بعد "غواية الإسكندرية" لإبراهيم عبد المجيد، يأتي كتاب "غواية التراث" للناقد د. جابر عصفور، وهو مجموعة مقالات نشرها في مجلة "العربي" الكويتية خلال عامي 1994 و1995، بلغ عددها عشرين مقالا، وصدرت مؤخرا في سلسلة "كتاب العربي" بالكويت (العدد 62). ولم تخضع للتراتب الزمني للنشر داخل الكتاب، ولكن خضعت لمنهجية التسلسل والترابط المنطقي للموضوعات، بدءا من النموذج الأصلي للشاعر، وانتهاء بتراتب الأنواع الأدبية، ومع التدرج في قراءة المقالات العشرين، يبدأ دور الشاعر وأهميته في النظام المديني للمجتمع، أو في النظام البطريركي للسلطة، في الانحسار تدريجيا، في حين يبدأ صعود دور الكاتب، في هذا النظام، ونخص كاتب السلطة، أو كاتب الملك الذي يأمر عنه وينهي ويخاطب، وهي وظيفة لم تكن موجودة في النظام القبلي.
قبل هذا يكتب د. عصفور مقدمة ضافية لمقالاته أخذت عنوان الكتاب، أو سُمي الكتاب على اسمها "غواية التراث"، بدأها بقوله: "أغواني طه حسين ـ ولا يزال ـ بقراءة التراث الأدبي من منظور الزمن الذي أعيش فيه، والذي يتجاوب مع الأصيل من التراث، لأنه ينطوي على القيمة الإنسانية التي تصلنا به، وتصله بنا".
وهو يعترف في مقدمته بفضل أساتذة آخرين، تتلمذ عليهم بشكل مباشر أو غير مباشر، ابتداء من شوقي ضيف ويوسف خليف وعبد العزيز الأهواني وسهير القلماوي ومحمد النهويهي، ومرورا بمصطفى ناصف ولطفي عبد البديع وعبد الحميد يونس، وانتهاء بصلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل.
ولا ينكر عصفور دور أدونيس في إعادة قراءة التراث الأدبي، وما قدمه من جهد في هذا المجال بعد الارتحال بين أقاليم التراث وأقطاره والغوص في كل نصوصه الشعرية والنثرية.
ويتمنى عصفور في نهاية مقدمته أن تصيب عدوى غواية التراث بعض قرَّاء مقالات كتابه هذا.
صور الشعراء في التراث
في البداية يضع أيدينا على بعض صور الشعراء في تراثنا مثل: صورة الشاعر المادح، وصورة الشاعر اللاهي، وصورة الشاعر الصانع، وصورة الشاعر الداعية، وقد تغلب صورة من هذه الصور في عصر دون عصر لأسباب محددة، وقد تتجاور أكثر من صورة في عصر آخر لأسباب مغايرة، ولكن تظل كل هذه الصور بمنزلة نماذج متغيرة، لاحقة، متأخرة نسبيا، بالقياس إلى النموذج الأصلي الأقدم الذي بدأ به الوعي بالشعر والشاعر عند العرب، وهو نموذج الشاعر العارف بكل شيء، والقادر على كل شيء. وهو نموذج ظل يعود إليه كل تفكير في الشعر والشاعر في متواليات تعدد الآراء، وتغير الاتجاهات، واختلاف العصور، وتجدد الوظائف.
وعلى سبيل المثال نجد صورة الشاعر الداعية والنديم، بعد افتتاح عهد جديد من علاقة الكلمة الشعرية بسلطة الدولة التي اتخذت ـ فيما بعد ـ اسم "الخلافة"، وفي الوقت نفسه، أسهمت هذه الخلافة في تغيير مجموعة من العناصر الملازمة للنموذج الأصلي للشاعر، عبر تحولاتها الاجتماعية وصراعاتها السياسية، نتج عنها تحول في النموذج الأصلي للشاعر، فظهر شاعر البلاط الذي يمثل صوت السلطة المركزية المهيمنة، وكان هذا الظهور، في هذا السياق، يعني تقليص الحرية الإبداعية لهذا الشاعر في مواجهة السلطة التي تحميه، وينطق باسمها، ويتردد بين موضع النديم الذي يزخرف أمسيات المسامرة، وموضع الداعية الذي يدافع عن السلطة التي ترعاه وتدفع له. وبذلك يتباعد الشاعر عن نموذجه الأصلي الذي كان يجسد صوتا جمعيا متحدا.
سحر المعلقات
ولعل نموذج الشاعر الأصلي يجده المؤلف في شعراء المعلقات التي قيل إنها سبع، وقيل إنها عشر، ولكن يظل العدد سبعة قرين النموذج الأصلي للشاعر، والأقرب إلى الأبعاد الأسطورية التي تولد منها. وقد خلعت مكانة المعلقات على الشاعر ـ في ذلك الوقت ـ صفات الكاهن والعراف والحكيم والمعلم والمؤرخ والداعية، ورجل الدنيا والدين.
