ان الاهتمام بهذا الفن والتراث الأدبي من قصائد وأشعار لا يعد بأي حال من الأحوال لهو حديث، إلا إذا تجاوز الخطوط الحمراء، فالأعمال الانشادية مكملة للعناصر التي لابد أن تتوافر في أي حضارة وأي أمة، فالنشيد فن راقٍ وأفكار وآراء بطريقة تعبيرية مختلفة تعكس مشاعر الانسان ونبض وجدانه وأحاسيسه، فاهتمامنا بفن المقامات الذي يدرسه القراء والمنشدين هو اسثمار للصوت وتطويعه فيما ينفع، واهتمامنا بفن التجويد الذي يحسن ألفاظنا ويقومها هو علم يحسدنا عليه الكثير، واهتمامنا باثراء القصائد العربية يدعم حبنا للغتنا ويحافظ على التراث الأدبي والشعري، كذلك يدعم اعلامنا الاسلامي الذي هو لغة العصر والواجهة الأكثر تأثيرا للدعوة والاسلام، ولكن حاجتنا لهذا الفن – النشيد - في حياتنا كحاجة الملح للطعام، فلا افراط ولا تفريط و لكل مقام مقال.
الصوت الجميل هو أحد العوامل التي من خلالها يتقبل الجمهور والمستمعين الأعمال الفنية، ولكن بكل تأكيد هذا الصوت يحتاج إلى عوامل أخرى تسانده مثل مسألة الذوق في اختيار اللحن أو الكلمة أو أسلوب المعالجة أو اختيارالطبقات الصوتية المناسبة التي من خلالها سيؤدي هذه الكلمات، ومن هنا نستطيع أن نعترف بأن الوسط الغنائي تفوق في هذا الدور حيث نجد أن الأصوات الجميلة تجد من يقومها ويرشدها ويساعدها، فهناك مجموعة تلتف حول المطرب من مؤلف أو شخص يختار الكلمات وكذلك ملحن وموزع موسيقي ومدير تنفيذي وأحيانا مستشار فني وأدبي ومهندس صوت بالاضافة إلى طاقم الانتاج والعاملين في الدعاية والاعلان والتسويق، ومما يلاحظ عند بعض المنشدين أنه يتكفل باختيار اللحن أو التلحين لنفسه وهو لا يعرف النوتة الموسيقية أو المقامات الصوتية أو حتى الموسيقى نفسها ويأمل أنه ينافس ما هو مطروح في الساحة الفنية، كذلك يقوم باختيار الكلمات وهو ذو ثقافة بسيطة، كذلك هو يختار الموزع الذي عادة ما يكون هو مهندس الصوت في نفس الوقت، والمستشارين الفنيين هم أهله وأصدقاءه، وكل ذلك يؤدي إلى نتيجة أن العوامل الأخرى التي تساعد في نجاح النشيدة ضعيفة، تُفشل الأداء وتضعف الصوت الجميل، نخلص من هذا القول أننا لسنا بحاجة إلى أصوات جميلة فقط ولكننا بحاجة إلى ثقافة المنشد وذوقه بالدرجة الأولى ونحتاج إلى الملحن المبدع والمؤلف المتمرس والموزع الموسيقي المختص ومهندس الصوت الأكاديمي والمدير التنفيذي المجتهد والمستشار الفني صاحب الخبرة وطاقم الانتاج والتسويق لأننا نحن المنشدين أحيانا نشكل نشازا فيما يسمى بالفن الاحترافي.
هناك الكثير من المنشدين المتميزين الذين يملكون ما لا يملكه صاحب الألبومات والاسم الفني المعروف، ولكن ما ينقصه هو تعرف الجمهور الى صوته المتميز، أو القناة التي من خلالها يستطيع ابراز نفسه على الساحه، ولكن المطلوب منه هو الثقة بقدراته وتنميتها وعدم الاهتمام بالظهور على حساب كيفية الظهور، لأن الظهور على الساحة الانشادية من أسهل الامور مقارنة بالاستمرار فيها، فاذا كنت تملك ما يميزك فاحرص على تنميته، عندها لزاما على المتذوقين والجمهور أن يطلبوا منك الظهور.
أسعى إليه فيعييني تطلبه *** ولوقعدت أتاني ليس يعييني
النقاد أكثر من الجمهور أحيانا وهذا ما تشهده ساحات المنتديات، ولكن النقد البنّاء قليل جدا مقارنة بالنقد الهدّام، ربما لتنوع المدارس الانشادية واختلافها في المنهجية وفي النوعية وغيرها من الفروقات التي قد تخلق آراء معاكسة الاتجاه، فالنقد بعيدا عن التجريح هو من الأدب، والنقد الذي يرقى من الأشخاص إلى الأفكار هو من الحكمة، والنقد ذو النظرة التفاءلية هو من العلم، أيها الناقد إن النقد علم للبناء وأصله التقويم، فمتى ما كانت آراءنا ذات أصول منهجية ولها خلفية مدروسة كانت ذات قبول أكثر من آراءنا التي تعبر عن مشاعرنا وانطباعتنا فقط، لا نغفل أمر مهم وهو أن النقد الفني في النشيد يختلف عن غيره، لماذا ؟ لأننا ننتقد مجتهدين يخطئون ويصيبون ونحن مسبقا نعرف أهدافهم السامية التي ترقى إلى أن تكون رسائل ذات قيمة ومضمون، فالتوجيه أنسب من التقريع، والتهذيب أجمل من التعنيف، فليس الهدف من النشيد أن تكون أعمالنا مجردة ومادية أو فنية بحتة أي ليس لها علاقة بالقصد الحسن أو بأصلها الدعوي والتربوي، لذلك فليكن نقدنا ذو أصول تدل على التربة التي نبتت منها هذه الانتقادات، حتى تؤتي ثمارها باذن الله تعالى.
