قراءة في قصة قصيرة لنجيب محفوظ:
لنجيب محفوظ قصة قصيرة في مجموعته (خمَّارة القط الأسود) اسمها (جنَّةُ الأطفال)، البطل الرئيسي في القصة هو (الحوار) الذي يتسيَّد السرد سيادة كلَّية، ويحاصره في جمل قليلة، كأنما اضطر إليها الكاتب اضطراراً لتؤدي دور أدوات الربط لا أكثر . وإذا كان الحوار هو الأساس في فن المسرح، فإن محفوظ وظَّفه كحتمية بنائية في قصة قصيرة تعتمد في حكايتها علي سجال متنامي بين طفلة وأبيها، طفلة لم تتقبل براءتها أن تبتعد عنها صاحبتها حتى في حصة الدين، فهي مسلمة وصاحبتها مسيحية.
والقصة تبدأ مباشرة بهذا الحوار:
( ـ بابا)
( ـ نعم)
( ـ أنا وصاحبتي نادية دائماً مع بعض)
( ـ طبعا يا حبيبتي فهي صاحبتك)
ثم يتوالد الحوار في متوالية مستمرة من سؤال وجواب. فسؤال الطفلة حتماً يقودها إلي أسئلة أخرى، أسئلة غالباً ما تكون مفاجئة أو صعبة. وإجابات الأب ـ التي تجاهد في الاقتراب من عالم الطفلة ـ تأتي قسراً منقوصة أو مراوغة أو حائرة، وهي تحاول المواءمة بين الحقائق الكبرى للأشياء وقناعات العقل الصغير، فتدفع أيضاً بالحوار قدماً للمزيد من الأسئلة. وهكذا دواليك تمضي القصة من موضوع مهم لآخر، ومن قضية شائكة لأخرى، لكنَّها في كل الأحوال ظلَّتْ قريبة من القضية الرئيسية التي أثارتها الطفلة، والتي تمثل لدى محفوظ الفكرة الرئيسية التي يطرحها العمل.
قضايا القصة بالطبع شائكة، لكن العمل الفني لا يعدم حيلته أبداً لدى محفوظ ، فالسكارى في "ثرثرة فوق النيل" حتماً يثرثرون فيما يتحفظ عنه الآخرون من الأصحاء والعقلاء. والدراويش والمعتوهون والمجانين وغيرهم من النماذج البشرية موجودون في أعمال محفوظ ، عندما تستدعيهم الضرورة الفنية من أجل أن يقولوا أو يفعلوا الكثير.
لذا، فإن الطفلة هنا، بمنتهى البراءة، لن يكبحها كابح بعد في أن تسأل عما يجهله عقلها الصغير، أو لا تستوعبه فطرتها السليمة من تصرفات الكبار وحساباتهم الخاصة:
( ـ لم يا بابا ؟)
( ـ لأنك لك دين وهي لها دين آخر)
( ـ كيف يا بابا ؟)
وتمضي الأسئلة: إذا كانت تعبد الله وأنا أعبد الله، فلماذا هي في حجرة وأنا في حجرة أخرى؟ ومن هو الله يا بابا؟ .. أين يعيش؟ .. أريد أن أراه.
وتنحو القصة مرغمةً في السؤال عن الله في الديانتين السماويتين:
( ـ لكن نادية قالت أنه عاش علي الأرض)
( ـ لأنه يرى في كل مكان وكأنه يعيش في كل مكان)
( ـ وقالت إن الناس قتلوه)
( ـ كلاَّ يا حبيبتي، ظنُّوا أنهم قتلوه ولكنه حي لا يموت).
وهكذا تستمر الطفلة في أسئلتها عن المرض والموت والجنَّة والنار.
ورغم أن الأسئلة ظلت أسئلة لأنها صعبة، والإجابات ظلت إجابات لأنها غير مكتملة ، فإن محفوظ حسم القضيَّة في نهاية الأمر حسماً لا يقبل نقضاً ولا إبراماً، حسماً يستمد حيثياته من المنابع الأولى للبراءة والطفولة والفطرة السليمة، عندما قال:
( وتنهدتْ ثم صمتتْ فشعر بمدى ما حلَّ به من إرهاق. لم يدر كم أصاب ولا كم أخطأ وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه. ولكن الصغيرة ما لبثت أن هتفتْ:
ـ أريد أن أبقى دائماً مع نادية.
فنظر إليها مستطلعاً فقالت:
( ـ حتى في حصَّة الدين ! . )
وتنتهي القصة عند هذا الحد، رغم أن محفوظ أراد لها بضرورة غير فنيَّة، أن تمتد لبضعة أسطر أخر ، في حوار آخر بين الأب والأم التي كانت تنصت لهما طوال الوقت رغم انشغالها بالتطريز.