وإذا كانت قصيدة امرئ القيس أولى المعلقات التي علقها العرب على الكعبة، فإن قصيدة الحارث بن حلِّزة تعد سابعة المعلقات التي وضعت على جدران الكعبة، وهي قصيدة ارتجلها الحارث (الذي كان أبرص) في حضرة الملك عمرو بن هند، من وراء الستور السبعة التي بدأت في الارتفاع تدريجيا، كلما مضى الشاعر في إنشاده، وهو فعل مادي يقابل الفعل الروحي للقصيدة والمترتب عليها. لقد سحرت المعلقة الملك عمرو بن هند للدرجة التي أمر فيها الشاعر بعدم إنشاد القصيدة إلا متوضئا.
ويمر بنا المؤلف على موضوع تعليق المعلقات على جدران الكعبة، ضمن طقوس معينة، حيث يقوم أقطاب السادة من الملوك والرؤساء بانتخاب قصائد معينة لتذهيبها ورفعها على غيرها من القصائد، وكان ذلك فخرا للعرب في الجاهلية.
الشعر والجن وحوار الكائنات.
وهكذا نظل في رحاب الشعر الجاهلي، الذي كان في معظمه نموذجا للشاعر الأصيل، أو الأصلي، فنمر على قصة عنترة بن شداد، الشاعر الوحيد الذي لم يكن من بين أصحاب المعلقات سيدا في قومه من مبتدأ أمره، ثم تم الاعتراف به، ونحلق في سماء العلاقة بين الشعر والجن، والعلاقة بين الحية والغواية، ودلالة المطر الأسطورية الرامزة الدالة على الخصب، والتشبيه في القصيدة الجاهلية الذي يبدأ من الأنا وينتهي إليها، وحوار الكائنات واكتشاف العين الطفلية للشاعر الجاهلي، واتخاذ الناقة مرآة تجتلي فيها الذات وجودها، ثم الوقوف على حكمة اللذة في معلقة طرفة بن العبد، وحكمة التمرد عند الشعراء الصعاليك، واكتشاف صورة المرأة في شعرهم التي لم تكن بهكنة، هركولة، مربربة، ثقيلة الخطى، نؤوم الضحى، غانية تغري أحضانها بالهروب من الخطر، أو تشعل الشهوة التي تتوهج في اليوم الغائم، كأنها حضور جسدي دائم، وإنما هي الحبيبة والزوج الملهوفة والمحاورة والشريك ورفيق الضراء قبل السراء.
ويستعيد الشاعر الصعلوك حضور النموذج الأصلي للشاعر، ويصبح مجلى من مجاليه، على المستوى الذي غدا به الشعر نوعا من حكمة التمرد وتبريرا له، فارتقى شعر الصعاليك من فظاظة التجربة الدموية للغزو والإغارة إلى الأفق الإنساني المغاير للتأمل الإبداعي في علاقات الوجود.
نموذجان متناقضان للشاعر العربي
ولكن لم تستمر صورة الشاعر على هذا المنوال الأصلي، والذي من خلاله كان الشاعر أرفع منزلة من الخطيب، ولكن لما تكسب الشعراء بالشعر وجعلوه طعمة، وتولوا به الأعراض وتناولوها، صارت الخطابة فوقه، وأصبحنا أمام نموذجين متناقضين للشاعر العربي الذي أصبح ممزقا بين نموذج الحكيم ونموذج المادح، وذلك منذ أن أصبحت "لوازم العيش" قاسية، وأصبح الممدوح مصدر الحياة والموت، وفرضت العلاقات الاجتماعية السياسية على الشاعر أن يكون مجرد طالب فضل، يقول ما يراد منه، حتى لا يضيع رأسه الذي هو رأس ماله، فيما يقول ابن رشيق.
من هنا يجد القارئ أو المتابع لمسيرة التراث العربي حضورا مزدوجا للإبداع.
الشفاهية والكتابية واللسان والقلم
بعد ذلك ينتقل بنا عصفور إلى موضوع الشفاهية والكتابية، حيث تعني النزعة الشفاهية النظرة الأحادية إلى الكون والارتجال والتكرار الذي هو تنويع على مركز واحد، بينما النزعة الكتابية حال وعي مغاير، وبنية إبداع مختلف، وطريقة مناقضة في التلقي. إنها وليدة وعي مديني، ينطوي على التعدد والتباين، وتتسم بأن فاعلها يتحدث عن العالم ويصفه في الوقت الذي يتحدث فيه عن كتابة هذا العالم.