وصمتك خير من إثارة فتنة *** فكن صامتا تسلم وإن قلت فاعدل
المنشد المتمكن هو الذي لديه " شيفره " خاصة به، ولديه خصوصية في الأداء والاختيار، ولديه رقمه السري الذي يستطيع به الدخول الى ساحة النشيد بكل ثقة، سواء كان هذا المنشد مبتدءا أو كان له أعمال سابقة، أحيانا تحتار في كيفية انشودة معينة أو شريط خاص بهذا المنشد المتمكن وتحتاج الى فترة لتصل الى نتيجة، فتجد أن لهذا المنشد كما ذكرنا " شيفره " خاصة به استطاع أن يفرض هذه الخصوصية على الذوق العام، ربما هذه الخصوصية تكون فطرية لا يتكلف بها هذا المنشد وتصبح " كريزما " في اعماله وأحيانا أخرى يكون هذا المنشد اكتسبها من خلال التجربة والتمرس، كذلك المنشد صاحب الرقم السري " المتمكن " لديه المرونة لتغييرها وهذا ما يسمى بـ " النضوج المستمر " ولا يعتمد على طريقة في الاداء أو توفيق في الاختيار أو غيرها من العوامل بل دائما ما يكون ناضجا يبحث عن عوامل لم يستخدمها تساعده في اضفاء التجديد وذلك حتى يكون ذو طلة متميزة كما يقولون.
جميلة هذه العوامل اذا اشتركت، فهي تداخل لثلاثة فنون : فن "النغمة واللحن" وفن "الصوت والأداء" وفن "الشعر والكلمة" ولكل فن منهم تخصصه وقواعده وقوانينه، وكلها أدوات للتعبير، تجتمع كلها في نشيدة. قد تتصارع هذه العوامل مع بعضها لتعكر صفو التعبير الصادق والتعبير المؤثر، فالكلمة أكثر هذه العوامل حساسية لأنها أداة ناطقة ؟؟ اذا فهي دقيقة ّ!! قد لا تقبل صديقها اللحن الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث الحساسية لأنه يخالفها ( شكلا أو مضمونا )، أما صديقهم الذي يجمعهم وهو الصوت والأداء لابد وأن يكون موضوعيا. فلا انحياز للكلمة على حساب اللحن ولا تحيز للحن على حساب الكلمة وأي اخلال في هذين الشرطين فان النتيجة غير عادلة للجميع، وفي النهاية لابد وأن يكون الأداء قادر على ضبط هذه العملية فهو القاضي والجاني والمجني عليه لدى المستمع ولدى جمهور النشيد.
الذوق بدأ يتغير وأسبابه ربما تكون معلومة، كما أن ثقافة المستمع تزداد مع وجود الوسائل المتعدده التي تزوده بكم من المعلومات، فلم تعد الأعمال البسيطة تلقى لها رواج، ولم تعد اعمال " قص ولزق " كما هي في السابق، بل الجمهور بدأ يميز الجيد من الممتاز والسيئ من الأسوأ وبدأ كذلك ينتقد ويعلق، وهذا له ايجابياته وسلبياته، لكن الذي نريد الوصول اليه هو أن المستمع للأناشيد لم يعد يشفع عنده اسم معين أو فرقة معينه بل يشده العمل المميز وتأخذه الجمالية في المعالجة والتوظيف، في السابق يشفع لشريط معين له صدى طيب في أوساط المستمعين لتميز أحد أجزائه، أما الآن فبدأ المسمتع يميز أي الاناشيد في الشريط الواحد تستحق الاستماع وتلقى لها رواج وانتشار.
هي مقالة للداعية الشيخ محمد أحمد الراشد وهي تنصح بضرورة الأخذ بالشدة بالتعلم وانا هنا قد قمت بتصرف مني لتحويل معناها الى ضرورة الأخذ بالتعلم في فنون النشيد وهي محاولة لاستخلاص القيم في المقال واسقاطها على واقع النشيد :
العلم بالتعلم، ولابد من أخذ النفس بالشدة ولأن يتملق أحدهم لمالك حكمة حتى يمنحها له خير له من أسمار الاقران، وهذا عصر ثورة العلم ومنهجية الاعمال، والعمق شرط للمضي في المنافسة، وما عادت الأحرف اليسيرة تؤثر أو ترشح صاحبها للارتقاء، بل المليء هو سيد الساحات وأبو المنابر، وما نظن أن حائز علم المقامات يستطيع تطويعه للنشيد ما لم يضف اليه علما في اللغة والادب والتاريخ وطبقات الصوت ومقدمات في التكنلوجيا الصوتية وهذا الشمول هو مظلة تأثيره في اوساط أهل الفن والمثقفين وبدونه يضطرب عرضه ويتوقف، الراضي بمنازل الهامش يمكنه الاقلال والركض وراء التقليد والشهرة، لكننا نريد قوم يريدون قيادة الناس ومعاكسة التيار ومقاومة الغزو ولهم هدف واصلاح وتغيير طواغيت استعبدت العلم وسخرته في تهييج العواطف والابتذال في الشكل و المضمون، ونسمي التعلم تعبا وهو لذة وعز وسبب احترام وجواز مرور وشهادة امتياز ووثيقة انتساب الى نادي النخبة.