كثيرة هي المشكلات الثقافية التي تظلل العالم العربي بغماماتها الداكنة ، الا ان احدى اخطر هذه المشكلات ، واكثرها الحاحا لايجاد حل لها تخص حرية النشر الابداعي التي يفتقر اليها المشهد الثقافي العربي بمجمله .
واستهلالا ، فمما لا شك فيه ان العالم العربي بشتى مشاهده قد تغير كثيرا جراء الثورتين العلمية والتقنية ، وبخاصة في مجال الاتصالات التي جعلت منه جادة في قرية كونية تتداخل فيها الثقافات العالمية ، تتنافر أحيانا ، وتتلاقى أحيانا أخرى . والعالم العربي ما كان في يوم من الايام في معزل مانع عن العالم الخارجي ، فقد شهد له التاريخ انه اعطى وأخذ ، أثّر وتأثّر ، وعلى صعيد آخر ابدع ، ولم يقف على اطلال إبداعاته ، بل انه جدد واستحدث طالما ان امره كان في يده . الا ان الاهم من هذا كله ان هذا الابداع لم يأت من فراغ ، لولا ان هناك مناخا من الحرية ترعرع في إقليمه المواتي ، ولولا ان هناك شخصية عربية استعصت على الذوبان والانصهار في الآحر ايا كان على مدار العصور .
وهذا العالم العربي يعيش هذه الايام حالتين متناقضتين . أولاهما انه وجد نفسه وسط عالم منفتح متحرر متطور تتسارع فيه المستجدات والمتغيرات التي غيرت كثيرا من المشاهد الثقافية ، وحررتها من قيودها واغلالها ، واطلقت ماردها من قمقمه ، فصال وجال حرا متحررا لا يأبه في احيان كثيرة بأية خطوط يقف عندها مهما كان لونها .
وثانية هاتين الحالتين انه – والحديث ما زال عن العالم العربي – قد بدأ يصحو من غيبوبته الحضارية الثقافية ليجد نفسه متخلفا عن ركب التطورات السياسية والاجتماعية ، مفتقرا الى الديموقراطية والحريات العامة ، ومنها تحديدا حرية النشر الابداعي في عالم منفتح اصبحت الحريات فيه احدى سمات العصر ومرتكزات ثقافته .
في ضوء ما استهللنا به ، وتحديدا الانفتاح الشامل للعالم العربي على العالم ، والذي يفترض به ان يشكل آلية من آليات العولمة – وفي خضم دعوة كثير من الاطراف العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية بضرورة اخذ العالم العربي بالاصلاح ، وان كانت هذه الدعوات ليست خالصة مخلصة لوجه العروبة ، وباطنها غير ظاهرها ، في اعتقادي ان حرية النشر الابداعي ينبغي لها ان تتصدر أي شكل من اشكال الاصلاح ، كون الاصلاح الحقيقي يبدأ بالفكر والمفكرين وبالابداع والمبدعين على اختلاف صعد ابداعاتهم ، وكون الثقافة الابداعية تشكل المدخل الى تحديد هوية اية جماعة انسانية ، وإضاءة منظومة تميزها وفرادتها وخصوصيتها .
وقبل الخوض في هذا الطرح ماله وما عليه ، نرتأي بداية أن نخوض غمار قراءة فاحصة مستقرئة لواقع الحرية الابداعية في العالم العربي . ففي حين ان العالم المعاصر يتجه الى الغاء وزارتي الثقافة والإعلام بغية اضافة مساحات جديدة الى فضاء الحريات العامة بعامة ، والثقافية الابداعية والإعلامية بخاصة من جهة أخرى ، في الوقت هذا فان العالم العربي يتمسك بهاتين الوزارتين اللتين تتحكمان بصورة او باخرى في مجمل العمليتين الإبداعية والإعلامية ، وما زالتا تجثمان على صدريهما وتكتمان انفاسهما .
