المشكلة الأبدية التي لا يوجد لها حلّ هي النيّات الطيّبة لأولئك المساكين الذين يتعاملون مع مهنهم متّبعين ما تمليه عليهم ضمائرهم، في حين أن المهنة الرائجة التي تدرّ الربح الوفير تلك التي يتعامل من خلالها الناس كجَرّاحِين، ببرودة شديدة وكأنهم يؤدون ما هو ما هو مطلوب منهم بلا زيادة أو نقصان. الجرّاح يمكن أن يقوم بكل العمليات الجراحية الصعبة ببساطة شديدة، أما عمليات عمليات الجرّاحين لذويهم أو للذين يحبونهم فهي صعبة، لأنهم يتعاملون مع الجرح بوصفه جزءاً من كل هو الإنسان الذي يتحمّل الألم ويؤثّر عليه فشل العملية تأثيراً شديدداً، قد يشكل له عاهة مستديمة أو قد يودي بحياته.
في المهن كلّها، وبخاصة في مهنة الأدب ينبغي أن نتعامل مع موادّنا بوصفها شيئاً يحتاج إلى جرّاح ماهر وليس إلى جرح. غير أن معظم الأدباء الذين يشكّلون منعطفاً مهماً في تاريخ الأدب، يمارسون هواياتهم التي هي حياتهم- كما يتعامل الجرح- وليس الجرّاح مع الألم. يعانون ما يكتبونه، ويكتبون ما يعانونه. وهكذا يندغمون في الكون ويفكّرون به بوصفهم جرحاً فيشعرون به وبمآسيه، فيغدون في نظرهم كل جرّاح في مجال الأدب والفكر هو قاتل يتعامل مع العالم ببرود يغيظ يشبه عمل أولئك الذين يتقنون أوزان الشعر فيصفّون الكلمات ضمن أحد البحور ويسمّون ما يكتبونه شعراً بالرغم من أنه يبتعد عن حالة الشعور- التي هي معاناة- بُعد (بفتح الباء) فرعون عن الفضيلة .بعض الأدباء يتقنون رصف الكلمات، وبالتالي فهم بارعون في تجارة الكلمة على طريقة (القص، لزق) فمشهد من هنا ومشهد من هناك يشكل في خاتمة المطاف مسلسلاً من ثلاثين حلقة.
أما تلك المقالات المدمّجة (المفبركة) فجملة من هنا وجملة من هناك تشكّل مقالة من ألف كلمة تنتج استكتاباً أو مكافأة (محرزة) يقبضون عليها خمسمئة ليرة في الصحف المحلية، ثم يغيرون عنوانها ويرسلونها إلى الصحف المركزية فيقبضون ألف أو ما يزيد عليها، ثم يرسلونها إلى صحف الخليج، بعد التعديلات اللازمة لتصبح موجّهة لمعالجة جراح الخليج ويقبضون عنها مئتي دولار، غير أن المشكلة التي تواجه هؤلاء (الكتبة) هي جمع تلك المقالات في كتب، وهذا أمر لا يستطيعونه وإلا انكشف المستور حيث يعيد النقّاد الجمل إلى أصولها ويتضح (القص واللصق) الذي مورس من قبل جرّاح الكلمة الذي لا يستطيع أو لا يرضى أن يكون جراحاً يعاني مما كتب أو مما يقول وإلاّ اتّهمه ذووه بالغباء والسطحية في عصر يبدو الناجح فيه هو من يقدر على جمع الأموال بفهلوية لا يناسب العصر سواها.
وإذا قرّبنا الفكرة لأنفسنا – نحن المساكين- الذين نعاني مما نكتب فسيكون ذلك من خلال مقال متكرر عبر التاريخ:
نسمع بتاجر أعلن إفلاسه –تحايلاً- أو بفتح ملف فساد وزير أو مسؤول، فنُشحن ويغلي دمنا ونبادر إلى المساهمة في تصحيح الوضع وتقييمه وتقويمه.. نسهر الليالي ونحن (نبحبش) ونجمع الوثائق ونحلل ونجري تحقيقات واسعة حول الظاهرة، ثم نكتشف أن التاجر المفلس أصبح أكثر غنى من خلال شركة جديدة قامت على أنقاض شركته المفلسة، بل بسبب إفلاسها.
والمشكلة أننا – دائماً وفي كل مرة- نفاجأ حين نسمع بأن الوزير الفاسد قد نال ترقية أو مكافأة عن فساده بحيث غدا مستشاراً مهماً في هيئة تخطيط الدولة أو سفيراً في دولة مهمة تدر عليه الربح الكثير وتتيح له المجال ليتاجر بنا بعيداً عن السمع والأبصار.
المشكلة ليست في التاجر أو المدير أو الوزير، بل فينا – نحن المساكين- الذين نصدّق الادعاءات ولا نتعلم من التاريخ أن الفساد مركّب متضامن يملك القوة اللازمة لاستمراره، ولإمعانه في تسفيهنا نحن الذين نتمسك بالشرف والإخلاص والأمانة وعدم التزلف أو التملق.
لقد آن لنا أن نتصالح مع أنفسنا ونرضى بما نحن فيه من غير التمتع بسذاجة أننا رسل الإنسانية الذين بُعثوا أو نصًبوا أنفسهم لتصحيح مسار العالم. لماذا لا نرضى بما نحن فيه متحلّين بالقناعة في ممارسة أحلامنا الصغيرة .. نحلم ونعيش ونرضى من أن نحمل هم الغنى أو الأغنياء وممارساتهم، بل لماذا نحمل همّ الفقراء أيضاً ؟
إن المشكلة تكمن بالتخلص من السماح لمن يحيطون بنا بالتحكم بحياتنا..
الزوجة .. الأولاد .. الأقارب .. كلهم يريدون أن تكون غنياً وشريفاً وهذا لا يستقيم..
لنكفّ – نحن المساكين- عن الأحلام المستعصية التي تجلب الهم، ولندرك الحقيقة القائمة: كلّ منا غارق، بعضنا غارق في دوّامة العمل، وآخرون في دوّامة السلب والنهب، وبعضنا في دوّامة المناصب.. وكل منا يستزيد.
أما آن لنا – نحن المساكين على الأقل- أن نتوقف لحظة للتأمل راضين بأنفسنا كما هي، وبما لدينا من غير محاولة تشبه محاولة النمر القيام بقفزته الشهيرة لالتقاط القمر؟
ولا تعني القناعة – بأي شكل- استسلاماً وخنوعاً وتثبيطاً عن السعي، ولكنها تعني الرضى والسلام مع النفس والتصالح مع العالم بطريقة تسمح لنا بالعمل الدؤوب الرصين وبالحلم الهادئ العاقل الذي ينبئنا أننا، ما دمنا قادرين على أن نبتسم، فهذا يعني أننا بخير.