية )...

3)- تصنيف الأغنية انطلاقا من موقعها من الوجود: وهو تصنيف وجودي يتغيا النبش في انتماءات الأغنية للمثال أم للواقع، للحرية أم للطاعة، للإبداع أم للتكرار، للوجود أم للعدم...


I)- التصنيف الوجودي للأغنية العربية:


في التعبير الغنائي، يمكننا التمييز بوضوح بين دعامتين أساسيتين لكل رسالة غنائية: دعامة الواقع ودعامة المثال، وكل انتصار للواقع على المثال أو العكس يشكل جهرا فصيحا بالموقف من الوجود.
هكذا يمكننا التمييز بين مواقف من الوجود في الأغنية العربية من خلال تأرجحها بين ثنائية الواقع والمثال:
1)- الواقع كمحبط لكل المثل .
2)- الواقع كمأزق بحاجة للمثال .
3)- المثال كبديل يلغي الواقع.
4)- الواقع كمعادل للمثال.


II)- أنماط المواقف الوجودية في الأغنية العربية:


(1)- الواقع كمحبط لكل المثل:

الأغاني العربية المتبنية لهذا الموقف الشاهد على انحطاط الواقع العربي لدرجة يطبق فيها اليأس على حناجر الجميع فيستحيل كل تعبير إما إلى تعبير محبط صامت أو إلى تعبير محبط صارخ من اليأس:
نموذج الإحباط الصامت: أغنية " ياك جرحي "، ألحان عبد القادر الراشدي وغناء نعيمة سميح :

ياك جرحي ، جريت وجاريت *** حيى شيء ما عزيته فيك
واسيت، وعالجت وداويت *** وترجيت الله يشافيك
اجرحي واليوم، اليوم تهديت *** نبالي بــي أو لا بيك
أنا جريت وجاريت ***وعييت وتهديت

نموذج الإحباط الصارخ: أغنية" غير خدوني" ، شعر عبد الرحمان المجدون، ألحان وغناء مجموعة" ناس الغيوان" المغربية:

قلبي جا بين ا يدين حداد ***حداد ما يرحم ما يشفق عليه
ينزل الضربة على الضربة ***وإذا برد زاد النار عليه
غير خدوني، لله، غير خذوني ***غير خدوني، لله، غير خدوني

(2)- الواقع كمأزق ينتظر المثال:

الأغنية المتبنية لهذا الموقف الشاهد على انحطاط الواقع تنقسم إلى ثلاثة نماذج :

أ)- النموذج الأول : نموذج ماضوي يجد في ذكريات الماضي المشعة حلا للخروج من ورطة الوجود ، ورطة الواقع.
ب)- النموذج الثاني : نموذج غدوي يرى في الغد مفتاح الفرج واكتمال الشروط لبداية جديدة وحياة جديرة .
ج)- النموذج الثالث : نموذج تعبوي يستنهض الهمم ويشحذها أمام انسداد كل الآفاق ونفاد كل الخيارات.

النموذج الماضوي : أغنية "مرسول الحب"، ألحان وغناء عبد الوهاب الدكالي:

مرسول الحب ، فيــن مشيت ***وفين غبت علينا
خايف لا تكــون انسيـتينا *** وهجرتيـنا وحالف ما تعود
مادام الحب بيــننا مفـقود *** وأنت من نبعه سقيتينا
باسم المحبة باسم لأعماق ***وأحر الأشواق
كنترجاك سول فينا وارجع لنا *** يدوم الصمت وتتكلم أغانينا

النموذج الغدوي : أغنية"شيد قصورك"، كلمات أحمد فؤاد نجم ، ألحان وغناء الشيخ إمام:

شيد قصورك ع المـــزارع
من كدنا وعرق إ يــديــــــنا
والخمارات جنب المصانع
والسجن مطـــــرح الجنينة
وعرفنا روحنا والتقـــــــينا
عمال وفلاحين وطلبــــــــة
دقت ساعتنا وابتديــــــــــــنا
نسلك طريق ما لهاش راجع.

النموذج التعبوي : أغنية " وين الملايين"، كلمات وألحان علي الكيلاني ، غناء جوليا بطرس:

وين الملايين؟ الشعب العربي وين ؟
الغضب العربي وين ؟ الدم العربي وين ؟
الشرف العربي وين ؟ وين الملايين ؟

الله معنا أقوى وأكبر*** من بني صهيون
يشنق، يقتل، يدفن، يقـبر *** أرضي ما بتهون
الدم الأحمر راوي الأخضر ***فيه طعم الليمون
نار الثورة بدا تشعل *** نحن المنتصرين ، وين ؟

(3)- المثال كبديل يلغي الواقع:

الأغاني المتبنية لهذا الموقف تفصح عن رفض مطلق لواقع مخز ومهين غير جدير بالمهادنة ( النموذج الأول ) ولا حتى بالحياة حيث يقترح علينا النموذج الثاني الحياة في الحلم ، في الأعالي في البعيد : الحياة في أي مكان إلا هنا...