ولا يخفى على احد ان الابداع والإعلام في العالم العربي مقيدان ، وان اختلفت وطأة القيود وفقا لمستوى التطور العام الذي بلغه قطر عربي دون آخر، فالحال – مثالا لاحصرا – تختلف في لبنان عنها في المملكة المغربية . وهذه حقائق تلقي بظلالها القاتمة على حرية الإبداع الناقد والموجه والهادف الى التغيير نحو الأفضل من منظور متعدد المنطلقات والإتجاهات والرؤى . وننوه هنا الى ان الساحة الثقافية على مدى سنوات العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم ، وبدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد شهدت في بعض الاقطار العربية حالات من التشنج جراء محاولات بعض المبدعين العرب كسب قصب السبق بتسويق ابداعاتهم وتحديدا مجموعات شعرية وروايات ، على مايبدو ان اصحابها تعمدوا اجتياز الخطوط الحمراء المتعارف عليها في المجتمعات العربية ، والمقصود هنا المعتقدات الدينية التي تتمتع بحساسية ذات وتيرة عالية جدا لدى السواد الاعظم من الجماهير العربية ، بقصد تسليط الاضواء على ابداعاتهم واشهارها جراء ما يمكن ان تتعرض له من أضواء إعلامية مقروءة او مسموعة او مرئية رافضة لها او مؤيدة .
ولا يقف الامر عند حدود الرفض او التاييد المحليين لمثل هذه الابداعات ، بل انها في احيان ولغاية في نفس جهات خارجية ، تصبح القضية علكة تلوكها السنة هذه الجهات ، ومدخلا تتسلل عبره الى التدخل في شؤون العالم العربي بحجة الدفاع عن حرية الرأي والابداع والانطلاق الى فضاء ابداعي تنتفي فيه غائلة التسلط والتحكم والتقوقع والتحجر وعدم مواءمة العصر الحديث والانفتاح على المستجدات والمتغيرات الانسانية في شتى الحقول .
ونحن هنا لا نأتي بجديد حينما نؤكد بأن المعتقدات الدينية تشكل خطوطا حمراء تقف الجماهير بهيئاتها ومؤسساتها ووسائل اعلامها للدفاع عنها ورفض المساس بها وانتهاك حرماتها ، الى جانب ما يمكن ان تبديه الانظمة السياسية من تحفظ ازاء ما يمس هذه المعتقدات – علما ان هناك وزارات اعلام وثقافة عربية قد غضت النظر عن مثل هذه التجاوزات ، او انها كان لها نصيب فيها – الامر الذي احدث ازمات في حينها او فاقمها .
ومرة أخرى ، وعلى سبيل التذكير فان الانظمة السياسية العربية عبر كافة اجهزتها لا يمكن ان تتسامح باي شكل من الاشكال مع مبدع ايا كان ابداعه يحاول ان يجتاز الخطوط الحمراء الكثيرة التي رسمتها هذه الانظمة دفاعا عن سياساتها ورموزها وممارسات مؤسساتها الأخرى .
واذا كنا لم نسمع عن اعتقال مبدع او كاتب او اعلامي اومحاكمتهم جراء تجاوزهم الخطوط الحمراء التي تخص المعتقدات الدينية الا ما ندر ، فان المعتقلات في كثير من الاقطارالعربية تعج بسجناء الرأي الذين تجرأوا وكالوا انتقاداتهم بصورة او باخرى لهذه الانظمة او رموزها عبر مقالاتهم او قصائدهم او رواياتهم او اصداراتهم الاخرى ، او حتى في رسوماتهم الكاريكاتورية .
ثمة تساؤلات تطرح نفسها حول مجمل عملية الاصلاح في العالم العربي ، وحرية النشر الابداعي تشكل واحدة من الاسس الهامة التي يقوم عليها أي إصلاح منتظر : هل العالم العربي بحاجة الى إصلاح ؟ وهل هو قادر على اصلاح ذاته بذاته ، أم انه بحاجة الى مد يد الاستعانة بالآخر الأكثر رقيا وحضارة وثقافة ؟ وهل هذا الآخر يقدم هذا العون لوجه العروبة خالصة مخلصة ، أم أن له غايات ومآرب أخرى ظاهرها غير باطنها ؟ وهل هناك فرق بين طلب المعونة والمساعدة والمشورة من الآخر , وفرض هذا الآخر قوالبه ورؤاه الاصلاحية فرضا ؟
اضافة الى هذا لابد وان تشمل هذه التساؤلات طبيعة هذه الحرية التي نحن بصددها واتجاهاتها والحدود التي ينبغي ان تقف عندها ، وفيما اذا كان مسموحا نقل قوالبها الجاهزة من مجتمعات تمارس الديموقراطية والحريات العامة ، اضافة الى كونها تتمتع برقي مادي وثقافي ، تحت ظلال مبرر ان رياح التغييرتهب من " المرتفعات الحضارية الى ما هو ادنى منها ارتفاعا " وان العالم اصبح قرية كونية واحدة صغيرة ، وانه شاء أم أبى يتجه صوب العولمة . إنها تساؤلات كثيرة من الصعب التصدي لها والاجابة عنها عبر هذه العجالة . ومهما تكن الاجابات ، فلن تكون مطلقة او قاطعة ، وتظل تخضع لثقافة المتصدي لها ومعتقداته وانتماءاته الاخرى .
في اعتقادي الخاص الذي لا اشك ان الكثيرين يشاركونني في فحواه ، ان الحرية ايا كان شكلها ومضمونها وغاياتها لها حدود تقف عندها ولا يحق لها ان تتجاوزها . وقديما قيل تنتهي حرية المرء حين تبدأ حرية الآخر ، وهذه المقولة يمكن اعادة صياغتها على النحو التالي : تنتهي اية حرية مهما كانت عند حدود المساس بمعتقدات الآخرين ، كون هؤلاء الآخرين هم السواد الأعظم ، وكون هذه المعتقدات هي السائدة ، إضافة الى ان هناك خطورة بالغة لها تداعياتها جراء اية محاولة لتحديها اوالمساس بوضعها الراهن .
ومن المؤكد ان بعض الشرائح المثقفة التي تلصق بنفسها صفة الحداثة ، والتي انسلخت عن مجتمعاتها سوف ترفض هذا الطرح تحت ظلال التبشير بالحداثة وما بعد الحداثة والعصرنة والعولمة ، وتصر على عملية نقل قوالب جاهزة اخرى وتحديدا الغربية منها ، يساندها في هذا الاصرار هذا التدخل السافر من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين.
ان مشكلة هذه الشرائح مع مجتمعاتها انها متعالية عليه دون ادنى مبرر ، اضافة الى انها ترفض ثقافة الآخر ، ولا تؤمن بالتعددية الثقافية ، وتسعى جاهدة الى الغاء الموروث الثقافي الذي تتهمه بالتخلف والتحجر واستبداله بالمستورد غير عابئة فيما اذا كانت التربة والمناخ الثقافيان السائدان ملائمين له ، اوغير ذلك . واضافة الى كل ماذكر آنفا ، فان هذه الشرائح في احيان كثيرة تعمل تحت ظلال إيحاءات جهات خارجية وبدعم منها خدمة لمصالحها ومآربها التي لم تعد خافية على احد .
وهنا وان كنت أومن بالتعددية الثقافية ، وتقبل الآخر ضمن حدود ، الا ان الخطورة تكمن في انقسام المشهد الثقافي العربي العام وتجزؤه ، الامر الي يمكن ان يحمل في طياته خلق طبقية ثقافية موبوءة بالتشاحن وعدم التناغم ، وليس من المستبعد ان يصل الامر الى شكل من اشكال الصراع بين هذه الطبقات الثقافية تحت ظلال غزو ثقافي خارجي يهدد البنية الأساسية لمجمل الثقافة العربية .
وفي شأن آخر يخص مسارات هذه الحرية واتجاهاتها ، فحرية النشر ما كانت ولن تكون ذات مسار واحد او اتجاه واحد محدد ومقيد به دون سواه . ان حرية النشر الابداعي فضاء رحب تتعدد وتتجدد فيه الرؤى والتوجهات لتشمل المشهد الثقافي العام ، والمشهد السياسي ذو علاقة وثيقة بنظيره الثقافي الابداعي .
وأختتم هذه العجالة بالتحذير من مخاطر الانجرار الى مهاوي الانفلات في مضمار التوسع اللامحدود لأي شكل من اشكال الحرية ، ذلك ان هناك موروثا ثقافيا ومنظومة قيم عامة سائدة وهوية انتمائية ثلاثية الابعاد وطنية قومية عقائدية ، لا ينبغي لأية حرية ان تتجاوزها .
خلاصة القول ان المطلوب حرية نشر ابداعي لا تتجاوز اية خطوط حمراء ، حرية ذات تعددية في اهدافها ، تفتح نوافذها لتهب عليها كل التيارات الثقافية بكل الوان طيفها شريطة ان لا يكون هدفها الاقتلاع من الجذور بحجة التغيير والاصلاح ايا كان شكلهما ومحتواهما .