ثمانية وعشرون عود ثقاب، تشعلها من ذاكرتها التصويرية الحديدية الكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار، في أولى رواياتها "أعواد ثقاب" (244 صفحة) الصادرة عن مطبوعات القصة بندوة الاثنين بالإسكندرية، بإشراف الناقد عبد الله هاشم. لكل عود ثقاب اسم تطلقه عليه الكاتبة، فيكون هذا الاسم عنوان الفصل فالعود الأول، على سبيل المثال بعنوان "وطني قطعة جبن مثقوبة"، والعود الأخير بعنوان "قد نموت بعيدا"، وما بينهما أعواد ثقاب تشعلها الكاتبة من وحي زيارتها أو رحلتها من الإسكندرية، إلى مدينتها غزة الفلسطينية، بعد غيبة أعوام كثيرة، فتجئ بقية الأعواد أو الفصول عبارة عن (فلاشات باك أو ومضات من الذاكرة) ذات إضاءات قوية، تحمل حنينا جارفا لأيام الطفولة، وما جرى فيها من أحداث سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية.
ما أن تدخل الساردة بيت العائلة، وتلتقي بأمها، وتطمئن عليها، إلا ويبدأ شريط الذكريات، وتقفز الصور إلى الوجود، وتتحرك الأشياء إلى الماضي، ويعود الزمن مع الذاكرة إلى الوراء (أنزلت حقيبتي، أرقب الشارع الخالي، بعد غيبة سنوات طويلة .. أعود إلى بيتنا مرتع طفولتي) لتجد غرف البيت وأسرَّته خاوية، ووسائده حزينة لغياب أحباب من أهل الدار، فتدخل حجرة المطبخ لتعد فنجان قهوتها، فتجد علبة الثقاب ساكنة، فتمتد إليها أصابعها، وتبدأ في إشعال أعوادها بضغطة ناعمة على جدار العلبة، فيشتعل ويتوهج كل عود، وتبدأ أحداث الرواية.
وعلى ذلك تقف الساردة ـ في مطبخ العائلة ـ على حافة عالمين: عالمها الآني بكيانها الحالي في دار العائلة، وعالم الطفولة، الذي يبدأ في الصعود إلى الرواية اعتبارا من قولها في العود الثاني: (أنزل على عتبات سلم بيتنا أتقافز من عليها ذات اليمين مرة، وذات الشمال مرة، ومرات آخذة حافة الجدار حيث ألقي بجسدي الصغير على ملمسه الناعم فأجد نفسي أسفل الدرج، وأحيانا تلمحني أمي .. تصيح بي .. ألن تكفي عن هذا .. لِمَ لمْ يخلقك الله صبيا ويكمل الجميل .. الخ).
من هنا تبدأ الرواية رجوعا إلى الوراء، واشتعالا لأعواد الذاكرة المحبة للناس والأرض والوطن، فنرى لوحات جميلة لطبيعة الأرض الفلسطينية في غزة، ونستمع إلى حكايات العائلات والناس، ونعيش أحداث الوطن، ونشارك الفدائيين عملياتهم ضد العدو، منذ ما قبل صيف السابع والستين، وحتى عام 1987.
إنه رجوع إلى الوراء، به تقدم إلى الأمام، خلال سنوات السرد.
لقد رأت الساردة في طفولتها (الجنود المصريين يندفعون عبر الممرات والشوارع الخلفية، يقفزون فوق الأسلاك على أسطح المنازل في المناطق المهجورة إلى أن حطوا في حديقتنا. خرج أبي إليهم .. حفاة مهلهلين الثياب .. مجردين من السلاح .. بزاتهم العسكرية قد يظهر منها شيء .. عليهم بنطال .. قميص يترنح من على الأكتاف .. ذقونهم .. شعورهم كثة .. وقف أبي بينهم تهامس معهم .. أتى بالخرائط يشرح لهم ليعبروا إلى ممرات آمنة، وسط نظرات زائغة وقلوب كسيرة شق طريقه بينهم ليحمل ملابس يرتدونها ليواصلوا طريقهم عبر الحدائق وبيارات البرتقال إلى حيث خط لهم أبي على ورقة الخريطة ..).