النموذج الأول : أغنية" بيروت لا" ، شعر محمود درويش : ألحان إبلي شوري وغناء ماجدة الرومي:

سقط القناع.. عن القناع.. عن القناع
قد أخسر الدنيا نعم لكني أقول الآن لا
هي آخر الطلقات لا
هي ما تبقى من هواء الأرض لا
ما يبقى من حطام الروح لا
بيروت لا
حاصر حصارك لا مفر
اضرب عدوك لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي
فأنت الآن حر وحر و حر
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
فأضرب عدوك لا مفر
حاصر حصارك بالجنون وبالجنون وبالجنون
ذهب الذين تحبهم .
فإما تكون أو لا تكون.

النموذج الثاني:أغنية " أعطيني الناي" شعر جبران خليل جبران، ألحان عاصي الرحباني : غناء فيروز:

أعطيني الناي وغن *** فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى *** بعد أن يفنى الوجود
هل اتخذت الغاب مثلي ***مــنزلا دون الـقصور
وتتبعت السواقي *** وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر*** وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا *** في كؤوس مـــن أثير

(4)- الواقع كمعـــادل للمـثال :
الأغاني المتبنية لهذا الموقف تطابق الواقع بالمثال فما ينتظره الأحياء نحن نعيشه . ولكن الخلفية التي تتحكم في هذا الموقف تجعل منه ، في الحقيقة ، نموذجين :
أ)- نموذج يرى في الخطر الخارجي تهديدا حقيقيا ويطور قناعة بضرورة الاستمتاع باللحظة الآنية فثمة السعادة المثلي الوحيدة الممكنة .
ب)- نموذج يرى في اليأس والشكوى من الواقع هدما لإرادة الوجود ، ويتبنى خيار روحنة الواقع بجعله جميلا ومحفزا على العمل والوجود والاستمرارية .

النموذج الأول : أغنية "هذه ليلتي " شعر جورج جرداق ، ألحان محمد عبد الوهاب وغناء أم كلثوم :

هذه ليلـتي وحلم حياتي*** بيـن ماض من الزمان وآت
الهوى أنت كله والأماني ***فاملأ الكـأس بالغرام وهات
بعد حين يبدل الحب دارا*** والعصافير تهجر الأوكـارا
وديار كانت قديما ديارا*** سنراها كما نراها قفارا
سوف تلهو بنا الحياة وتسخر*** فتعال أحبك الآن أكثر.

النموذج الثاني : أغنية" الحلوة ذي" كلمات وألحان وغناء سيد درويش :

الحلو ذي قامت تعجن في البدرية*والديك بيكدن كو كو كو كو في الفجــرية
ياللا بنا على باب الله يا صنايعية*يجعل صباحك صباح الخير يا سطة عطية
صباح الصباح فتح يا عليم*والجيب ما فهش ولا مليـم
بس المزاج رايق وسليم*بب الأمل بابك يا رحيم
ذا الصبر طيب عال*وغير كل الأحوال
ياللي معاك المال*برضو الفقير له رب كريم
إيدي في إيدك يا بو صلاح*دوم مع الله تعيش مرتاح
خلي اتكالك ع الفتاح*يا للا بنا يا للا الوقت هو راح
الشمس طلعت والملك لله*اجري لرزقك خليها على الله


III)- تركيب :


الفرق بين المبدأ والموقف هو ذات الفرق بين الثابت والمتحرك. المبدأ ثابت من حيث الوجود لكنه إزاء الأحداث المتحركة والمتسارعة يصدر مواقف. الأغنية العربية، من حيث المبدأ،لا يمكنها أن تكون إلا متعاطفة مع القيم الإنسانية والمثل العليا والتوق للتغيير. فهي تبشيرية من حيث المبدأ. لذلك فمواقف الأغنية من الوجود لا يمكنها الانسجام مع ذاتها إلا إذا كانت مبشرة بانتصار القيم العليا مهما كان النفس التعبيري ( متشائم / متفائل، ، ذم الحاضر / روحنته... ) ومهما بلغت قسوة الواقع وصعوبة الوجود.
كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية