احتفت الأوساط الفكرية قبل أيام بمكة المكرمة عاصمةً للثقافة الإسلامية. الإعلان عن المناسبة تقاطع مع أحداث أخرى أشد استقطاباً للأضواء شملت إعصارين بخليج المكسيك، ومساهمة غاز بدت واعدة في حينها، إضافة ليوم إجازة جديد أثار من الجدل فوق ما بعث من البهجة. لنقف عند موضوع (العواصم الثقافية) قليلاً. مما سيعيدنا بالذاكرة حتماً للعام 2000 حين كانت (الرياض) عاصمة للثقافة العربية آنذاك. المأخذ الأول على ثمة (فعالية) كان ولم يزل تكريسها للغرض الدعائي للمناسبة. بمعنى أن تستغل تسمية مدينة ما كعاصمة لثقافة معينة؛ ليتم الاحتفاء بها هي (المدينة) عوضاً عن (الثقافة) المعنية أصلاً بالحدث. وليتم تسخير المناسبة ذاتها للدندنة حول المدينة، والدولة التي تضمها، وعدد المدارس والمستوصفات وإشارات المرور الشاهدة على ثقافة أهلها!
النتيجة التي آلت لها معظم احتفاليات (عواصم الثقافة العربية) تمثلت في مهرجانات خطابية مغرقة في المحلية، وفعاليات (ثقافية) نخبوية الطابع لا شأن للمتلقي العام بها. اللهم إلا ما تجود به قنوات الإعلام الرسمية. ومع الإقرار بوجود حالات استثنائية لثمة قاعدة، مثّلت (الشارقة 98) أبرزها، إلا أن المناسبات (العواصمية) العربية تظل أضعف من أن تترك أثراً معتبراً عند المشاهد العربي الذي قد لا يحركه مثلاً كون (الخرطوم) هي العاصمة الثقافية للعالم العربي هذه السنة.
هذه السنة أيضاً أطلقت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – الإيسيسكو- مشروع (عاصمة الثقافة الإسلامية). واختيرت مكّة المكرمة كأول مدينة إسلامية يتشرف المشروع بحمل اسمها. مسمى المشروع يفتح للوهلة الأولى مجالات استشراف رحبة لفرص يمكن أن تطرح عبرها تجارب ومفردات هذه (الثقافة الإسلامية) التي لا يقل جهل أهلها بها عن جهل غير المنتسبين لها. غير أن الفرحة الأولى سرعان ما تغتصبها مخاوف التجيير السياسي الذي حاق بـ (عواصم الثقافة العربية) قبلاً.
المتابع لتصريحات الجهات المنظمة لهذا الحدث يستشعر جهوداً تبذل واهتماماً للخروج به بالمظهر الملائم. لكن هذه التصريحات ذاتها تكشف أيضاً عن هوة معتبرة بين مرئيات تلك الجهات المنظمة وما يتوقعه رجل الشارع من مثل هكذا مناسبة. فيما لو كانت موجهة له أساساً. فالجهود موجهة على ما يبدو لإبراز دور (مكة المكرمة) في الثقافة الإسلامية.. وبتعريف المسلمين بأهميتها (!!) ولا يبدو أحد معنياً، بالمقابل، بالتوقف لبرهة عند تحديد ما يعنيه بالضبط مقطع (الثقافة الإسلامية) في المسمى الرنان للاحتفالية السنوية.
لكن المنظمين للنسخة الأولى من مهرجان العواصم الإسلامية ليسوا في الواقع سوى منفذين لسياسات (الإيسيسكو) وقرارها المنبثق عن المؤتمر الإسلامي الثالث لوزراء الثقافة الذي أقر المشروع “سعياً وراء إبراز مكانة هذه المدينة المقدسة، والتعريف بما قدمته من عطاءات للثقافة العربية الإسلامية عبر العصور المتعاقبة، وعرض أهم معالمها الدينية والحضارية، وذلك لتجديد وعي الأجيال الصاعدة، والرأي العام عموماً، بأهميتها” كما تنص صفحة الإنترنت الخاصة بالحدث.
ثمة إطار يدفعنا للتساؤل حول حاجة أم القرى مكة لمن يعرّف الرأي العام (المسلم) بدورها المحوري في الثقافة الإسلامية. وعن قدرة الثلاثمائة ورقة علمية محكّمة التي سيناقشها جهابذة الأدباء والمؤرخين في جلساتهم المغلقة على سد حاجة الأجيال الصاعدة للمعرفة. وعن ماهية الآثار الباقية بمكة التي تعول عليها (الإيسيسكو) ولم تطلها بعد يد الهدم والإزالة؟ ثمة حال يدفعنا للتساؤل عن جدوى الاحتفال بمثل هذه المناسبات التي قد لا تضيف الكثير للمشهد الثقافي أياً كانت وجهته؟
ففي الآن ذاته الذي يُحتفل فيه بمكة شرفها الله، فإن (مونتريال) الكندية تموج بالفعاليات كعاصمة دولية للكتاب. فيما تزهو (كورك) الإيرلندية بنحو سبعمائة ألف زائر جاؤوا ليشهدوا تسميتها عاصمة ثقافية لأوروبا للعام 2005.
كلتا المدينتين تمضيان أيامهما في استقبال أفواج من الزائرين الذين اجتذبتهم اهتمامات شتى جاءت تلك العواصم لتلبيها لهم. وإذا كان لنا أن نعامل التظاهرة (الإسلامية) التي تستضيفها مكّة بالمثل، فإن لنا أن نتوقع برامج موجهة لكافة شرائح المجتمع (الإسلامي) على امتداده الجغرافي الفسيح وعلى مدار العام، تعطي نبذاً عن تطورات الفنون الثقافية في كل أرجاءه من خط وإنشاد وترجمة. وتعرّف الجمهور بطيف من المبدعين المجددين لوعي الرأي العام بآخر ما جاء في شعر التفعيلة العربي، وبفن القصة في الهند، والفلوكلور في إندونيسيا، وتجارب المسرح في آسيا الوسطى والنجاحات السينيمائية في إيران والبوسنة فضلاً عن فنون النحت والرسم والتصوير والرقصات الشعبية في إفريقيا السوداء والمرتهنة جميعها بالمفهوم الإسلامي للحياة.. جنباً إلى جنب مع بحوث التاريخ والإعجاز العلمي وسواها. ذلك هو مفهوم (الثقافة الإسلامية) الذي يتبادر للذهن وذاك هو دور (العاصمة الثقافية) الذي كان متوقعاً من ثمة مشروع عملاق يثير عنوانه اهتماماً يتجاوز حدود الأوطان التي يغطيها.
من جديد يخشى أن تقع الثقافة ضحية لتسييس الواقع. ومكة كعاصمة ثقافية تعدنا بطبيعتها بالكثير لاسيما وأنها بتنوعها وتعقيدها العرقي الذي كرسته قرون من الهجرات المتتابعة تبرز كأكمل مثال للتعبير عن (الثقافات) الإسلامية التي لا يجوز دمجها تحت غطاء واحد. وإذا كانت (الإيسيسكو) قد أقرّت مشروع العواصم الإسلامية بعد مكّة بواقع مدينتين كل عام أحدهما عربية. فإن لنا أن نتوقع تطويراً أكثر لفكرة المشروع. ولعل (إصفهان) و (حلب) تنجحان العام المقبل في توسيع نطاق المشاركة الثقافية، وفي الخروج بـ (الثقافة الإسلامية) عن القالب المحلي الذي يناقض عالميتها.. وربما في تقديم تعريف وافٍ لها قبلاً.