ومن ساعتها لم يكف أهل غزة عن المعاناة، والتفتيش، وحظر التجول، ومداهمات البيوت والمنازل، بحثا عن فدائيين مصريين أو فلسطينيين، كل هذا ـ وغيره ـ ترصده الساردة بلغة كاشفة واصفة تميل إلى البساطة والشاعرية، رغم العذاب النفسي والبدني، وطقوس المعيشة اليومية الصعبة في أحياء غزة وشوارعها، التي لم تنس الساردة تفاصيلها الصغيرة. ومن ثم نكون أمام تحليل أو تشريح لواقع المجتمع الغزَّاوي منذ سنوات ما قبل هزيمة 1967 وحتى اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، من خلال السرد الروائي الكاشف. حيث تكشف لنا الساردة سلاحا من أهم الأسلحة الفلسطينية، وهو الإنجاب (نحن نحتاج إلى شعب لتبقى المقاومة كالشلال الدافق) فضلا عن سلاح اليقين بأن كل ما يفعله الإسرائيليون إلى زوال.
تتذكر الساردة بداية علو الأبنية والجسور والإشارات المرورية الإلكترونية الحديثة، فتقول لوالدها: انظر يا أبي هذه أشياء لم نرها من قبل. فيلتفت الأب إلى أولاده الصغار، ويعاود النظر إلى البنايات واللافتات البراقة للمطاعم والسينمات وبيوت اللهو، ويرد قائلا: كل هذا سيزول .. كل هذا لن يدوم لهم.
أحيانا تدخلنا الساردة إلى منطقة أخرى من الذكريات، أسميها ذكريات الذكريات، وذلك من خلال تقنية روائية استخدمتها (الكاتبة) بنجاح في أكثر من منطقة سردية، فالساردة تستدعي من خلال ذكرياتها شخصية ما من كبار شخصيات العائلة، تقوم بالتذكر والحكي والعودة إلى الوراء، فكأننا بذلك أمام فلاش باك من داخل فلاش باك.
وعلى سبيل المثال تتذكر الساردة عمتها التي (تشعل عود ثقاب) فتنهض بقامتها الممشوقة تخاطب الرجال في مجالسهم، فتذكر الجدة زبيدة التي حكت لهم عن غزو الرومان، حيث كان النساء يتقدمن الصفوف وينزعن أوتاد الخيام ويتصدرن (كتبت خطأً: ويتصدروا) المعارك قبل أن يصل إليهن الرجال.
وفي المقابل يتذكر الرجال الاحتلال الذي حطَّ في بلادهم دون طلقة رصاص واحدة. ويقصدون (الأراضي التي ضمها الملك إلى مملكته في ضفة شرقية، بعدما كانت تسمى صحراء فلسطين).
وعلى هذا النحو تمضي الحكايات ويمضي السرد من داخل السرد، إلى أن يعلن الرجل المبروك من مغارته الرمزية، موت جمال عبد الناصر، (يغرس أنامله في الثلج، ويمرغ جبينه فيه، ويرفع هامته، ويعيد كلماته، فيرددها الصدى، فيحملها تدق على النوافذ، على الأبواب الموصدة، والعيون المترقبة: مات جمال). وكانت لحظة غرق فيها الجميع، وخاصة المدرِّسة ربيحة ـ في مدرسة المأمونية للاجئات ـ التي هوت على مقعدها، وانفجرت في بكاء محموم تناثرت حممه على دفاتر التلاميذ وأقلامهم وأحلامهم.