ومن الشفاهية والكتابية إلى حديث عن الطبع والصنعة، ثم وقوف عند القلم واللسان، حيث القلم رمز النزعة الكتابية، واللسان رمز النزعة الشفاهية، وهنا يقول الجاحظ إن اللسان لا يجري مجرى القلم، ولا يشق غباره أو يتكلف بعد غايته، فأثره ضائع، وحضوره مؤقت، ومداه موصول بمدى الصوت الذي سرعان ما ينقطع. أما القلم فهو علامة الحضور المتصل والزمان المتد للكتابة. ومن ثم ينتقل الحال من حال الوعي بالقبيلة إلى حال الوعي بالأمة. لذا يلاحظ كثرة مدائح القلم، فقد أصبح القلم دلالة على حضور العقل، والفكر، والروية، والفطنة، وعلامة على الحكمة التي تتكرر كثير في مديح القلم كأنها لازمة من لوازمه في سياق يدل على نوع الثقافة التي لابد أن يتأهل بها الكاتب. بل أصبح القلم دالا رمزيا في القصائد العباسية، وكان البديل الجديد للصورة القديمة التي اكتسبتها "الناقة" أو "الحصان" في الشعر الجاهلي.
بين الحكيم صاحب القلم، والسلطان صاحب السيف
ومن اللسان والقلم، إلى السيف والقلم، ومقارنة بين الحكيم صاحب "القلم" والسلطان صاحب "السيف" ومعادلها الرمزي: شهرزاد وشهريار، وبيدبا ودبشليم. وفي هذا يقول جابر عصفور: هذا التقابل بين "القلم" رمز الحكمة، و"السيف" رمز السلطة، في تعارضهما الذي اصطدم فيه الحكيم بالسلطان، وعاش في خوف منه، أو على حذر من بطشه، لم يكن تقابلا محصورا بين قمة الدولة، حيث أدى بيدبا ودبشليم، أو شهرزاد وشهريار، أدوارهما المعروفة في توتر العلاقة بين الحكمة الهادية للعقل والقوة الباطشة للسلطة، إنما امتد إلى مستويات الأدنى في البناء المتراتب للدولة، وهبط من توتر العلاقة بين الكاتب ـ الوزير ـ الحكيم ـ الناصح ـ العاقل ـ الأديب، من ناحية، والسلطان ـ الحاكم ـ الآمر ـ الناهي ـ القاهر ـ الباطش، من ناحية ثانية، إلى توتر العلاقة بين كل فئات الكتَّاب وكل فئات العسكر. للدرجة التي نسب فيها إلى سفيان الثوري قوله: "إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة، فلا توقظوه لها، فإنه يقوم يؤذي الناس".
ومن هنا ظلت العلاقة بين القلم والسلطة في تردد مستمر، إلى أن اقترب القلم من السلطة، من خلال بعض الوظائف الكتابية، فاحتل الكاتب محل الشاعر من حيث المكانة الاجتماعية، وغدا الكاتب أقرب إلى الخليفة، ويقع منه موقع الوزير المشير والناصح الحكيم والنائب القدير، في الوقت الذي قنع فيه الشاعر بدور المادح أو النديم، وبذلك يحتل الكاتب منزلته الجديدة التي أخذ يحتلها مع غلبة النزعة الكتابية على الثقافة، وسيطرة علاقات المدينة على الدولة، وتنطوي العلاقة بين الكاتب والشاعر في هذا السياق على عنف مكتوم أو ظاهر، وتوتر معلن، أو مبطن، ويضرب عصفور مثالا في ذلك بالتراتب الذي جمع بين أبي تمام، ومحمد بن عبد الله الزيات.
الكتَّاب ملوك، وسائر الناس سوقة
ويفرد عصفور ـ بعد ذلك ـ مقالا يعدد فيه فضائل الكتابة، ويختار من كتب التراث عبارات دالة على ذلك: "فالكتَّاب ملوك وسائر الناس سوقة"، و"الكتابة أول زينة الدنيا التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة"، و"الملوك أحوج إلى الكتَّاب من الكتَّاب إلى الملوك".
ولا شك أن مفهوم الكتابة في ذلك الزمان الذي يبحث فيه عصفور، يختلف عن مفهومها في زماننا. بل أن ابن خلف وضع تراتبه الأدبي مفضلا فيه الكتابة على الخطابة، والخطابة على الشعر، في قوله: "إن صناعة التأليف تنقسم على ثلاثة أنواع هي كالجنس لها، وهي: الكتابة والخطابة، والشعر. ومن هنا وقع التناسب بينها، ولكل منها رتبة في الشرف والفضل، ولكن صناعة الكتابة ترأس صناعة الخطابة، وصناعة الخطابة ترأس صناعة الشعر"، وهو ما يقلب التراتب الأدبي القديم الذي كان يضع الشعراء على القمة.
إنها جولة في كتب التراث العربي، لواحد أغواه هذا التراث، فأخذ ينبش فيه بذكاء ووعي كاملين، وخرج لنا بأهم نتيحتين من وجهة نظري، هما:
أولا: تراجع وظيفة الشاعر وأهميته في التراتب الاجتماعي، فبعد أن كان الشاعر ينام ملء جفونه ويسهر الخلق حول ما يكتبه بل وقد يختصمون حوله (أو كما قال المتنبي عن نفسه)، أصبح هذا الشاعر في مؤخرة هذا التراتب.
ثانيا: إنه لا شيء في بناء الدولة خارج حضور الكتابة، من أعلاها إلى أدناها.