وتتذكر الساردة أنه كان لجمال مكان بينهم، بصوته الساحر الذي كان يغرس مع أبيها دوالي العنب، ويضرب بالمطرقة معه يدا بيد. ويتذكر أبوها خطاب جمال في قطاع غزة 20/3/1955 حينما قال: "لن ننسى فلسطين أبدا".
هنا يقفز أيضا إلى ذاكرة الساردة الضحكات الماجنة والرشاشات المصوبة إليهم، والنظرات الساخرة، والكلمات التي ينطقونها بعربية ركيكة من أفواههم: "لقد مات حبيبكم".
إنه عود الثقاب التاسع، ولهب من شعلة العود الثامن، خصصتهما الساردة لجمال عبد الناصر، وجنازته المهيبة.
ويمضي قطار الذكريات السريع، لنرى الأب يجهز نفسه، مع اشتعال العود الحادي عشر، في أول أيام عيد الفطر، لزيارة المعتقلين، بناء على أوامر الحاكم العسكري الإسرائيلي، فيأخذ معه الحلوى التي كان يرفض صاحب محل الحلويات أخذ ثمنها عندما عرف أنها ستذهب للمعتقلين، وأمام إصرار الأب وقسمه، انصاع البائع وأخذ نصيبه.
وهنا نلاحظ أن قائد المعتقل يقول للأب بلغة عربية ركيكة: كل عيد وأنتم بخير.
ولم أدر هدف (الكاتبة) من سرد هذه الواقعة، هل هو تجميل لصورة العدو الذي أعرف أنها تكرهه؟ أم هي أمانة العرض؟ أم هدفها وضع أيدينا على الأساليب الملتوية التي تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب؟ أم أن السبب هو انتصار السادس من أكتوبر ـ العاشر من رمضان ـ لقد خطب الأب في المعتقلين قائلا: عبر المصريون القنال ... أفيقوا .. استيعدوا أنفاسكم الهاربة من صدوركم.
وفي جميع الأحوال ستظل هذه الملحوظة تشغل بال القارئ، إلى أن يجد تفسيرا مقنعا لها.
إن الأب بعد عودته من زيارة المعتقل يحكي لأبنائه وزوجته شريفة ـ التي أهدتها الكاتبة روايتها ـ ما حدث أثناء الزيارة، وهو ما حفظته ووعته الساردة طوال هذه السنوات لتسرده علينا، وتتذكر أنه في هذا اليوم وجدت نورا يملأ جوانب خزانتها، وهواء يدور في أرجاء كانت مظلمة.
وهنا أتساءل: ألم يعرف رجال المعتقل أن النصر قد حدث في العاشر من رمضان، وقبل زيارة الأب لهم أول أيام عيد الفطر، أي بعد عشرين يوما من بداية المعارك؟ ألم تتناه إلى أسماعهم أخبار عبور القنال، واشتعال الحرب على ضفة القناة وداخل سيناء المحتلة؟ وهل انتظرت الساردة عشرين يوما حتى ترى النور يملأ جوانب خزانتها، وتشم الهواء النظيف؟
ومن خلال الذكريات، وذكريات الذكريات، ومع اشتعال العود الثاني عشر، نقرأ إن معزوزة ـ زوجة إبراهيم أبو دية ـ تخرج للإنجليز منتفخة الجسد، تلف على جسدها البارود والسلاح، وتمضي أمامهم بخطى متئدة واثقة مرفوعة الرأس تمضي بأحمالها تحمل عبق الأرض الذي ضمخ جسدها بقطع السلاح. لتكون مثالا بعد ذلك لشادية أبو غزالة (1968) وسناء محيدلي (شهيدة الجنوب اللبناني 1985) ودلال المغربي (1987)، وآيات الأخرس (2002) ودارين أبو عيشة (2002) وعندليب طقاطقة (2002) وهبة دراغمة (2003) والمحامية هنادي جرادات (2003) وريم الرياشي (2004)، وطابورا آخر من الفدائيات اللواتي فجرن أنفسهن مثل معزوزة، أو بطرق أخرى.
ويكشف العود الخامس عشر، الخطط الفلسطينية البسيطة التي يضعها الناس كي يلتقوا بأحبابهم وأبنائهم وذويهم المبعدين، وكي يعبروا من حواجز التفتيش المنتشرة في كل مكان على الأرض الفلسطينية، وهو ما حدث مع الجدة (حورية) التي اشتاقت لابنها كاظم، فانتحلت اسم ابنتها (فاطمة عبد القادر)، ويظل أفراد العائلة يرددون الاسم الجديد على مسامعها حتى تحفظه وتعيه، خوفا من كشف الأمر لدى سلطات الاحتلال فتكون العواقب وخيمة.
وتنجح الجدة في مهمتها وتعود بكاظم الذي يفاجأ بموت ابنته (ابتسام) التي لم يرها، نتيجة ابتلاعها لسائل دهن الشعر، فسرى السم في جسدها الصغير. وهي حكاية إنسانية، أو مشهد إنساني مؤثر نسجته يد الكاتبة باقتدار، وكأنه قصة قصيرة تفرعت عن الرواية الأصلية، أو عود ثقاب ذو طبيعة خاصة عن بقية الأعواد، إنه العود السابع عشر الذي أسمته الكاتبة "مَنْ كسر القمر؟"، والذي كان له أكبر الأثر في اشتعال العود الثامن عشر "تحت أوراق التين" حيث مشهد آخر أكثر تأثيرا تتذكر فيه الساردة قصة موت فايزة في مستشفى هداسا، بعد مرض عضال ألم بها بعد موت ابنتها ابتسام.
وقصص وحكايات أخرى، أو أعواد ثقاب وأحاديث عن الوشايات التي بدأت تدب في أوصال الشعب الفلسطيني، وعلى أثرها تحلق الطائرات المروحية فوق الرؤوس لتقتل مَنْ تقتل وتجرح مَنْ تجرح، ويظل السؤال حائرا (من أين أتت الوشاية؟) وتكون الإجابة (رجالنا سيعرفون حتما من أين جاءت الوشاية).
وتكبر الطفلة التي تتكئ عليها الساردة في إشعال أعوادها، وتبدأ أنواع أخرى من أعواد الثقاب في الاشتعال، إنه العود الثالث والعشرون، حيث اشتعال الحب والعاطفة في أجواء الرواية، ولأول مرة نجد في الرواية سطورا مثل (أنا أحب عبد الحليم حافظ .. "لست وحدك حبيبها"). وتبدأ بنات المدارس في الحديث عن الحب والعاطفة، وخاصة بنات أهل يافا اللواتي ـ من وجهة نظر الساردة ـ يحببن الطرب وساعات المرح.
ولكن خطاب العاطفة لا يجئ على حساب خطاب المقاومة، فإذا كانت أغاني عبد الحليم تدور همسا وسرا بين البنات، فعلى سبورة الفصل كتبت أبيات من شعر كمال ناصر:
(يا فلسطين لا تراعي ففينا همة تصفع الزمان القاهر).
وهناك أيضا أشعار محمود درويش: (سجل أنا عربي).
وهناك أيضا مقاومة من المدرسات والتلميذات لإبراهام الذي يحمل أكياس الملبس الملون، ويوزعها على فصول المدرسة، ويطمئنهم أنه يجيد العربية، وأنه من مواليد حي الأعظمية ببغداد، وجاء إليهن لتوفير الأجواء الدراسية كي يتقدمن ويتفوقن، ولكن أحدا من البنات لم يقرب من أكياس الملبس الملون.
ولا ينتهي اشتعال العود الثالث والعشرين، إلا باشتعال أكثر حرارة وسخونة عالمية، إنه اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، وخروج المظاهرات التي تهتف ضد الاحتلال من جميع المدارس، وتتوقع إحدى الطالبات عودة الجيش المصري وجنوده، (يا رفيقتي بعودتهم سأعود إلى مدرستي .. لقد مللت الانتظار) ويظهر إبراهام ثانية محذرا ومهددا (التزموا الهدوء .. لا فائدة من كل هذا .. ستتعرضون للسجن وأهلكم سيتعذبون من جراء أفعالكم). فتجيب التلميذة بهية في تحدٍ وصلابة (اخرجوا من بلادنا .. وعد إلى العراق إلى الأعظمية، واترك لنا فلسطيننا).
وكانت النتيجة بعد اشتعال العود الرابع والعشرين (عاجلونا داخل الفصول وأوصدوا الأبواب علينا وتناوبوا الضرب وتكسير العظام .. نزف .. وصراخ .. تفتيت سواعد ..) فتلتهب الحناجر بكلمات كمال ناصر، ومعلمهم محمد عدوان.
ومع اشتعال الانتفاضة وتصاعدها على هذا النحو، يتوقف قلب الأب، الذي كان يعمل محاميا، ويرحل يوم استشهاد المهندس يحيى عياش (الجمعة الخامس من يناير 1996م)، ويدفنان في مقبرة واحدة على أطراف غزة.
تستمر الانتفاضة، ويشتعل العود السادس والعشرون مضيئا مشاهد أخرى للأخت التي تعالج في إحدى المستشفيات الأمريكية من مرض السرطان الذي يفتك بجسدها ووصل إلى مرحلة متأخرة. ويبدأ شريط الذكريات الجميلة بين الأختين في الإسكندرية حيث التجوال في شارع البحر أو الكورنيش (كلماتك تسبح في كياني يوم ركبت السيارة تجوبين شارع البحر، وتفتحين النافذة فيطير هواؤه شعرك الغجري .. كم هي رائعة رائحة البحر .. إنه اليود .. وكنت تأخذين نفسا عميقا وتزفرين .. تزفرين بلاد العجائب .. وتتنفسين هواء هو سر حياتنا هنا ..).
وحين يريد أحد الأخوة السفر إلى أخته للوقوف معها في محنتها الكبيرة، التي تعادل محنة الوطن، ترفض السفارة الأمريكية ـ في إسرائيل ـ سفره، فيقول لموظف بلاد العجائب: (أختي تموت في بلادكم .. أعطني موافقة لا وقت لدي لأضيعه).
فيرد عليه الموظف بنظرة غضب وزفرة مارد خرج من أتون النار قائلا: أنت كثير الكلام. ويختم على جواز سفره بعبارة (مرفوض) وينادي رجال الأمن ليلقوا به في الخارج.
وبإيحاء فني مؤثر تطرح علينا الساردة الموقف الأمريكي تجاه الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة.
وتنتهي الرواية بعد إشعال العود الثامن والعشرين، (وكأنه العود الأخير في إبجدية الذكريات، أو أبجدية الاشتعال) بوقوف الساردة أمام أحد شبابيك مكتب البريد بالإسكندرية، لترسل لأختها عددا من أعداد مجلة الدوحة (القطرية) التي نشرت لأخيها الشهيد ماجد (ماجد أبو شرار) موضوعا بعنوان "الرحيل"، ومن خلفها تقف امرأة فلسطينية عجوز تريد إرسال رسالة إلى فلسطين، فتكتب على المظروف كلمة (إسرائيل)، فتقنعها الساردة بأن العنوان غير واضح، ولن يصل البريد بهذه الطريقة، وتأخذ منها الرسالة وتضعها في مظروف جديد تكتب عليه: فلسطين / القدس .. مع بقية العنوان. وتطمئنها بأنها امرأة فلسطينية مثلها، وأن خطابها سيصل.
ومع نهاية لهيب العود الأخير، يدور حوار بين الساردة وتلك المرأة الفلسطينية التي تعيش بمفردها في الإسكندرية، بعد وفاة زوجها المصري، وعندما فكرت في العودة إلى القدس، وذهبت إلى (سفارتهم) في أحد شوارع القاهرة، لأخذ تصريح بالدخول، قذفت المرأة الإسرائيلية بالأوراق من فتحة أسفل القاطع الزجاجي، وقالت لها: مرفوض دخولك هناك يا ست.
فتوضح لها المرأة الفلسطينية الأمر قائلة: أنا ولدت هناك في بلدتي القدس في بيت حنينا .. خلف أسوار القدس العتيقة. فترد عليها قائلة: هيا افسحي مجالا لغيرك.
ويبقى اشتعال النفوس على ما هو عليه من شوق للعودة.
هكذا تطوف بنا بشرى أبو شرار من خلال أعواد ثقابها الثمانية والعشرين، في قلب التاريخ الفلسطيني والمصري والعربي الحديث، من خلال ذاكرة قوية وعين لاقطة، ومن خلال انفعالها بكل حدث يمر بالوطن منذ صغرها وحتى ما بعد أحداث الانتفاضة الفلسطينية، لتقدم بذلك شهادتها الفنية، من خلال القالب الروائي، على الأحداث.
ولتكمل بذلك ما بدأه غريب عسقلاني في روايته "جفاف الحلق" التي أشرنا إليها في مقال سابق، من خلال ما يرويه الطفل الشاهد على الأحداث والأزمنة والتحولات الكبرى للشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحتل، بعد عام النكبة وخلال سنوات الخمسينيات. مع ملاحظة اختلاف أسلوب التعبير، وطرائق استخدام التقنيات الروائية الجديدة، لقد حاول الطفل غريب في "جفاف الحلق" إبراز الجانب الإنثروبولوجي للمكان، فلم يكن حديثه عن القضية زاعقا، فبرزت تقنياته الروائية بشكل جيد، على عكس ما فعلته الساردة في رواية "أعواد ثقاب" التي كان كل همها إبراز جوانب القضية منذ طفولتها وحتى اللحظة الراهنة، حتى لو كان على حساب الجماليات الفنية أو التقنيات الروائية الجديدة، فكان السرد والوصف (من خلال الفلاش باك) مع الحوار، السمة الغالبة، فلم نجد على سبيل المثال مكانا لتيار الوعي، أو المونولوج الداخلي، وما شابه ذلك، ولم نجد توظيفا للهجة الغزَّاوية مثلما رأيناها عند عسقلاني، بل كان حوار الأعواد كله بالفصحى المبسطة، ولم نجد كلمة نابية أو غريبة، أو غارقة في محليتها، مثلما قرأنا عند عسقلاني.
وليس غريبا أن تتفق الروايتان على حب جمال عبد الناصر، وإبرازه في صورة أقرب ما تكون إلى القداسة، فالأب في "جفاف الحلق" عاد من مصر قبل أسبوع (من وقوع الاعتداء الثلاثي عام 1956)، متحدثا بإعجاب وتقديس عن جمال عبد الناصر والجيش المصري حول القناة وفي سيناء.
وتتذكر الساردة في "أعواد ثقاب" أن لجمال مكانا بينهم، بصوته الساحر الذي كان يغرس مع أبيها دوالي العنب، ويضرب بالمطرقة معه يدا بيد. ويتذكر أبوها خطاب جمال في قطاع غزة 20/3/1955 حينما قال: "لن ننسى فلسطين أبدا".
إن "أعواد ثقاب" تشعل حماس القارئ، لمعرفة تفاصيل المعيشة في مدينة غزة، وكيف تواجه جيش الاحتلال الإٍسرائيلي بها، من خلال معايشة واقعية، وأساليب أدبية وفنية، لا يمل منها القارئ، بل تجعله أكثر انفتاحا على قضايا إنسانية عميقة، في تلك البقعة من فلسطيننا، ومن وطننا العربي الكبير.